صناع الثقافة

دار المرايا

سينما تواجه العقبات كيف تستطيع أن تصنع فيلمًا مستقلًا في مصر؟

2021.08.01

سينما تواجه العقبات كيف تستطيع أن تصنع فيلمًا مستقلًا في مصر؟

سيل التوقيعات الرسمية التي يُجبر كل فنان مستقل على الحصول عليها، وفيضان الرسوم الذي لا يستطيع أي فنان مستقل تلبيتها، أسهما في تكوين دوامة القوانين المتعلقة بالسينما في مصر، حتى إن يجازف ويتخيل قدرته على الخوض في هذه الدوامة، عادة ما ينجرف إليها ويكون من الصعب عليه التمسك بنفس الأفكار التي اقتنع بها لتأسيس شركته لعمل إنتاج سينمائي مختلف ومستقل قادر على التواجد أمام العروض المُستهلَكة التي تقدمها شركات الإنتاج العملاقة التي تسعى بشكل دائم ليس فقط لجني المزيد من المال، ولكنها تحرص على خلق نمط استهلاكي رديء لدى المشاهد.

تعتبر غرفة صناعة السينما هي المتحكم الحقيقي بكل ما له علاقة بصناعة السينما في مصر، وهي صاحبة الحق في منح ترخيص دور العرض، والتوزيع، يأتي بعد ذلك الأجهزة الرقابية، والنقابات الفنية، والأجهزة المعنية بتسجيل وحماية الملكية الفكرية.

السينما المستقلة، قليلة التكلفة الإنتاجية، تواجه عقبات عديدة، تجعل من صناعة الفيلم السينمائي المستقل عمل في غاية المشقة، ويتطلب جهد ذهني وبدني يفوق العادة، وذلك للحد من التكلفة المالية، من ناحية أخرى نجاح العمل السينمائي تجاريًّا لا يقاس إلا بالعائد المادي، أي التوزيع السينمائي، آخر حلقة في سلسلة صناعة السينما، وهي الرافد الأساسي لهذا العائد، لا يقتصر التوزيع السينمائي حاليًا على دور العرض السينمائية كما كان في الماضي، منصات العرض الالكتروني أصبح لها النصيب الأكبر من المشاهدة، خاصة بعد جائحة كورونا.

القوانين المصرية المتعلقة بصناعة السينما هي مسار حديثنا اليوم، سنتحدث من خلالها عن الفرص التي أتاحتها القوانين لصناعة السينما، والصراعات التي خلفتها، وتأثير ذلك على جهات الإنتاج من ناحية، والفنانين من جهة أخرى.

في البداية كانت لائحة التياترات، اللائحة الصادرة في عام 1911م تم استخدامها للرقابة على المسارح، ولإحكام قبضة السلطة على جميع أشكال التعبير، ومنها التعبير الفني، وكان الهدف منها أساسًا منع المسرحيات الوطنية التي بدأت تنتشر وقتها لمناهضة الاحتلال البريطاني لمصر، ومن بعد المسارح تم استخدامها للرقابة على السينمات. 

القومسيون هي مجموعة رقابية أوجدها القانون، تختص بمراقبة صلاحية دار العرض السينمائية، وسلوك الحضور، والمحتوى الفني، فكانت تنص على تخصيص مكان لضباط البوليس للمراقبة وقت التمثيل، ويرأسها حكمدار البوليس، وتقوم بعدة أدوار أساسية أخرى:

أولاً: هي من تضع شروط تأسيس دار العرض.

ثانيًا: هي المسؤولة عن منح الترخيص بتأسيس دار العرض، بعد التأكد من صلاحية البناء واحتياطات الأمن والسلامة.

ثالثًا: حق الإشراف، وهي المسؤولة عن تطبيق لائحة التياترات، في حالة مخالفة، ولها أن تقوم بالإشراف على دور العرض السينمائية لمرة واحدة على الأقل سنويًّا.

تم تطبيق اللائحة لمدة تقارب الخمسين عامًا، حتى وزعت مهام هذا القومسيون بين عدة هيئات، وحازت وزارة الثقافة على دور مراقبة المحتوى الفني عن طريق الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات السمعية والسمعية البصرية، أو ما يعرف حاليًا بالمصنفات الفنية، ووزعت مهمة إنشاء دور العرض السينمائية ما بين وزارة الثقافة متمثلة في قطاع الإنتاج الثقافي، ووزارة الصناعة متمثلة في غرفة صناعة السينما.

تسجيل العمل السينمائي، وفحصه لا تصلح لحماية حقوق المؤلف، ولكن لا بد من نشرها بأي طريقة للنشر، أو عرضها في السينمات.

