رؤى

راجي مهدي

حول العاصفة السورية

2024.12.22

تصوير آخرون

حول العاصفة السورية

 

سقط البعث، بعد 61 عامًا من صعوده للسلطة في انقلاب عسكري عام 1963. سقط البعث وقد كان الظن أنه لا يسقط بعد ما مر به من أنواء استطاع خلالها وبمزيج من الإرهاب الدموي والبراجماتية والبهلوانيات أن يخرج منتصرًا، وحتى مطلع الشهر الحالي، كان البعث يعطي الانطباع بأنه سيبقى ولو على شبر من التراب السوري، إلا أنه تهاوى وتهاوى جبروته كنمر من ورق، ليفتح سقوطه الدرامي مستقبل سوريا على عدة احتمالات في ظل ظرف محلي وإقليمي ودولي شديد التعقيد.

يواجه الشعب السوري الآن تحديًا شديد الدقة والتركيب، إنه التحدي الذي يفرضه سقوط أي سلطة بعد أعوام من النضال ضدها، تحدٍّ يتمثل في إدراك البديل المطلوب بالضبط أو كيفية ملء الفراغ الناجم جراء هذا السقوط، لكنه أيضًا تحدٍّ ينبع من تحديد موقع تلك السلطة في خريطة التناقضات الاجتماعية والسياسية السورية ودورها في خلقها وبالتالي البديل المطلوب. إلا أن هذا التحديد يفترض بداهة أن تكون خطوطه العامة محددة كما أن البديل المرجو يُفترض أن تكون خطوطه الرئيسية محددة أيضًا في إطار بناء ديناميكية التمرد ضد تلك السلطة وهذا النظام، لكن الواقع لا يسمح بذلك. فالقوى الاجتماعية التي تضررت من سنوات الحكم البعثي، وممثليها السياسيين المنظمين قد عانوا جراء عشرات السنوات من البطش والتنكيل والاحتواء، إضافة إلى أن تلك القوى نفسها قد عانت تناقضاتها الداخلية أيضًا. لقد جاء الانفجار الثوري في سوريا عام 2011 عفويًّا على غرار انتفاضات مصر وتونس، وأفسح عنف النظام المجال لأن تتحول الانتفاضة إلى فرصة لتحويل سوريا إلى ملعب لصراع إقليمي ودولي، ملعب يحتل في هذا الصراع الصدارة ليخفت صوت انتفاضة سُفك دمها بكل جبروت ودُهست طموحات السوريين تحت سنابك اللاعبين الإقليميين وممثليهم في الداخل السوري.

ما يضفي على هذا التحدي خصوصية أكبر هو أن عسكرة الصراع في سوريا والتسويات التي تمت في آستانا وقرار مجلس الأمن رقم 2254 كانت انعكاسًا لموازين قوة إقليمية لا تمثل السوريين سوى في صياغة مخرجات تلك التسويات والقرارات، استُبعد السوريون الذين اكتووا بنار القتال والذين تشردوا وتم تهجيرهم داخليًّا وخارجيًّا بينما يقتتل النظام والمعارضة للاستيلاء على الأرض ويسعى كل طرف لفرض سلطة أمر واقع. هذا الخلل في التمثيل، الناتج عن فراغ تنظيمي ضخم يُعد النظام هو المسؤول الأول عنه تاريخيًّا قد أفضى في البدء إلى حرمان السوريين من حقهم في تحديد مصير بلدهم، وكان هذا الاستبعاد هو الشرط الرئيسي الذي يحتاج إليه كلٌّ من النظام والمعارضة لفرض تمثيل مصالحهم فوق جثة حقوق الشعب السوري.

