رؤى
محمود هدهودسوريا أمام تحدي الدولة
2024.12.14
تصوير آخرون
الأمير الحديث: سوريا أمام تحدي الدولة واستعادة السيادة
يؤرخ عادة لمولد الدولة القومية الحديثة كما نعرفها اليوم بصلح ويستفاليا سنة 1648. أنهى الصلح -المنسوب إلى المقاطعة الألمانية التي عقد فيها- حربًا أوروبية شاملة، قدمت نموذجًا مبكرًا للحربين العالميتين في القرن العشرين، وامتدت لثلاثين عامًا كما صارت تعرف لاحقًا بـ"حرب الثلاثين عامًا". بدأت الحرب كصراع أهلي ضمن الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وانتهت إلى وضع أسس تفكيك الإمبراطوريات إلى دول ذات أساس شبه قومي، تتمتع بالسيادة بغض النظر عن السلالة العائلية التي تزعم الحق في حكمها.
كان للظروف الجغرافية والوحدة السياسية التاريخية أن تساعد عددًا من البلدان على إتمام تحولها المبكر إلى دولة قومية، كما كان الحال بالنسبة إلى إنجلترا وفرنسا، وربما إسبانيا والبرتغال، لكنَّ دولًا أخرى احتاجت إلى قيام فاعل سياسي محلي بمهمة التوحيد القومي، كما كان الحال بالنسبة إلى القوميتين المتأخرتين تاريخيًّا: ألمانيا وإيطاليا. فالأولى ظلت عبارة عن مجموعة من المقاطعات والممالك والإمارات الصغيرة، إلى أن قامت مملكة بروسيا تحت قيادة وزيرها بسمارك، بتوحيدها (توحيد ألمانيا) فيما عرف بنشأة الرايخ الثاني سنة 1870. وفي العام نفسه تقريبًا، أتمت مملكة سردينيا توحيد المدن الإيطالية تحت حكم فيوتوريو إيمانويل الثاني، ووزيره المحنك الكونت كافور.
حتى في حالة إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، فقد تطلب توحيد تلك البلدان حملة عسكرية وشعبية توحيدية قادها إقليم محلي لبناء تلك المملكة الموحدة. كان توحيد فرنسا نتيجة للحملة التي قادها كلوفي ملك الفرانك القادم من مقاطعة أوستراسيا بين عامي 481-511. أما إنجلترا، فلم تتوحد إلا في نهاية القرن التاسع على يد ملكها ألفريد العظيم القادم من إقليم الساكسون الغربي. واحتاجت مملكة قشتالة الصغيرة إلى قرون من الحرب مع العرب حتى تنجح في توحيد إسبانيا.
لم تحظَ الدول العربية بتلك الفرصة في إقامة وحدتها. ربما تمثل مصر حالة خاصة من بين تلك الدول، نظرًا إلى الطبيعة الجغرافية والوحدة السياسية التاريخية التي جعلت منها دولة مركزية تتمتع باستقلال فعلي على مدى تاريخها، حتى في عهود الضعف أو الخضوع لحكم إمبراطوريات دينية أوسع. أما في الهلال الخصيب مثلًا، فقد ولدت الدولة من رحم تفاهمات استعمارية انعقدت بين الحربين العالميتين.
سوريا الموحدة
بعد الاحتلال الفرنسي للشام، حاول المندوب الفرنسي الجنرال هنري غورو تقسيم الشام/سوريا إلى ست دويلات على أساس طائفي. فبجانب لبنان الكبير، أراد الجنرال الفرنسي منح دولة للعلويين على الساحل السوري بين اللاذقية وطرطوس، ودولة للدروز في السويداء، وفصل لواء الإسكندرونة الذي سيطرت عليه تركيا لاحقًا. حتى سائر الأراضي السورية التي كانت تتمتع بأغلبية مسلمة سنية، فإن غورو أراد تقسيمها أيضًا بين المركزين المدينيين الأكبر في سوريا وهما دمشق وحلب.
رفض السوريون مخطط الانقسام، وطالبوا بوحدة أراضيهم التي تحتمها الجغرافيا والتاريخ، وقبلهما إرادة السكان للعيش المشترك في دولة موحدة. لم يغِب القلق لدى الأقليات من تبعات هذا التوحيد، ووافقت بعض نخبها على خطة التقسيم خوفًا من الاضطهاد الطائفي (تمثل ذلك تحديدًا في خطاب بعض أفراد النخبة العلوية سنة 1932 لمطالبة الإدارة الاستعمارية بالتمسك بالتقسيم)، لكن الأغلبية، بما في ذلك من العلويين أنفسهم، أرادت الوحدة ليس لأسباب وطنية فحسب، وإنما أيضًا بإدراك فطري لواقعة الاحتياج إلى تعبئة الموارد الشحيحة للبلاد وتوحيد سوقها الوطني إذا ما كان لها أن تشكل اقتصادًا حديثًا قادرًا على نقل السكان من اقتصاد الكفاف البدائي إلى اقتصاد الإنتاج السلعي الحديث. لنبسط ذلك، تخيل نفسك تاجرًا علويًّا من اللاذقية، فإنك بلا شك تقلق من هيمنة الشيخ الحلبي عليك دينيًّا وتعامله معك كخارج عن الملة، لكنك في نفس الوقت تريد أن تحافظ على موقعك كممر للتجارة القادمة من أوروبا، وتمريرها إلى حلب الثرية، ما يعود عليك بمنافع اقتصادية، بل وثقافية أيضًا.
