رؤى

راجي مهدي

مصير الحرب الإسرائيلية على لبنان

2024.11.23

تصوير آخرون

مصير الحرب الإسرائيلية على لبنان

 

تسع نطاق الحرب بين حزب الله والكيان الصهيوني وصار بلا ضوابط أو أسقف، استمر الحديث عنها منذ دشن الحزب جبهة إسناد المقاومة الفلسطينية يوم الثامن من أكتوبر من العام الفائت. كانت تلك الضوابط أو الأسقف مبنية على وهم اعتقد الحزب صوابيته، وهو عدم قدرة الصهاينة على فتح جبهة حرب واسعة على حدودهم الشمالية في نفس الوقت الذي يخوضون فيه قتالًا مريرًا مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وهو وهمٌ بُني على أساس إنجاز حرب تموز/يوليو 2006 حين فشل الجيش الصهيوني في كسر الحزب أو خلق حزام أمني في الجنوب اللبناني، حرب تلقت فيها الصهيونية صفعة مدوية وأهينت فيها قوات نخبته على أيدي مقاتلي المقاومة اللبنانية المتمرسين.

غير أن السياق الحالي يختلف تمامًا عن سياق حرب 2006، والطبيعة الإستراتيجية للغزوة الصهيونية الحالية كان من المفروض أن تدخل في اعتبارات الحزب وهو يرسم مسار عملياته وتكتيكه وإستراتيجيته وهو يفتح جبهة إسناد غزة. بداية، كان هدف الإسناد كف يد إسرائيل عن الانفراد بالمقاومة في جبهة غزة، الجبهة التي تفرض عليها الأوضاع الجغرافية والديموغرافية والسياسية حدودًا لقدرتها على مجابهة هذا الحجم من العدوان الصهيوني والكثافة النيرانية التي سلطها الصهاينة على القطاع منذ هجوم السابع من أكتوبر. ثانيًا، كان حجم الهجوم يعني بداهة أن إسرائيل لن يكبحها شيء في طريق تقويض الوجود المسلح في قطاع غزة وتقويض قدرة غزة على النهوض العسكري من جديد، النقطة الثالثة هي أن سحق المقاومة الفلسطينية في غزة لا يمكن إلا أن يمثل تهديدًا لكل قوة ترفع لواء مقاومة الوجود الصهيوني في المنطقة، رابعًا، تعرض الردع الصهيوني لضربة قاتلة في أكتوبر الفائت، ترميم هذا الردع هو مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى مستقبل المشروع الصهيوني برمته من حيث هو قاعدة متقدمة للإمبريالية، قاعدة يُفترض أنها وصلت إلى درجة من المنعة قادرة على كبح كل تصورات لخصومها الإقليميين حول هجوم عليها، لكن الهجوم حدث وعلى نطاق غير مسبوق محققًا نجاحًا تكتيكيًّا غير مسبوق ألزم إسرائيل بمستوى من الاستجابة المسعورة لا على جبهة غزة وحدها، بل في كل اتجاه يحمل تهديدًا لإسرائيل.

كان الهدف المعلن لفتح جبهة إسناد الحزب هو كما قلنا منع الانفراد بغزة، لكن مصطلح الإسناد نفسه تحول عبر العام الفائت إلى صنم مزروع في وسط طوفان عارم، تصطدم به حقائق شديدة الوضوح، أهمها انفلات إسرائيل ومن ورائها القوى الإمبريالية جميعها ما يعني أن إسرائيل لن تتعرض لما يكفي من الضغوط التي تجبرها على الحد من عدوانها. بالإضافة إلى هذا فإن الإسناد الملتزم بقصف الشريط الحدودي والجليل الأعلى لم يجبر الصهيونية لا في بداية الحرب ولا بعد ذلك على تجميد ما يكفي من القوات في الجبهة الشمالية بما يهدد العمليات في قطاع غزة، ناهيك عن أن سلاح الجو الصهيوني اضطلع بالجهد الرئيسي قبل الهجوم البري على غزة. في المجمل كان واضحًا للجميع -بما فيهم الحزب- أن جبهة الإسناد برغم تهديدها المستمر لمستوطني الشمال المحتل لم تؤثر في مسار الحرب على جبهة القطاع.

