هرب بشار الأسد، كاشفا جوهر نظامه القائم على التعذيب والمعتقلات والمسالخ البشرية، لكن السقوط السهل للنظام لا يعني انتقالًا سلسًا للسلطة.

قبل السقوط بعدة أسابيع كانت عديد من العواصم الغربية والعربية تتحضر لإعادة التطبيع مع النظام، فأغلب القوى الفاعلة في الشأن السوري كانت على شبه يقين بأن الأسد انتصر في المعركة، ولكن ما حدث كان معاكسًا تمامًا، إذ لم يلحظ أحد حجم الضرر والانهيار في مؤسسة النظام الأمنية، إذ عمل الأسد طوال الحقبة الماضية على تقويض مؤسسات الدولة السورية من خلال سياسة النهب على نطاق واسع، وتقوية الميلشيات على حساب الجيش، وحول سوريا إلى ورشة عملاقه لتصدير المخدرات «الكبتاغون» لدول الجوار.

وقد انعكس هذا الفشل بشكل واضح على الجبهة العسكرية من خلال بيروقراطية عسكرية غير فعّالة، وسلسلة قيادية ضعيفة وغير قادرة على اتخاذ القرارات. الأوامر لم تكن تصل إلى الجنود في الميدان، كما غاب التنسيق بين الخطوط الأمامية ومستودعات الإمداد والتخزين.

في مواجهة الهجوم السريع الذي شنته قوات المتمردين بقيادة هيئة تحرير الشام، عجز الجيش عن إعادة تنظيم صفوفه. على الأرض، امتنع عديد من الجنود عن القتال، وتعطلت الدبابات بسبب نقص الوقود، إذ تم بيع الإمدادات المخصصة لها في السوق السوداء من قبل الجنود وضباطهم الذين كانوا يعانون من تدنّي الأجور.

مع تقدم المعارك نحو مدينة حمص، رفضت الميليشيات العلوية الاستمرار في تحمل مزيد من الخسائر البشرية، ما أدى إلى تقويض قدرتها على الدفاع وغياب أي رغبة في مواصلة القتال.

امتناع الميليشيات العلوية عن القتال يمكن تفسيره من خلال تحليل سلوك النظام تجاه الطائفة العلوية ومطالبها بالتعويض عن التضحيات الكبيرة التي قدمتها دفاعًا عن بقائه. تشير بعض الإحصائيات إلى أن عدد القتلى من أبناء الطائفة تجاوز 100,000 شخص، وهو عدد كبير مقارنة بتعدادها. رغم هذا النزيف البشري الهائل، جاءت استجابة النظام بدرجة كبيرة من الاستهتار، إذ اقتصر التعويض في بعض الحالات على تقديم «سحارة برتقال»، وفي حالات أخرى على رأس غنم.

حدث آخر يمكن أن يساعد في تفسير ما جرى وهو اغتيال حسن نصر الله -الذي كان يتمتع بمكانة رمزية عالية، مع كامل القيادة العسكرية لحزب الله- الذي شكّل لحظة فارقة في إدراك التحول الكبير في موازين القوى، وأدى إلى انهيار الروح المعنوية لدى مقاتلي الميليشيات، وإيمانها بإمكانية الصمود ومواصلة القتال.

الطائفة في مأزق

وبعد سقوط النظام واستتباب الأمر للقوات المهاجمة بقيادة هيئة تحرير الشام وثّقت منظمات حقوقية عديدة، إلى جانب انتشار أخبار وفيديوهات، عددًا من الانتهاكات استهدفت أبناء الطائفة العلوية.

هذه الأحداث تعكس نزعة انتقامية تسعى إلى تحميل الطائفة تبعات إجرام النظام، وهو ما يمكن فهمه في سياق التحريض الطائفي الذي ساد لفترات طويلة أثناء الثورة، إذ عملت كثير من الأطراف الداخلية والخارجية المنخرطة في الصراع على ترسيخ وعي زائف قائم على أن النظام يمثل الطائفة العلوية حصرًا.

في سابقة هي الأولى من نوعها، خرجت مظاهرات في مناطق علوية رفعت شعارات طائفية، لم تكن الشعارات المرفوعة ضد الطوائف الأخرى، ولكن جاءت كتعبير عن تضامن الطائفة في مواجهة حملات الازدراء والاستهانة، والقول بأنها على استعداد للمواجهة والدفاع عن النفس.

الحدث المباشر لتحريك تلك المظاهرات كان إحراق مقام علوي في حلب هو مقام زعيم الطائفة التاريخي الحسين بن حمدان الخصيبي، الحادث في حد ذاته لم يكن ليترك أثرًا، فسابقًا تم إزالة كثير من المقامات الدينية العلوية، أما في السياق الحالي فيبدو أن هذه المظاهرات تحمل دلالات أعمق.