الخطوة الأولى لصناعة الفيلم السينمائي بتسجيل حقوق المؤلف، لحماية فكرة العمل السينمائي، أو السيناريو والحوار، أو المعالجة الدرامية، وتختص وزارة الثقافة بهذا الحق طبقًا لقانون حماية حقوق الملكية الفكرية الصادر برقم 82 لسنة 2002، يقوم في هذه المرحلة الفنان بالتوجه لإدارة حقوق المؤلف ودفع الرسوم المطلوبة، واستلام شهادة الحماية في نفس اليوم، مع بداية عام 2020، صدرت تعليمات جديدة تضع عائقًا أمام حماية حقوق المؤلف، وتلزم الفنان بالانتظار لمدة 15 يوم عمل، لكي يمر النص السينمائي على المصنفات الفنية، والتي تقوم بفحصه، وإجازته، أو رفضه، وهو ما يضع النص في خطر الاستيلاء عليه من أي جهة إنتاجية دون أدنى مسؤولية قانونية عليها.

لن يحمي القانون الأعمال التي تم تسجيلها، ينص على ذلك قانون حق المؤلف المصري رقم 354 لسنة 1954 وهو أول قانون لحماية حقوق المؤلف، طبقًا لهذا القانون ولكي تتمتع الأعمال السينمائية بالحماية فلا يمكن الاكتفاء بتسجيل الفكرة، ولا بد من عرضها، أو نشرها، لكي تحصل على هذه الحماية، وتستمر من هذا اليوم حمايتها لمدة 15 سنة (مادة رقم 20)، تم إلغاء هذا القانون واستبدل بالقانون الحالي لحماية حقوق الملكية الفكرية الصادر في عام 2002، والذي أكد على ألا تشمل حماية حقوق المؤلف ما يقوم بتسجيله من أفكار، أو بيانات، ولو كانت مكتوبة على هيئة سيناريو، ويتم حمايتها بدءًا من يوم نشرها، أو عرضها على الجمهور، ولمدة 50 عامًا (مادة 162).

من تعليمات 47 إلى الرقابة على المصنفات الفنية:

"أنا كنت بشتغل الرقابة بمشاهد تافهة، لأمرر قضية الفيلم الأساسية"، قالها المخرج الكبير وحيد حامد ردًا على محظورات الرقابة الغير واضحة، في آخر لقاء له قبل وفاته وذلك بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورة عام 2020 وهي مدخلنا لفهم سياسة الرقابة على المصنفات الفنية في مصر. المحطة الثانية في مشوار صناعة الفيلم السينمائي هي الرقابة على المحتوى، وهي رقابة سابقة على العرض وليست لاحقة له مثل الرقابة على المطبوعات.

"إن للرقابة دستور يجب أن يسير عليه الرقباء، ومع ذلك فإنها لو نفذته بحرفيته لما سمحت بعرض واحد في المائة من الأفلام"

جاءت هذه المقولة على لسان محمد شوقي رئيس رقباء الأفلام في عام 1951، في الاجتماع الذي ضم سينمائيين، تحت شعار تبادل الرأي في المسائل المتصلة بالإنتاج السينمائي في مصر، متحدثًا عن دستور الرقباء في هذا الوقت أو ما يسمى تعليمات 47، بعد ذلك أوضح رئيس الرقباء أن هناك صور لن تسمح الرقابة بعرضها مثل: الحفاة، العراة أو المتسولين وكذلك الرقص الخليع المبتذل.

تم إلغاء العمل بتعليمات 1947 مع صدور قانون المصنفات الفنية الحالي الصادر بالقانون رقم 430 لسنة 1955، واقتصرت المحظورات الرقابية على 4 نقاط:

1-  الدعوات الإلحادية والتعریض بالأديان السماوية.

2-  تصویر أو عرض أعمال الرذيلة أو تعاطي المخدرات على نحو يشجع على محاكاة فاعلیها.

3-  المشاهد الجنسیة المثیرة وما يخدش الحياء والعبارات والإشارات البذيئة.

4- عرض الجريمة بطريقة تثير العطف أو تغري بالتقليد أو تضفي هالة من البطولة على المجرم.

ظلت المحظورات مطاطة وغير حاسمة، حتى إنها دفعت شوقي ليصارحنا بأنه عن طريق هذه المحظورات الغير واضحة المعالم له الحق في منع أي فيلم سينمائي، وإن كان شوقي الأول إلا أنه ليس الأخير، فقد صرح بنفس الشيء جميع رؤساء الرقابة على المصنفات وصولاً لرئيس الرقابة الحالي السيد خالد عبد الجليل.