بالرغم من أن الحرب قد غطت كل الأرض السورية فإنها لم تنتج حالة شبيهة بحالة السيولة الحالية. كانت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تشهد كما مناطق المعارضة سيطرة حديدية وضعت السوريين تحت نفس الظروف القاهرة التي عاشوها تحت حكم البعث طوال عشرات السنوات من حكمه. لم يسمح الأسد بأقل قدر من التغيير في النمط الذي ورثه عن أبيه في جملة ما ورث، لا على مستوى السعي لدمقرطة المؤسسات ولو على سبيل المناورة ولا على المستوى الاقتصادي الذي اتسم بسيطرة أمراء الحرب، الذين ربطتهم علاقات تحالف بنظرائهم في مناطق سيطرة المعارضة التي حاولت محاكاة سلخانات البعث. وبدون الإغراق في تفصيل ما عاشته سوريا وترسيم التحالفات والتغيرات وخطوط التسوية عبر 13 عامًا من الأزمة، وبدون الدخول في تفاصيل الأيام الأخيرة من حكم البعث وكيفية تحلل سلطته على ما تبقى له من أرض، يظل من الضروري استكمال صورة التحدي الذي يواجهه الشعب السوري. فلأول مرة منذ صعود حركات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، يدور نضال شعبي في إطار اللادولة. لقد كفت الدولة السورية عن الوجود، على كل الأرض السورية منذ الانهيار الأخير للبعث، غير أن تلاشي الدولة لم يأتِ في ظل تصعيد النضال الشعبي السوري بل تحت وطأة ضربات جماعات مسلحة واختلال موازين القوى الإقليمية في غير صالح البعث وبقايا دولته. هذا يعني أن الدولة البعثية التي سامت السوريين العذاب واستبعدتهم من العمل السياسي لم تكف عن الوجود لصالح الجماهير السورية، بل إن تلك الدولة قد أخلت مكانها لصالح أبنية دولتية تسعى الجماعات المسلحة المعارضة ورعاتها الإقليميون إلى ترسيخها فيما يبدو كمعادلة صفرية، العامل المشترك فيها هو استبعاد الشعب السوري. إن هذه الوضعية إنما تضفي على التحدي المطروح هنا مزيدًا من التعقيد، إن إسقاط الدولة البرجوازية عبر النضال الشعبي إنما يفترض إما وجود مؤسسات شعبية بديلة تمارس السلطة بالفعل وتنمو باضطراد في كل أرض يخسرها النظام وتخسرها الدولة القديمة، ليس بالمفهوم العسكري ولكن بمفهوم حلول سلطة مدنية ومؤسسات مدنية جماهيرية محل السلطات والأجهزة المكروهة، وإما أن يستولي تحالف حاكم على الجهاز القديم للدولة عبر النضال ليستبدل به مؤسسات شعبية ديمقراطية وقاعدية. لكن المعضلة كما قلنا أن الدولة السورية لم تسقط سقوطها الأخير سوى على أرضية اختلال موازين القوى الإقليمية وبالطبع الرفض الشعبي لها، إنه سقوط بحكم الأمر الواقع والحياة تكره الفراغ.

لكي يحكم السوريون بلادهم فهم مطالبون الأن بملء الفراغ، في ظل تقاسم سوريا من قبل قوى الأمر الواقع، والتجزئة الفعلية القائمة منذ سنوات، والتوغل الصهيوني في التراب السوري بما يجعل السوريين في حاجة ماسة إلى مواجهة تحدٍّ متعدد الأوجه. إنه التحدي الوطني الذي يفرض تطهير التراب السوري من القوات الأجنبية، وهو التحدي الطبقي الذي لا ينفصل عن التحدي الوطني وإلا فإننا نعيد إنتاج صيغة البعثيين العرجاء. من الضروري أيضًا الأخذ بالاعتبار أن السنوات الطويلة من التدويل الذي شهدته سوريا قد جعل الاستقطاب أكثر اتساعًا والحقيقة أن موازين القوى ليست في صالح تطلعات الشعب السوري الديمقراطية والوطنية، لكن هذا لا يعني انسداد أفق المستقبل فإرادة الشعوب جزء رئيسي في المعادلة ولولا هذا ما كان هذا الجهد المبذول لاستبعاد السوريين من تقرير مستقبل بلادهم.