يجب التفريق بحسم بين المظاهرات التي خرجت سلميًّا وبين أحداث العنف التي أقدم عليها عناصر النظام السابقون المتورطون في أعمال إجرامية بحق السوريين، فالأخيرة تهدف إلى زعزعة الاستقرار، ومحاولات تأجيج العنف لأنه السبيل الوحيد للإفلات من العقاب ويرجح تورط إيراني في الأحداث في محاولة يائسة للقول إنها ما زالت أحد الفاعلين على الساحة السورية، أما الأولى فهي بداية تعبير عن وعي جمعي بكيان ينسجم مع توجهات السلطة الحالية التي تنحو إلى إقامة دولة على أساس علاقة مع مكونات المجتمع السوري.

الطائفة في ظل الأسد

قام حافظ الأسد بإعادة تشكيل البنية الاجتماعية والسياسية للطائفة العلوية في سوريا، متجاوزًا طبقة الأعيان التقليدية ومُعيدًا ترتيب هياكلها الداخلية عبر إحلال طبقة جديدة من الضباط الكبار الذين أصبحوا واجهة الطائفة ومركز ثقلها. وقد نجح في تحويلها إلى عصبية طائفية، وفق المنظور الخلدوني، تقوم على مخيال جمعي مشحون بهاجس تهديد وجودي متخيَّل، وتُدار عبر شبكات زبائنية معقدة ومتشابكة. كما عمد إلى تلطيخها بدماء السوريين بمختلف انتماءاتهم لتعميق ارتباطها بالنظام وترسيخ انقسام المجتمع.

في المقابل، استغل النظام الإيراني سنوات الثورة لتعزيز نشاطه التشييعي داخل أوساط الطائفة العلوية. ورغم إخفاقه في إحداث تحول جذري في البنى الاجتماعية والعقدية للطائفة، فإنه تمكَّن من ترسيخ بؤر نشيطة ومنظمة تدور في فلكه وتخدم أجندته.

ومع سقوط النظام، باتت شريحة واسعة من المستفيدين من تلك الشبكات، خاصة الموظفين العموميين الذين استفادوا من التعيينات الطائفية، دون مصادر دخل مستقرة. لذلك فإن ترك هؤلاء فريسة الخوف من المجهول سيدفعهم إلى الانخراط في مشاريع مضادة تُغذيها أطراف داخلية وخارجية، ما يهدد بتعميق الانقسامات القائمة ويزيد من هشاشة المشهد الراهن.

هذا الواقع يضع تحديًا كبيرًا أمام السلطة الجديدة. إذ يحتم عليها التعامل مع الآثار الاجتماعية الناجمة عن سقوط النظام، والعمل على منع تحول الطائفة إلى كيان جماعي يستند إلى خطاب المظلومية التاريخية، لقطع الطريق أمام أي محاولات لاستغلال الطائفة كمرتكز لتدخلات خارجية أو كذريعة لزعزعة الاستقرار الداخلي، ومراجعة رؤيتها للمجتمع السوري من زاوية مكونات وجماعات فالتجارب المماثلة التي نشأت على نفس الفكرة كالعراق ولبنان انتهى بها المطاف إلى دول فاشلة وحروب أهلية.

سقوط الخارج

سقوط النظام عسكريًّا ألغى أي دور فعلي للمعارضة الخارجية التي كانت تعاني منذ البداية من ضعف الثقة في أدائها وخياراتها السياسية. فمنذ تشكيل «المجلس الوطني السوري» برئاسة برهان غليون، ركزت المعارضة في استدعاء التدخل الخارجي بدلًا من بناء قوة سياسية داخلية. لاحقًا، ظهرت أجسام معارضة أخرى مثل «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، الذي ظل رهينًا لتبعيته لدول إقليمية.

الائتلاف وصل إلى حالة من الإفلاس السياسي، تجلّت في افتقاره إلى خطط أو تصورات لسقوط النظام. لم يكن مستعدًّا لأي سيناريو مشابه، ولم يتوقع انهيار النظام. حاول في البداية تعزيز شرعيته عبر الاعتماد على القرارات الدولية، لكنه قوبل برفض شعبي واسع. لاحقًا، عدّل خطابه بالإعلان عن استعداده للعمل مع الحكومة المؤقتة، ولكن هذا التوجه لم يغير من الواقع شيئًا.

اليوم، يبدو أن الجيل السابق من رموز المعارضة قد فقد تمامًا أي تأثير فعلي. ليس من المبالغة القول إن أيًّا منهم قد يعجز عن إقناع حتى عشرة أشخاص باتباعه أو الالتفاف حول رؤاه.

