قضايا

إيمان عوف

سيد فتحي.. ابن العامل الذي ورث نبيل الهلالي

2021.12.01

 سيد فتحي..  ابن العامل الذي ورث نبيل الهلالي

 

في مساكن العمال بمنطقة "إسكو" حيث مصنع الغزل والنسيج والصوف وشونة القطن تحتل أكثر من ثلثي المساحة، ومساكن العمال تحيطها، تحمل غبار الصوف وصوت المكن، تشبعت أرضها بزيت الصيانة، ولد سيد فتحي في عام 1968، وكغالبية أبناء العمال، كان يعيش في أسرة مكونة من ثلاثة أخوات وأب عامل بشركة إسكو للغزل والنسيج، وأم كل همها أن يتعلم أبناؤها، وأن يربح زوجها الحاج فتحي والد سيد الدعوى التي أقامها على الشركة ليحصلوا على فرق الإجازات، التي بنوا عليها أحلامهم في أن يشتري سيد وأشقاؤه ملابس جديدة، وأن يشتروا قطعة أرض قريبة من الشركة يبنون عليها منزلًا، وأن يسددوا ما عليهم، من خير عمل والده.

في المناطق العمالية تروى حكايات المصانع التي تحدث نهارًا بالليل على المقاهي، وفي البيوت على المصاطب التي تتخذها النسوة مكانًا يجتمعن فيه وحولهم أبناؤهم، بينما العمال يتناقشون في أمورهم على مقاه دائمًا ما حملت اسم الشركة الأكبر في المنطقة.

بين حكايات الأمهات وقضايا الآباء العمال كبر سيد فتحي، وتعلم جيدًا معنى أن يسافر أبوه وبقية عمال شركة إسكو من شبرا الخيمة إلى مقر النقابة العامة للغزل والنسيج بالمحلة ليتفاوضوا كي يحصلوا على حقوقهم المهدرة دائمًا.

التحق سيد فتحي بمدرسة إسكو الابتدائية، يحوطه أبناء العمال في كل مكان، لم يكن طالبًا عاديًا، بل كان مشاغبًا متفوقًا منذ بدايته، ففي الصف الرابع الابتدائي رفض سيد الوجبة المدرسية التي كانت تقدم من قبل إدارة المدرسة بصورة سيئة، فقرر أن يحرض زملاءه بأن يرفضوا، وأن يلصقوا مثلثات الجبنة غير الصالحة للاستخدام الآدمي على السبورة، وبالفعل نجحت أولى معاركه، واستجابة إدارة المدرسة وحسنت من الوجبة وطريقة تقديمها.

اهتم سيد منذ كان طالبًا في الإعدادية بالقراءة والكتابة والاطلاع، فكان دائمًا يجمع أوراق الصحف ويقرأها، ويجري مسابقات مع أقرانه في الفصل حول معلومة هنا أو هناك، حتى ذاع صيته بين أقرانه، ولقبوه "بسيد المثقف".

فور دخوله الثانوية العامة حدث التحول الأكبر في حياته، إذ التقى بمدرس التاريخ اليساري المعروف في شبرا الخيمة الأستاذ عبدالحكيم، وبدأ يحضر لقاءات وندوات كان يعقدها حزب التجمع في شبرا الخيمة، والتقي وقتها بعدد من القيادات النقابية والعمالية، كان بالنسبة لهم شابًا صغيرًا متحمسًا، لكن مع الوقت تحول هذا الشاب الطالب في الثانوية العامة إلى قائد، وركن أساسي في كل الفعاليات التي تحدث في شبرا الخيمة في فترة الثمانينيات والتسعينيات، قاد حملة انتخابية كاملة لمجلس الشعب للمهندس اليساري والقيادي العمالي صابر بركات، ولف أرجاء شبرا الخيمة، ليقنع الأهالي بضرورة أن ينتخبوا أحد غير أعضاء الحزب الوطني، وأن يختاروا من بين قيادات العمال ليعبروا عنهم، كان يمكنك أن تسمع صوته الجهوري في ميكروفون بعربة متواضعة، وهو يلف حواري شبرا الخيمة، غير مهتم بما يمكن أن يحدث له من أعضاء الحزب الوطني وقتها وهم من كبار عائلات شبرا الخيمة، وكان يمكنك أن تسمع "انتخبوا المناضل صابر بركات.. انتخبوا خير من يمثل العمال.. انتخبوا من يعبر عنكم.. ارفضوا الحزب الوطني". كان هذا الصوت هو صوت سيد فتحي الذي خرج عليه أجيال من أبناء العمال فيما بعد، فتحول سيد فتحي إلى قيادة سياسية استطاع أن يجمع خلفه العشرات من طلاب الثانوية العامة، والعمال من الشركات المحيطة.

لم يمر الأمر مرور الكرام، فاعتُقل سيد للمرة الأولى في حياته وهو طالب في الصف الثاني الثانوي، بسبب قيامه بتوزيع منشورات معارضة لمبارك، وعندما خرج حاول ضباط أمن الدولة لي ذراعه، بالضغط على والده لكي

يقبل أن يصبح ابنه مرشدًا في أوساط العمال الذين التفوا حوله بالرغم من صغر سنه، فأبى والده وقال بحسم "إذا فعلها سأقتله".