لقد فوَّت الاستعمار على بلادنا مهمة التوحيد القومي، لكنه لم يلغها في الواقع، وإنما أرجأها فحسب. من هذه الناحية، يمكن النظر إلى تاريخ سوريا الممتد كتاريخ من البحث عن الأمير الحديث، أي ذلك الطرف المحلي القادر على إنجاز مهمة التوحيد القومي لسوريا، وبناء الدولة القومية الحديثة فيها، القادرة على حماية سيادتها. عاشت سوريا سنواتها الأولى في معاناة سياسية بفعل غياب الدولة القادرة على إنجاز مهمة التوحيد القومي وتفكيك البنى الاجتماعية البدائية بنقل السكان إلى اقتصاد إنتاجي حديث ضمن سوق قومي موحد تدعمه مؤسسات وبيروقراطية فعالة.
في هذا الصدد، كانت السنوات الأولى لحكم حافظ الأسد واعدة، فقد نجح العسكري القادم من ريف اللاذقية في إعادة وصل العلاقات التي تقطعت بين السلطة في سوريا والنخبة التقليدية في دمشق وحلب. كما خفّ التنافس بين المركزين الأكبر في سوريا بعد سنوات من التقلبات التي قطعت أمل الحلبيين في وحدة الهلال الخصيب وانتهت إلى تسليمهم بحكم دمشق. بجانب ذلك، تفككت النخبة الإقطاعية، خاصة في حمص وحماة واللاذقية، بعد الإصلاح الزراعي الذي أقره حكم الوحدة سنة 1958.
ورغم البعثية الرسمية التي تمسك بها الأسد، بدا الرجل خلال سنوات حكمه، خاصة بعد التدخل السوري في لبنان، أقرب ما يكون إلى قومي سوري يسعى إلى وحدة الهلال الخصيب، ويناصب النظام البعثي في العراق العداء على أمل إمبراطوري غامض بأن يأتي اليوم الذي يتوحد فيه الجاران اللدودان تحت حكم السلالة الأسدية.
نهاية السيادة
سرعان ما تردَّى المشروع الأسدي إلى جحيم نظام طائفي ضارٍ يتغذى على شعبه ويناصبه العداء. ورغم مناورات بشار الأسد في السنوات الأولى من حكمه، انتهى المسار بالابن إلى حيث انتهى بأبيه، حيث الفشل الاقتصادي نفسه وانسداد الأفق السياسي وتصاعد وتيرة الضراوة والطائفية.
أتت الثورة السورية لتعمق التفكك السوري أكثر فأكثر. قادت الثورة إلى حرب أهلية، تمامًا كما وصف لينين الثورات العظيمة، أعادت إلى السطح حقيقة أن مهمة التوحيد الوطنية لم يجرِ إنجازها في سوريا إلى اليوم. فقد اختار الدروز النأي بالنفس في جبلهم جنوبي دمشق، واستخدم النظام علويي الساحل كقاعدة شعبية في مواجهة الثورة التي حاول النظام تصويرها كهبة طائفية سنية متطرفة، ووجدت الأقليات المسيحية نفسها مضطرة إلى الاختيار بين الهجرة أو التمترس وراء دولة الأسد وعلمانيتها المزيفة، أما الأكراد فقد اختاروا شق طريقهم بأنفسهم عبر تشكيل ميليشياتهم الخاصة والتحالف مع الولايات المتحدة.
لقد فقدت سوريا سيادتها، ليس في نظر المجتمع الدولي فحسب، وإنما في نظر أطرافها المتصارعة أنفسهم، بحيث لم تعُد استعادة السيادة على رأس أولوية أي منهم. فقبيل سقوط بشار الأسد، كان في سوريا نحو 600 موقع عسكري إيراني، وأكثر من 100 موقع روسي، ومثلها للأتراك، و32 موقعًا عسكريًّا تابعين للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
أما من ناحية الأطراف السورية، فقد تحالفت الميليشيات الكردية التي أطلقت علي نفسها قوات سوريا الديمقراطية مع الولايات المتحدة وبسطت سيطرتها على كامل الأراضي السورية شرقي نهر الفرات أي ما يمثل نحو ثلث مساحة سوريا، حيث يعيش نحو نصف مليون نسمة.