إلغاء قانون الرقابة على المصنفات الحالي ضرورة حتمية لتحسين صناعة السينما في مصر، واستبداله بصياغة قانون جديد أكثر انضباطًا ووضوحًا، حتى نعرف ما الألفاظ التي يعتبرها القانون خادشة للحياء العام، أو تعتبر ازدراءً للأديان، وهو ما ينطبق مع نص الدستور الذي يمنع حبس أي سينمائي بسبب نشر عمله ولو كان ذلك خادشًا للحياء العام، طالما لم يكن ذلك الفيلم ماسًا بسمعة شخص بعينة، أو محرضًا على جريمة بعينها، أو يحرض على العنصرية والتمييز. وحق السينمائي في استلام رد الرقابة، وحق الرقابة في سحبه مرة أخرى.

على كل حال علينا تقديم فكرة، أو قصة العمل السينمائي، أو السيناريو والحوار لأخذ موافقة رقابية ورخصة بتصوير الفيلم، وبعد الانتهاء منه نعود مرة أخرى للرقابة بالفيلم السينمائي الذي تم تصويره لأخذ ترخيص بعرضه.

تلتزم الرقابة على المصنفات بالرد على طلبات تصوير الأفلام خلال 3 أشهر، وعلى طلبات العرض خلال شهر واحد فقط. وفي حال لم ترد الرقابة على هذه الطلبات يعتبر الترخيص ممنوحًا بقوة القانون.

الحق في الرد هو الدفع الذي استندنا إليه في دفاعنا عن المخرج تامر السعيد، حين تقاعست الرقابة على المصنفات في الرد على طلبه لاستخراج ترخيص بالعرض العام لفيلم آخر أيام المدينة، وقد تحدينا هذا السكوت، ورفعنا دعوى أمام محكمة القضاء الإداري والتي حكمت بدورها بأحقية الفيلم بالعرض العام طبقًا للقانون.

تخيل معي عزيزي السينمائي/ة، بعد مرورك بكل هذه التعقيدات الرقابية، قمت بتسلم الرد بالسماح بعرض الفيلم، وقمت بالفعل بحجز قاعات العرض ثم تقرر الرقابة سحب ترخيص العرض منك، في ليلة العرض الأول، هذا المشهد العبثي حدث بالفعل في عام 2018 مع فيلم "كارما" للمخرج خالد يوسف، بعيدًا عن رجوع الرقابة عن قرارها، فهل يسمح القانون بذلك؟

يسمح القانون بسحب ترخيص العرض العام حتى لو استوفى الفنان كل أوراقه، وذلك "إذا طرأت ظروف جديدة" دون تحديد ماهية هذه الظروف.

رسوم وزارة الثقافة حجر عثرة

لا يكد الفنان ينتهي من دفع رسوم تسجيل حقوق المؤلف حتى يفاجأ برسوم جديدة أمام الرقابة وذلك للتنازل عن النص للجهة الإنتاجية، ورسوم أخرى لنقابات المهن الفنية التي يتطلب استخراج ترخيص المصنفات بالتصوير، لك أن تتخيل أن الرسم التقديري لكل نقابة فنية من الممكن أن يصل إلى 10 آلاف جنيه، لكل فنان شارك بالعمل السينمائي، و 20 ألف جنيه لو كان الفنان غير مصري، لم تكتف وزارة الثقافة بكل هذه الرسوم وقررت في يناير 2020 زيادة رسوم تقديم النصوص السينمائية للرقابة على المصنفات، بالقانون رقم 900 لسنة 2019، فبعد أن كانت رسوم ترخيص العرض والبيع والتداول للفيلم السينمائي الطويل هي 200 جنيه، أصبحت بعد القانون الجديد 22000 جنيه، وهو ما أثار ذعر السينمائيين، ووعدت بعدها وزيرة الثقافة بتخفيض هذه الرسوم، إلا أنها لم تصدر أي قرارات رسمية بذلك، لذا فالزيادة تظل موجودة، وكان من الأولى إلغاء القانون بدل من اكتفاء الفنانين بوعود وزيرة الثقافة.

المنتج المستقل..

إنشاء مركز سينمائي في مصر، أو مجرد عرض فيلم على شاشة أو بروجكتور هو أمر في غاية التعقيد، فالدولة لا تتعامل مع أفراد، فالقوانين المصرية لا تفهم أن تكون منتجًا سينمائيًّا مستقلاً، فألزمت لقبول النص السينمائي أمام الرقابة أن تتقدم به جهة إنتاجية أي شركة، ومن جهة أخرى لكي تتمكن من عرضه فلا تكفي الشركة، ولا بد من الحصول على رخصة الإنتاج الثقافي، ومن بعدها تصريح غرفة صناعة السينما بإنشاء هذه الدار، وهي تتطلب رسومًا باهظة تصعب من مهمة المنتج المستقل.