التقى سيد فتحي بمجموعة من محامين وقيادات اليسار، واقترب منهم وشرب من طباعهم مثل القيادي النقابي طه سعد عثمان، ويوسف درويش، والنبيل نبيل الهلالي، وصابر بركات، ومحمد عوف، والمهندس سعيد أبو طالب، والدكتور ماجدة عدلي، ومنى مينا، وأحمد الصياد، فكان بالنسبة لهم جميعًا ابنًا طالمًا حلموا بأن يكون أبناؤهم مثله، تعلم سيد الكثير من أساتذة المحامين في شبرا الخيمة وخارجها.

قرر أن يلتحق بكلية الحقوق جامعة عين شمس، وبالرغم من أن مجموعه كان يؤهله لكليات القمة، فإنه اختار المحاماة طريقًا، فور دخوله الجامعة وبالرغم من عدم انقطاعه ولو لحظة واحدة عن قضايا عمال شبرا الخيمة تحول سيد فتحي إلى كتلة من النشاط الطلابي، فقاد الانتفاضة الفلسطينية الأولى 87/86 والتي أطلق عليها في مصر بعد ذلك «انتفاضة الكراريس»، ثم اعتقل فضاعت السنة الأولى من امتحانات كلية الحقوق جامعة عين شمس، التي كان يقول عنها سيد "محبوبتي".

عشق فتحي القانون الذي انحاز إلى الفقراء، فأسس دار الخدمات النقابية والعمالية بشبرا الخيمة، لكي «يلضم» عمله السياسي في الجامعة بالعمل مع العمال والفقراء والمهمشين، لكن نظام مبارك كان يترصده، وفور وقوع حرب الخليج في مطلع التسعينيات شن نظام مبارك حملة طالت عشرات النشطاء، فكان سيد فتحي الطالب الوحيد مع ما يزيد على 10 قيادات عمالية أخرى في زنزانة واحدة، جلجل فيها صوته بأغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة، سبقها اعتقاله عقب معارك عمال الحديد والصلب في نهاية الثمانينيات، وغيرها الكثير من مرات الاعتقال التي زادت فتحي قوة وصلابة وعمقًا وحبًا للفقراء.

بعد العديد من الاعتقالات والتهديدات الأمنية التي طالت محامي العمال سيد فتحي، تخرج في كلية الحقوق جامعة عين شمس، فتبناه قديس اليسار نبيل الهلالي الذي لم يرزق بابن، واعتبره ابنه الوحيد، وعلمه

العمل الحقوقي والسياسي، فأسس مع الراحل مركز هشام مبارك كأول مركز دفاعي حقوقي في مصر، وفي بداية عام 2000 لعب دورًا بارزًا في الدفاع عن حقوق العمال، فكان رئيس لجنة الدفاع عن عمال شركة مصر لغزل المحلة وعمال إسكو للغزل والنسيج، وعمال الحديد والصلب وغيرهم من العمال الذين بكوا بعد رحيله دموعًا تضاهي نضاله من أجلهم.

مات الهلالي وكتب وصيته "أترك تاريخي ومكتبي لسيد فتحي الابن الذي لم أنجبه"، وبالفعل سار فتحي على الدرب نفسه وأسس مع تلامذة الهلالي "مؤسسة الهلالي للحريات"؛ التي تحولت إلى ملتقى الرافضين للظلم والطامحين للحرية والعدالة الاجتماعية، استطاع سيد فتحي أن يتعلم الدرس ويعيه جيدًا من أستاذه نبيل الهلالي، فدافع عن الإسلاميين في قضية طابا الشهيرة، كما دافع عن العمال دون تفرقة أو انحياز، سوى لدولة قانون يحكمها العدل وليس الظلم، كما دافع عن أهالي جزيرة القرصاية غير منتظر لمكافأة أو أتعاب، سوى أن يرى انتصارًا ولو جزئيًّا لفقراء الجزيرة وأصحابها، وانضم أيضًا لكتيبة الدفاع عن عمال المحلة ، وعن الصحفيين وأصحاب الرأي في القضايا التي أقيمت ضدهم في عهد مبارك.

انضم سيد فتحي خلال حياته للعديد من الأحزاب السياسية والتنظيمات السرية؛ وكان من بينها الحزب الشيوعي المصري، ثم سرعان ما انفصل عنه مع قيادات اليسار، أمثال نبيل الهلالي، ويوسف درويش، وعدد كبير من القيادات العمالية لينشئوا حزب الشعب الاشتراكي، وبعد ثورة يناير كان أحد مؤسسي حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.

كان لسيد فتحي دور فارق في ثورة يناير، حيث فتح باب مؤسسة الهلالي - إرثه - الذي طالما تفاخر به للجميع. ثم تولى سيد فتحي المطالبة بحق الشهداء الجندي، وكريستي، وجيكا، وكل قضايا الرأي والحريات وشهداء الثورة، وكان المحامي الأهم في قضية محاكمة مبارك، فعرفته المحاكمة قويًّا وصلبًا لا يلين في الدفاع عن الثورة، وعن تحقيق أحلام الملايين الذين نزلوا للشارع حالمين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لكن لم يكتب لسيد وجيله أن ينتصروا فبرأت المحكمة مبارك وأعوانه، وتولى الإخوان الحكم، وكان آخر ما فعله السيد فتحي هو التوقيع على عريضة تمرد الرافضة لحكم الإخوان، ليموت تلميذ نبيل الهلالي يوم 16 مايو 2013، في عز الاشتباك، وفى عز العمر، تاركًا خلفه تاريخًا من النبل والجسارة من الصعب أن يتكرر.