عدد 18-عن الفقد والافتقاد

شوقي عبد الحكيم

شعر المراثي والبكائيات الجنائزية (من كتاب الشعر الشعبي الفلكلوري)

2020.11.01

مصدر الصورة : ويكيبديا

شعر المراثي والبكائيات الجنائزية  (من كتاب الشعر الشعبي الفلكلوري)

أصعب ما يمكن أن يصادف جامع الفولكلور هو التصدي لجمع البكائيات أو العديد؛ إذ يقتضي هذا الاتصال بالنساء بشكل عام اللواتي يحفظنه ويتناقلنه فيما بينهن، وبالمحترفات منهن، وهن اللواتي يحترفن إنشاده عندما يموت ميت، ويُعرفن ﺑ»الندَّابات»، يتوارثن هذه المهنة أجيالًا إثر أجيال، وربما منذ العصور الفرعونية حيث كان للندب والندابات شأن كبير كأقدم مهنة للمرأة ملازمة للموت، مثلها مثل مهن البغايا والقابلات أو المولِّدات. وهي فئة مضطهدة تُعامَل على نفس المستوى الذي تُعامَل به البغايا والنساء «الموعودات». وكما هو معروف فإن أقدم عمل للمرأة في العالم القديم هو القابِلات أو المولِّدات، ويُطلَق عليهن «الدايات». فالقابلات والندَّابات والبغايا يشكلن ثالوث الوجود الإنساني؛ الولادة والزواج والموت، أو الولادة والجنس والموت.

ولا تخرج الإبداعات مجهولة المؤلف عن تناول أحد أضلاع هذا الثالوث، سواء ما يتصل بالبذرة أو الولادة ثم التفتح على الجنس، متضمنًا علاقة النوع بالآخر؛ الرجل بالمرأة والعكس. وتنتهي الدورة بالحتمية المعهودة التي هي الموت، أو الغياب و»المرواح» كما يُسمى في البكائيات. والبكاء والعديد ليسا وقفًا على وقوع الموت عند النساء من غير المحترفات، فكثيرًا ما كنت أفاجئ أمي تندب وتنوح في وحدتها بصوت شبه هامس، وأذكر أن هذه كانت حال النساء العواجيز والمسنِّات من قريباتي.
وعلى سبيل المثال، عندما ترددت على إحدى القرى البسيطة الواقعة على مشارف إقليم الفيوم من ناحية بحيرة قارون، تعمدت نزول هذه القرية في مطلع النهار، وفي يوم معين يقام فيه سوق البلدة القريبة، ويرحل إليه أغلب رجال هذه القرية والكثير من النساء صغار السن، ولا يتبقى منها إلا العجائز والمسنَّات والكلاب الضالَّة. وللعزبة حكايات وقتية متجددة، تتناقلها النسوة في المجالات النسائية، وهي أشبه بالأسرار. ويتناقلها الشبان والعجائز في مجالسهم وسمرهم. ولقد ظلت النسوة يحدثنني عن «أم سلطان» ويصفونها بأنها: وعَّارة، وشايلة كتير … وبتندب في الموت. وعرفت منهن أنها ليست ندابة محترفة بقدر ما هي غاوية، وقالوا لي إن كبيرًا من أهل العزبة يُدعى «حميدة أبو إدريس» طلب منها يومًا قبل أن يموت قال: يا أم سلطان، لما حيفرغ أجلي وأموت حتقولي عليَّا إيه؟

قالت:

لبسوا الجبابي الزين

والمسك علينا فاح

يادي الندامة اليوم

على أحسن رجالنا راح

فبكى الرجل قبل أن توافيه المنية. وقالت «أم مقبولة» يوم أن مات:

ما تقوم تكلم واحد كبير جالك

تقضي أقوالك

عليك قضية

تسدها وتعود

تسدها وتطلع غزالة بحيرة

وعندما يكون الميت شابًّا يقولون:

شاب يا عود القرنفل

يا روايح للتياب

قالولو يا شاب روح

قال نويت على الغياب

يا شابنا يا كبير

جودك علينا زي بحر النيل

يا شاب عاود لهم عاود

دا انت طويل البال ومهاود

والميت الزوج هنا يحذر زوجته من أن تخون عهده بها، فتتزوج وتزدهر وتينع نوارًا، كناية عن الخلفة وإنجاب الأطفال. فتجيبه الزوجة أنه هكذا شأن الأحياء قليلي العقل، الذين سريعًا وفي التوِّ ما ينسون ما قطعوه على أنفسهم من عهود:

هو :

اصحي يا بت تخوني العهد

تزفي وتجيبي نوار

هي :

تم الحي جليل عجيله

في توا ينسى اللي صار

وفي هذه الأشعار الجنائزية عادة ما يكثر التخاطب مع العين، أو العين الحارسة:

إنتي يا عين جهلتي ليه؟

إنتي ما ريتي غير اليوم

إنتي ما ريتي «فلان»1

اللي غايب لا عدا اليوم؟

وتتحدث البكائية التالية عن فرس الميت، وتدعوها ﺑ «الحمرا» مثل مهرة أبي زيد الهلالي.

كأني بك يا حمرا أصبحت تيمِّمين ناحية رياح الندابات، فلقد غاب عنك وطواه الموت ذلك الذي كان يعرف ويقدرك حق قدرك، فيملأ لك «عبارك» -أي مربطك- حتى حافته، وإن خس الكيل من التبن والشعير زاده قمحًا:

كنك2 يا حمرا بتصيري

تحت ريح الندايات

غاب اللي يعرف مقدارك

يملا لحد عبارك

وان خست من القمح يزيدك

والبيت العالي ذو الشباك، الذي أقسم بأنه لن يفرح ويزهو إلا إذا ما عاد صاحبه، أي الميت:

البيت العالي بوشباك

حلف ما نزهى إلا إن جه

ويُلقَّب الميت ﺑ «الغالي»:

يا بوابة يا منهابة

صوت الغالي

مهوش فيكي

وليس هناك أروع وأبلغ من لحظة تصوير الاستسلام للموت في هذه الشطرة:

مدوا أياديهم

واستمتلوا 3للي جرى فيهم

كما أن من المألوف تصوير الموت وملاكه -عزرائيل- بيده منجله، الذي يحش ويقطع به رقاب العباد كما يُحشُّ نبات الملوخية:

حشيتهم يا موت حش الملوخية

اللي بارم شنبه لية على لية

وهدومهم ع الغسل مرمِّيَّة

والندابة هنا تعاهد الدف أو «الطار» الذي تضرب به، قائلة إنها ستشتري له حنة وتحنيه إذا ما عاد بالميت الغالي. وإنها ستظل تضرب بدفها إلى أن يعود، وستعمل من ضفيرتها معلاقًا له -الدف- ولن تلقي به أبدًا:

أحيه يا طاري

إن جبت الغالي

نشتري حنة ونحنيك

ونعمل قرني لك معلاج

ونعاهد ما نرميك

وهن هنا يبكون الفلاح منشئ الشجر والحياة، ويصفونه بأنه شجاع غير هيَّاب، يضرب بسلاحه الذي هو نبُّوته في خضم العتمة الضارية:

يا خسارة الفلاح نشَّاي الصجر

يضرب بالنبُّوت في العتمة الضكر

والميت الرجل هو عمود البيت:

يا عمود البيت

يا ضي القمر

فتقال البكائيات -أي الندب- حزنًا على الميت. وهناك نساء محترفات يقمن بهذه العملية نظير أجور يدفعها أهل المتوفَّى. ومن التقاليد المعروفة في بلادنا أن جنازات النساء المتَّشحات بالسواد من أهل الميت تمضي تطوف الشوارع والحواري، تتقدمهن «الندابة» المحترفة، والغرض من هذا هو «إعلان» حزنهن الشديد على الميت، حتى يعرف الكل أن له أهلًا «وناس باكيين عليه...».