غير أن الحزب كان مجبرًا على خيارات كلها مرة، إما الصمت فيفقد السلاح شرعيته على مرأى من غزة التي تفقد قدرتها على القتال وعلى الحياة، وإما الحرب المفتوحة بما يحمله هذا الخيار من احتمال دمار هائل عرفه لبنان في جولات قتاله الماضية مع العدو الصهيوني، غير أن الأخطر في هذا الخيار بالنسبة إلى الحزب هو افتقاد دعم إيراني، على الرغم من موقف إيران منذ البداية في تصريحات عدة لوزير خارجية إيران الراحل حسين أمير عبد اللهيان والتي أكد فيها حرص إيران على سلامة لبنان. إن رفع الغطاء الإيراني عن الحزب في حرب مفتوحة إنما يعرضه لأخطار ضخمة. فوق هذا فإن لبنان داخليًّا وعلى مدار سنوات قد عانى من أزمات سياسية واجتماعية استطاع الحزب الطفو فوقها بقوة سلاحه وشبكات أمانه الاجتماعية والمالية. إن غياب التوافق الداخلي حول مشروعية المقاومة إنما يهدد بتكرار مشاهد الاجتياح الصهيوني عام 1982 حين كان شطر من اللبنانيين يقاتل الصهاينة بينما شطر آخر يفاوضهم ويعاونهم. وقد اختار الحزب الخيار الوسط، لا انخراط كامل في الحرب يستدعي هجومًا صهيونيًّا في العمق ولا صمت كامل يستتبع زعزعة مشروعية مشروع الحزب بأكمله.

ربما كان هذا الموقف الوسط أكثر كلفة على الحزب وعلى لبنان وعلى المقاومة الفلسطينية من الخيارين الآخرين. فالتزام الحزب بسقفه المنخفض أتاح لإسرائيل جزءًا من الوقت لشد الحبل على عنق غزة بينما تكفل مسلسل المفاوضات الهابط بتوفير الجزء الباقي، في نفس الوقت، وفر دخول الحزب الحرب حتى بهذا السقف المنخفض الغطاء لعمل إسرائيلي دقيق يستهدف بنية الحزب التنظيمية في ضربات لا تلتزم بأي سقف في بيروت والبقاع والشمال والجنوب، ضربات تصاعدية أغرت ردود الحزب الهزيلة عليها إسرائيل بمزيد من التمادي، وبينما كان الشهيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب يشدد على تمسك المنظمة بالأسقف المحددة سلفًا كانت إسرائيل تتعمد رفع السقف إما لإجبار الحزب على وقف إطلاق النار وإما لجره إلى توسيع النيران. كان اغتيال فؤاد شكر قائد الجهاز العسكري للحزب تطورًا نوعيًّا لم يواجهه الحزب بما يلزم، وهو تطور كان يعني أن إسرائيل ذاهبة إلى آخر الخط الذي لم يتصوره الحزب. تفخيخ البيجر، اغتيال قادة وحدة الرضوان، وصولًا إلى استهداف الأمين العام حسن نصر الله في ظل فوضى تنظيمية عارمة نتجت من اختراق منظومة اتصال الحزب.