يسار خارج المشهد

يقدم المناضل اليساري عمار ديوب تصورًا عامًّا لواقع القوى اليسارية في سورية حاليًّا حيث يرى أن الوضع الحالي للقوى اليسارية في سوريا يعكس تراجعًا كبيرًا عن دورها التاريخي مع اختلاف جذري في التوجهات والانقسامات بين المجموعات المختلفة، فالأحزاب اليسارية التقليدية مثل حزب خالد بكداش، الذي كان ضمن الجبهة الوطنية التقدمية المتحالفة مع النظام، تبرر تحالفها بتقديم القضايا الاقتصادية على الحقوقية والسياسية، واستمر هذا التحالف حتى النهاية في الحرب ضد الشعب السوري، ما أفقدها مصداقيتها، أما الأحزاب اليسارية خارج السلطة مثل حزب العمل الشيوعي، فقد تحول إلى تبني المسألة الديمقراطية، وأصبح أقرب إلى الطرح الليبرالي من الناحية العملية، مبتعدًا عن النهج اليساري التقليدي.

التيار التروتسكي المرتبط بتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردي (PYD) وحركة قسد (قوات سوريا الديمقراطية) يركز في القضايا الحقوقية، لكن طغيان التوجه القومي الكردي عليه يضعفه في الأوساط العربية. تنظيم الإرادة الشعبية بقيادة قدري جميل، الذي كان قريبًا من النظام وشغل منصب نائب رئيس الوزراء، تواجه عودته إلى النشاط عقبات أبرزها الموقف السلبي من قدري جميل نفسه، الذي يعتبره كثيرون شخصية جدلية وغير موثوقة.

أما المجموعات الشابة اليسارية الحديثة التي تنتمي إلى الثورة وتتبنى مطالب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، فهي ترفض الالتزام بأيديولوجيات شيوعية أو اشتراكية صارمة، حيث ينصب نشاطها على الدفاع عن حقوق الطبقات الكادحة، لكن قدرتها على تقديم برامج سياسية فعّالة سيحدد مدى تأثيرها المستقبلي، ويعكس هذا التشتت أزمة فكرية وتنظيمية في صفوف اليسار السوري، حيث تتباين الأولويات بين القضايا الاقتصادية، الديمقراطية، والهوية القومية، ما يجعل إعادة بناء دور حقيقي وموحد لهذه القوى تحديًا كبيرًا.

إسرائيل ليست بعيدة

بعد 7 أكتوبر، أصبحت المقاربة العسكرية والأمنية الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو تتمثل في استغلال الأوضاع الحالية كفرصة تاريخية للتوسع والاستيطان. يروج نتنياهو بأن سياسته تهدف إلى ضمان «أمن إسرائيل»، بينما يدعي الإعلام الإسرائيلي أن من يسيطر على السلطة في دمشق هي جهات إسلامية متطرفة تحمل نفس أيديولوجية حركة حماس. بناء على ذلك، فأي تحرك مقاوم من السوريين يُوظف لدعم هذه النظرية الأمنية وتبرير الإجراءات الإسرائيلية.

ما تقوم به إسرائيل من احتلال لأراضٍ سورية واعتداء على مواطنين سوريين ليس مرتبطًا بالقضية الفلسطينية أو موقف مبدئي من إسرائيل فقط، بل هو شأن سوري بحت يتعلق بالسيادة الوطنية. لذلك، على السلطة السورية الجديدة أن تتعامل معه كقضية سيادة وطنية غير قابلة للتجاهل.

في الوقت الحالي، يميل المزاج العام في الشارع السوري إلى تجنب أي صدام عسكري مع إسرائيل، كما تسعى السلطة الجديدة في دمشق إلى تأجيل المواجهة المباشرة إلى مراحل لاحقة. هذا الموقف متفهم في إطار مرحلة انتقالية تحتاج إلى تركيز الجهود في بناء الاستقرار الداخلي، ولكن من المتوقع أن تجد السلطة الحالية أنها أمام استحقاق وطني لا يمكن المماطلة في مواجهته، خاصة مع وجود قيادة في إسرائيل تعتمد على إشعال الحروب لنجاتها.

إحدى النقاط الإيجابية الناتجة عن التوسع الإسرائيلي هي انهيار المزاعم التي روجت لفكرة أن «السلام والتطبيع» هي السبيل الوحيد للتعامل مع إسرائيل. ما يظهر للسوريين بوضوح اليوم هو أنهم أمام كيان توسعي استيطاني يعتمد على الفوضى والحروب الأهلية في الدول المجاورة.

بناء الدولة الوطنية الديمقراطية هو السبيل الوحيد لمواجهة هذا التحدي الخارجي، إلى جانب معالجة التحديات الداخلية العديدة.