وفي البكائية القادمة التي تصور حوارًا مغرقًا في الحزن بين ميت وأمه، ففي رد الميت عليها تتمثل رغبة الإنسان الجارفة وموقفه من الموت، حين يقول:

أشم الهوا واغير الملبوس

ويبدو وكأنه يناضل الموت، يصرخ، ويولول، ويستغيث، ثم حين تتمنى هي أن تتحول إلى سحلية، لكي تراه وتمسح جبينه كل صبحية:

الأم :

عيان يا عيان 

أنا باسندك وقلبي عليك تعبان

يا عيان هات إيدك 

أنا قلبي وجعني من كتر تنهيدك

يا عيان هات إديك

 أنا قلبي وجعني وانا بطُلِّ عليك

عيان ولو مدة

وآخر العيا ورد على الطبة

عيان ولو زمان

وآخر العيا ورد على لكفان

القبر ضيق ولا يسيع طوله

ولا يسيع رفقة يخشوله

القبر ضيق ولا يسيع رجليه

ولا يسيع رفقه تطل عليه

الميت: 

يا عيزاني4 افتحيلي القبر بالدبلة

أشم الهوا واغير البدلة

يا عيزاني افتحيلي القبر بالدبوس

أشم الهوا واغير الملبوس

الأم :

يا مين يعملني في القبر سحلية

وامسح جبين الجدع في كل صبحية؟

والندابات طبقة محطمة تمامًا، أصبحن يُعاملن عبر ربع القرن الأخير فقط كالزانيات سواء بسواء، وذلك من حيث وضعهن الاجتماعي في أريافنا. فالناس يكرهونهن وعلى الأخص الرجال، ويحطون من عملهن، ويقولون عنهن: دول ملاعين، جسمهم لن يعرض على جنة! وفي بعض الأحيان كانوا يضربونهن، ولا يدخلونهن بيوتهم ففي هذا فأل سيئ. ولهذا لم أتمكن من جمع شيء يُذكر من «الندب» لصعوبة الاتصال بالندابات من جهة، ولخوفهن الشديد، الذي يصل إلى حد الرعب والإنكار على طول الخط من جهة!

ومما يؤكد ذلك الخوف أن الحكومات المحلية في الأرياف تطارد الندابات وتفرق جنازات النساء. وهناك قصص كثيرة تتحدث عن الندابات وما كُتب عليهن، فالناس مؤمنون بأن «الندابات والغوازي والعاهرات» مكتوب عليهن أن يولدن ليؤدين هذه الأعمال المخزية.

•••

ومن القصص الطريفة التي تدور حول الندب والندابات، يقال إن جنازة من جنازات النساء التي تسير وتلف البلد كما هي العادة كان فيها اثنتان من الندابات، واحدة اسمها «شمس» والثانية تُدعى «هدوة». ومن عادة أهل الميت أن يكرموا العطاء للندابات، فجاءت ابنة المتوفاة برطلين أو ثلاثة من اللحم «لحم السدة» وغمزت بهم شمس، فأخذت شمس اللحم ولفته لكن «هدوة» لمحتها، فمضت تلطم وجهها وتقول:

وده إيه يا اختي اللي بتلفيه؟

وده إيه يا اختي اللي بتلفلفيه؟

فأجابتها شمس «مطمئنة» إلى أنها ستعطيها نصيبها، مولولة نادبة:

دا نايب يا اختي وليكي النص فيه!

وصرخت النساء في حرقة: يا لهوي!

•••

وحتى سنوات قريبة كانت تمتلئ قرى مصر وأريافها، بالإضافة إلى المجتمعات البدوية العربية، بهؤلاء الندَّابات المحترفات، وكان البكاء الجماعي والنُّوَاح تسبقه جنازات نسائية راقصة، تصل إلى بضع مئات النساء المتشحات بالسواد والنِّيلة، يطفن شوارع البلدة ودروبها حول الندابة الأم المحترفة، وهن يرقصن رقصات جماعية جنائزية محددة الإيقاع يطلقون عليها رقصات «الأسية»، فكنَّ يدرن على أقدامهن وهنَّ في شكل دائرة محيطة بالندابات يلطمن خدودهن راقصات مغنيات على إيقاعات الدفوف الخشنة العنيفة. ويذكر فريزر أن ما تبقى إلى أيامنا من كلمات وتشبيهات شائعة عن الميت في مصر، هي بذاتها ما تبقت متواترة من ندب إيزيس وأختها الربة الندابة المحترفة «نفتيس» على الاغتيال الموسمي السنوي لأوزيريس، من جانب قاتله ومغتصب عرشه ست أو ستخ أو طيفون.