باغتيال نصر الله فقط، بدأ الحزب يخوض الحرب بلا ضوابط، لكن في أسوأ لحظاته التنظيمية على الإطلاق، والأخطر أن حجم الاختراق الاستخباري الحادث إنما قد يعني صحة الادعاءات الصهيونية حول تدمير مخازن صواريخ دقيقة وطويلة المدى للحزب، بما يعني المس بقدرة الحزب على استهداف العمق الصهيوني في حرب طويلة. من جهة أخرى فتحت الضربات التي تلقاها الحزب وأدت إلى استشهاد قيادته العليا بالكامل وبعدها استشهاد هاشم صفي الدين المرشح لخلافة نصر الله في قيادة الحزب، فتحت لحظة الضعف تلك الطريق للتناقضات الداخلية اللبنانية التي كان فائض قوة الحزب يسترها، لتعلو أصوات في لبنان عن حرب يدفع ثمنها اللبنانيون من دون أن يكون لهم فيها شيء، ويتفاوض نجيب ميقاتي على تطبيق القرار 1701 القاضي بدفع الحزب إلى ما وراء الليطاني وتسليم الجيش اللبناني أمن الجنوب، وهي تعليقات تتماهى مع تعليقات نتنياهو وأفراد طغمته عن لبنان متحررًا من سيطرة حزب الله، داعيًا اللبنانيين إلى عزل الحزب ومطاردته. هكذا كان مقصودًا أن يفقد الحزب اتزانه عبر ضربات دقيقة، ويفقد قيادته الكاريزمية الوازنة، بما يُحدث خللًا في التوازن الداخلي اللبناني، وهي لعبة غير جديدة مارستها إسرائيل وسوريا من قبل في لبنان، مرة في 1976 حين ضرب الجيش السوري القوات المشتركة للحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية من أجل فرض هيمنة سوريا على القرار اللبناني، ومرة أخرى في حرب 1982 حين أُجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة لبنان بما أضعف عسكريًّا اليسار والحركة الوطنية اللبنانية، ما أدى في النهاية إلى تمرير انتخاب بشير الجميل وتمرير اتفاق سلام لبناني إسرائيلي.

يخوض الحزب قتالًا مستبسلًا في الجنوب اللبناني ضد المحاولات الصهيونية للتوغل على أكثر من محور، بينما تستمر الغارات الصهيونية على بيروت لضرب الجهاز العصبي للحزب وللفصائل الفلطسينية -اغتيال قادة الدائرة العسكرية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان نضال عبدالعال وعماد عودة- واستمرار قصف بعلبك والبقاع بشدة لقطع طرق إمداد الحزب عبر سوريا بالإضافة إلى استهداف المطارات السورية لمنع إمداد سوريا نفسها. بينما تدور المفاوضات التي تطالب فيها إسرائيل بمطالب المنتصر الذي لم ينتصر بعد، بهدف فرض الاستسلام أو تمديد الحرب، والهدف الرئيسي في لبنان فرض وقف إطلاق النار على جبهة الشمال فقط وهو ما يمثل في حد ذاته -إذا قبل به الحزب- هزيمة له بعد أن ربط منذ البداية وقف إطلاق النار على جبهة الشمال بوقف إطلاق النار في غزة، وهو موقف يحمل في حد ذاته تسليمًا من الحزب بهزيمة غزة. غير أن إسرائيل لم يعد يعنيها وقف إطلاق النار في حد ذاته، بل ترتيبات جنوب لبناني خاضع ومنزوع السلاح وهي ترتيبات سوف تترك أثرها الأكيد على الداخل اللبناني إذ إنها سوف تهدد ما تبقى من هيبة الحزب ونفوذه المحليين ما يغري حلفاء الإسرائيلي في الداخل اللبناني بشن هجوم على الجبهة الداخلية للتخلص من تأثير الحزب في السياسة اللبنانية.

لا نعتقد أن الحزب سوف يقبل بـ 1701 الآن على الأقل، بالرغم من عدم توافر معلومات عن مدى تضرر قدرات الحزب الصاروخية جراء الضربات الصهيونية، فإن قدرات الحزب البرية متماسكة، وتراث الشعب اللبناني المقاتل في وجه الصهيونية يعني أنه على الأرض لن يواجه الصهاينة مقاتلي الحزب فقط بل عشرات الألوف من اللبنانيين الذين قاتلوا أو قاتل آباؤهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم في 2006 و2000 و1982 و1978، وعلى الأرجح فإن الحرب اللبنانية لا زالت تتلمس بداياتها، وأن أوان حسمها لم يحِن ولن تتضح معالم هذا الحسم إلا في إطار المنازلة الصهيونية الأمريكية مع إيران، وهي منازلة سوف تتضح مراحلها المقبلة مع تنصيب ترامب ممثلًا جديدًا لمصالح الإمبريالية الأمريكية المأزومة، والتي لا نظن أن أزمتها سوف تدفعها إلى التراجع قبل تسوية الأوضاع في الإقليم تسوية طويلة المدى، تسوية تمثل تهديدًا جديدًا لمصالح شعوب تلك المنطقة.