أما الساحل السوري، فيمثل معقل الطائفة العلوية في سوريا التي تشكل أغلب سكان تلك المنطقة ومدينتيها، اللاذقية وطرطوس. وتحظى روسيا بوجود عسكري قوي في تلك المنطقة، كما ترى تواجدها فيها ضرورة إستراتيجية لها لضمان نفوذ مباشر في البحر المتوسط.
تشكل هاتان المنطقتان التحديين الرئيسين في وجه أي حكومة مركزية تحكم سوريا من دمشق، فهي مضطرة إلى التفاهم مع روسيا من جهة، ومع قوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى، وتقديم تنازلات تنتقص من السيادة السورية حتمًا، وما من بديل لها سوى إعادة إشعال الحرب الأهلية من جديد.
يتضاعف تعقيد هذا المشهد بحكم دفع تركيا نحو تفكيك السيطرة الكردية شرق الفرات، ولا تمثل تركيا الداعم الأساسي للمعارضة السورية فحسب، وإنما ترعى بشكل كامل جزءًا من ميليشيا الجيش الوطني السوري الذي يشكل في الواقع رديفًا سوريًّا للقوات التركية التي تسيطر على شريط حدودي ممتد في الشمال السوري. ما يعني أن المعارضة ستتعرض لضغوط قوية لفتح تلك الجبهة مع الأكراد في لحظة ما. ومن جهة أخرى، فإن الميليشيات الكردية ستجد على الأرجح دعمًا قويًّا ليس فقط من الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما أيضًا من إسرائيل التي ترى مصلحة إستراتيجية لها في منع قيام دولة موحدة مستقرة في سوريا، كما قد ترى من المفيد لها شغل تركيا في الصراع مع الأكراد الانفصاليين في جنوبها عبر تأسيس دويلة كردية في شمال سوريا، ما يسهم في إضعاف تركيا وإفساح المجال لهيمنة إسرائيلية مطلقة على الهلال الخصيب.
أما محور حلب دمشق الذي يحتوي الأغلبية الواسعة من سكان سوريا، فيعاني هو نفسه من خطورة الانقسام السياسي. واقعيًّا، تسيطر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقًا) على هذا المحور، وتحظى بشعبية واسعة فيه، لكن ذلك الفصيل يلقى بالتأكيد معارضة من قبل سائر أطياف المعارضة في سوريا.
وقعت قطيعة فعلية بين تحرير الشام وسائر مكونات المعارضة السورية منذ سنة 2017، عندما رعت الهيئة تشكيل حكومة إنقاذ في إدلب كبديل من الحكومة السورية المؤقتة التي يقودها حاليًّا عبدالرحمن مصطفى وتمثل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. وكان الائتلاف قد حظي باعتراف عربي كممثل شرعي للشعب السوري منذ عام 2012، لكن هذا الاعتراف تراجع بمرور الوقت، خاصة بعد استعادة النظام سيطرته الفعلية على أغلب أراضي سوريا بعد التدخل الروسي سنة 2016.
بعد دخولها دمشق بيوم واحد، أعلنت الهيئة تعيين محمد بشير، رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب، كرئيس جديد للوزراء في دمشق. ورغم أن الإعلان لم يلقَ معارضة واسعة، فإنه أعطى مؤشرًا على أن الهيئة ليست في وارد التشاور مع أطياف سورية مختلفة، كما مثل رفع علم الهيئة بجانب علم الثورة السورية في مكتب رئيس الحكومة الجديد إشارة مزعجة لسائر مكونات المعارضة السورية.
وبوضوح، لقد أدت الحرب الأهلية السورية إلى تفكيك المعارضة السورية بقدر ما قادت إلى تفكيك النظام، ولم ينجح أي طرف سوري في الاحتفاظ بتماسكه سوى هيئة تحرير الشام التي استفادت من سيطرتها الفعلية على المنطقة المحررة الوحيدة من براثن الأسد، وهي إدلب، ونجحت الهيئة منذ 2019 في الانفراد بالنفوذ في تلك المنطقة بعد قمع الجماعات المسلحة المنافسة بقوة السلاح.
لا يعني هذا أن الهيئة في وضع مريح يسمح لها بالسيطرة على سوريا، فلا شك أن قضايا ذات حساسية واسعة ستصعد بمرور الوقت، على رأسها قضية التزام الهيئة الإسلامي بتحكيم الشريعة، وموقفها من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي السورية مع استمرار توغل القوات الإسرائيلية التي من المرجح أن تصل إلى الزبداني والقلمون غرب دمشق على الحدود مع لبنان للقيام بعملية أمنية تضمن تصفية أي خطوط إمداد ممكنة لحزب الله في لبنان، وفرض وقائع تضطر الحكومة السورية الجديدة أيًّا كانت هويتها إلى التفاوض مع الاحتلال الإسرائيلي من موقع الضعف، والتسليم مطلقًا بسيادة إسرائيل على الجولان، وبدء التفاوض على المناطق الجديدة التي احتلتها إسرائيل منذ 9 ديسمبر.