ليس من حق الأفلام المستقلة تنظيم مهرجانات

500 ألف جنيه مصري كحد أدنى هي قيمة رأس مال الشركة التي لها الحق في استخراج ترخيص بالمهرجان السينمائي، ولا شك أن المهرجانات السينمائية هي أحد الروافد المهمة أمام الموزع السينمائي لتسويق فيلمه، وحصاد المزيد من الجوائز المالية والعينية، ووجود مهرجانات للسينما المستقلة في مصر بالتأكد سيكون مشجعًا لهذه النوعية من السينما التي تعتمد على التكلفة المنخفضة، إلا أن رأي وزارة الثقافة كان بتعمد غلق جميع الأبواب أمام السينما المستقلة عن طريق إصدار قانون المهرجانات الجديد.

عراقيل بيروقراطية في مواجهة السينما المستقلة، تبدأ بلجنة عليا دائمة للمهرجانات، لا تقدم إليها الطلبات إلا في شهر يونيو من كل عام، دون أي أسباب واضحة لإغلاق اللجنة باقي العام، واشتراطات مجحفة نص عليها قانون تنظيم المهرجانات رقم 1238 لسنة 2018، حيث اعتبر الكرنفالات أو الحفلات -وليست المهرجانات فقط- جزء من هذا القانون، سواء قامت الدولة بتنظيمها أو الأفراد، على الرغم من أن وزيرة الثقافة ادعت عكس ذلك، وأوضحت في أكثر من تصريح تليفزيوني، وصحفي أن هذا القرار يخص المهرجانات الحكومية فقط، في نفس الوقت الذي منع تنظيم الأشخاص الطبيعيين لها، والزم أن تكون جهة التنظيم كيان أي شركة، وحاصلة على ترخيص الإنتاج الثقافي. اللجنة العليا الدائمة التي سبق الإشارة إليها تتشكل من ممثلين من 8 وزارات منها: الداخلية، والخارجية، وهي وزارات ليس لها أي علاقة بالفن والسينما، بينما يشكل وجودها أبوية ورقابة على أخلاق الفنان وتوجهه السياسي. وتختص هذه اللجنة بقبول الطلبات، ويحق لوزيرة الثقافة رفض أي طلب لأسباب غاية في الغرابة وهي إذا لم يحقق المهرجان:

تنمية الإبداع، الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية، بروافدها الحضارية المختلفة، تعزيز التنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المستدامة وتفعيل التبادل الثقافي بين مصر ودول العالم. وللجنة العليا الدائمة في حالة موافقتها على ترخيص المهرجان أن تسحبه في أي وقت. وذلك كله دون تحقيق قانوني وحضور الممثل القانوني للشركة منظمة المهرجان، أو لجنة لنظر التظلمات في حالة الرفض.

 خلال هذه الرحلة السريعة للنظر في الإطار القانوني الحاكم للفن في مصر من السهل أن يصيبنا الإحباط، ونستسلم لاندثار السينما المستقلة، إلا أن هناك نماذج لا يمكن إغفالها أسهمت بشكل كبير مؤخرًا في رجوع الفكرة، بل وأجبرت الدولة على احترامها ومنحها العديد من الجوائز، مثال بسيط على ذلك ما حققته المنتجة الشابة مي زايد بفيلمها الوثائقي (عاش يا كابتن) وهو فيلم يحكي عن حياة واحد من أهم مدربين رفع الأثقال المصريين ورحلة صعود إحدى فتياته، نال الفيلم إعجاب العديد من المهرجانات وحصد العشرات من الجوائز ومنهم ثلاث جوائز من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فقط، وخلال أقل من عام استطاع لفت أنظار العالم أجمع، وفيلم 16 للمنتج محمد تيمور الذي استطاع نيل جائزة السعفة الذهبية لمهرجان الجونة.

يحاول صناع السينما المستقلة دائمًا إيجاد مخرج لمأزق التكاليف الإنتاجية، سواء بتقليل التكلفة، أو بالبحث عن ممولين وداعمين، ولا يمكن أن يتلخص دور الدولة في ملاحقتهم لجني المزيد من الأموال البسيطة المتحصلة من هذه النجاحات، ولكي يثقلها بالمزيد من الأعباء والتراخيص، ولكن وطبقًا للدستور على وزارة الثقافة أن ترعى هذه المواهب المتفردة كي تنجح، وتنجح معها الصناعة.