ويرجع يوري سوكولوف5 المواسم والبكائيات الجنائزية إلى عصور موغلة في القدم فيما قبل القبائلية، كاشفًا النقاب عن ازدواجية الموقف من المتوفَّى من خلال ممارسة طقوس الدفن والجناز، بما يشير إلى الخوف من الميت وحاجة الأحياء لحماية أنفسهم منه عن طريق المبالغة في الإغراق في الأكل الجماعي عقب الدفن المعروف ﺑ «السدة»، والإشادة بفضائل الميت ومناشدته بطلب العون، مثلما يتضح من بكائياتنا ونصوصها التالية: «يا سبعي، يا جملي، هات إيدك، يا عمود البيت، يا ضي القمر، ما انت مسافر -أو غائب- وتاركنا يتامى» وهكذا. كما أشار إلى ما بها من تكرار، بل وعبارات هزلية لا تتفق ومراسم الجنازات. وأشاد بقدرة الندَّابات المحترفات ومدى ما بها من طاقات شعرية، وكيف أن شاعرًا مرموقًا مثل «نيكروسوف» قد استفاد من إحدى المُعدِّدات في قصيدته «من يحيا سعيدًا في الروسيا؟»

•••

ولم يصادفني طيلة جمعي بكائيات أو عديد من ذلك النوع الذي عادة ما يصاحب الرحيل إلى الجندية أو الجهادية والحرب ومعاداتها، وتكثيف مثل هذه النصوص للأوضاع الاجتماعية والحياتية. لكن صادفني خلال تعاملي مع الندَّابات المحترفات والهاويات أو الغاويات الظروف أو المراثي التي تقال حسب «حالة» الميت وعمره، سواء أكان ولدًا لم يبلغ أو أنه بلغ، تزوج أو لم يتزوج، وكذا ما يتصل بالمسجوعات في حالة موت أب أو أم أو شيخ أو ولي أو إنسان سلطوي عالي الهامة. كذلك تتدخل ظروف الوفاة متطلبة بكائيات بعينها، فالوفاة الطبيعية تخالف الموت في حوادث، كالحريق والاغتيال والأخذ بالثأر والكوارث القدرية.

وأكثر هذه الظروف والملابسات الفاجعة تتمثل في موت الشبان والشابات -البالغين- قبل زواجهم، حيث تجري مراسم جنازاتهم ﺑ «المزيكة الحزايني»، وأحيانًا بجوقة ندابات تشعل البلدة حزنًا ودموعًا لأيام. ولا تختلف مراسم الجنازات في مصر كثيرًا عنها سواء في المشرق العربي أو مغربه. كما يتضح جليًّا في هذا الأنموذج لبكائية يمكن أن نحصل على نصوصها في فلسطين وبيروت والشام بعامة:

يومك يا بو فلان

ما تعشينا

كبينا العجاين

من بواطينا

على شيخنا

لنطيح ع بيروت

نطلعها سمعة

ونقدم البيوت

على شيخنا

لنطيح ع الشام

نطلعها سمعة

ونقدم الخيام

•••

والخلاصة أنه في حالة أخذنا بنظرية عالم الفولكلور الفرنسي «فان جنب» بالنسبة لطقوس أو شعائر التفرق المصاحبة للموت، وحاجة الأحياء من أهل الميت وذويه إلى الأمن، بإزاء روح الميت واسترضائه بالبكاء، والأشعار الجنائزية، والأصوات العالية بعامة.