 إن الأيام الأخيرة قد شهدت نشاطًا واسعًا للقوى الوطنية السورية وفي القلب منها اليسار السوري، فقد أصدر حزب الإرادة الشعبية وتيار اليسار الثوري وحزب العمل الشيوعي -فرع الخارج- بيانًا مشتركًا يوم الاثنين الماضي 16 ديسمبر 2024 ضد العدوان الصهيوني المستمر على التراب السوري، ليست قيمة البيان نابعة فقط من أنه صادر عن ثلاث منظمات ماركسية لا يمكن وصف علاقاتها السابقة بالودية ولا أنه البيان الوحيد من نوعه في مواجهة العدوان، ولكن تنبع قيمته أيضًا من أنه يكشف احتمالية وإمكانية أن يلتئم اليسار السوري حول برنامج مشترك لمحاولة بلورة قطب شعبي سوري ثوري منظم يمثل طرفًا -لو اكتمل العمل- وازنًا في مواجهة الأجندات المختلفة التي تتصارع على ما يتصوره اللاعبون الإقليميون والدوليون على أنه جثة سوريا. إن هذا التنسيق بين قوى ذات تباينات أيديولوجية، وسعي حزب العمل الشيوعي لإعادة إحياء تنظيمه الذي أماتته ضربات البعث، بالإضافة إلى الدعوات المتكررة من حزب الإرادة الشعبية للسوريين بضرورة التنظيم الآن، تأكيدًا على خطورة الموقف وحساسية الظرف، وأخيرًا صدور وثيقة العهد الوطني السوري التي وضعتها شخصيات وطنية سورية ولم تتجاهل -كبقية الطيف السوري المعارض- الحق السوري الأصيل في الكفاح من أجل تحرير الأراضي المحتلة، إن كل هذا يخلق ويؤكد إمكانية أن ينجح السوريون في الإفلات من هذا المأزق التاريخي الذي يسابقون فيه الزمن.

إن جماعات الإسلام السياسي المسلحة إنما تعتمد على قدراتها العسكرية وتنظيمها، وحقيقة أنها بعد تدمير العتاد الذي تركه الجيش السوري نهبًا للغارات الصهيونية، صارت الطرف الذي يحتكر العنف بما يمكنها أو يوهمها ويوهم مشغليها بأنها الأقدر الآن على ملء الفراغ القائم واستبدال بمؤسسات القمع البعثي مؤسساتها هي. غير أن هذا التصور يتناقض مع جملة من العوامل: لقد انهار السد الذي منع السوريين من الاشتغال بسياسة بلدهم، مهما كانت الكيفية التي انهار بها؛ كما أن هيئة تحرير الشام وحلفاءها في سوريا ليست قوى متجانسة، فالهيئة نفسها تحتوي أجنحة متصارعة على أسس جهوية وعشائرية وشهدت خلال إقامتها الحصرية في إدلب ومحيطها تصفيات وانشقاقات بل وعانت غضبًا شعبيًّا جراء سياساتها الاقتصادية؛ بالإضافة إلى هذا، فإن الخليط الذي قاتل ضد الأسد، ومن ضمنه قوات سوريا الديمقراطية كان قد استفاد من الرفض الشعبي الكاسح للنظام وانفراط القاعدة الفلاحية لحزب البعث، لكن ومع سقوط النظام، يزداد التنافر بين هذه القوى على حصص النفوذ؛ وأخيرًا تبقى احتمالية كبيرة أن يسعى الروس والإيرانيون إلى استعادة بعض خسائرهم في سوريا.

إن هذه الفسيفساء قد تكون الثغرة التي تستطيع من خلالها القوى الوطنية السورية أن تمر ببرنامج يتفادى تمرير سيناريو تقسيم الأمر الواقع، ويعيد بناء الدولة السورية ديمقراطيًّا عبر تحشيد جماهيري شعبي على برنامج يتفادى كل حشرجات البرجوازية الوطنية التي تم ترديدها من قبل اليسار الدولتي -البكداشية- ويغزل بذكاء العلاقة بين التحرر الوطني والتغيير الاجتماعي لصالح الجماهير الشعبية السورية. إن صياغة برنامج يحقق مشروعًا وطنيًّا تقدميًّا ديمقراطيًّا لن تتم في المكاتب، بل عبر العمل الدؤوب في الشارع مستغلًّا حالة السيولة القادمة والتي من غير المرجح أن تستمر طويلًا إذ إنها مرهونة بالزمن اللازم لترسيخ هيمنة القوى المسلحة وهي الهيمنة التي لن يمنعها سوى النضال السلمي الديمقراطي الذي يحرم قوى الأمر الواقع من ميزة احتكار السلاح. إن الفراغ الهائل نظريًّا، والشبهات التي لطخت الأرض الخاضعة للنظام ولمناوئيه، إنما يفتح الأفق أمام اليسار السوري وقوى سوريا الوطنية لاحتلال الشارع وإحباط تقرير مصير سوريا في التسويات الإقليمية المشبوهة لتقرير مناطق النفوذ وحصص وراثة فراغ دولة البعث المنهارة.