قضايا
إيمان عوفصابر بركات.. مناضل من طراز خاص
2021.12.01
صابر بركات.. مناضل من طراز خاص
ولد عام 52 في أثناء حريق القاهرة، قبيل ثورة يوليو بشهور قليلة، لأسرة فقيرة للغاية، والده عامل بسيط، دخل المدرسة وتفوق بها، بعد الإعدادية قرر والده أن يرسله ليتطوع في الجيش، لكنه رفض، ولم يحضر "كشف الهيئة" فرسب في الاختبارات، ثم التحق بمدرسة التلمذة الصناعية، كي يضمن والده نفقات تعليمه، وكانت المدرسة تسير بنظام عام واحد في مركز تدريب ثم الالتحاق بأحد المصانع والعمل بها، فكان نصيبه شركة الدلتا للحديد والصلب بشبرا الخيمة..
إنه المهندس والقيادي النقابي صابر بركات، أحد أهم النقابيين المصريين الذي عاصر أحداث 17 و18 يناير ودفع ثمن مشاركته.
في الدلتا للحديد والصلب عمل صابر بركات كهربائي ضغط، وفي عام 67 التحق بالمقاومة الشعبية، وهو لم يكمل بعد عامه الـ17، وطُلب للتجنيد عام 70 في سلاح الصاعقة ثم المظلات وشارك في حرب 73، خرج من الجيش عام 75، وعاد للشركة ليجد حركة عمالية تزايدت، لأن الشركة قبل تأميمها كانت مملوكة لأجانب منحوا العمال القليل من الحقوق تأثرًا بالرأسمالية في أوروبا، ومع روح المقاومة الوطنية التي شهدتها مصر في تلك الفترة تزايدت حالة الرفض العمالي لأي اعتداء على حقوقهم من قبل الرأسمالية والبيروقراطية المصرية. ومع تزايد الفساد الإداري نتيجة لعدم إجراء الانتخابات النقابية حدث حالة من التكلس في النقابات، وتزايد الفساد بسبب تبادل المصالح بين القيادات النقابية والإدارية، فكان هذا حافز لبدء حركة عمالية داخل الشركة.
تنامت الحركة العمالية في تلك الفترة وتزايدت فقرر وقتها صابر بركات أن يؤسس مجلة حائط عام 75 أطلقوا عليها "الفجر الجديد"، وكان اختيار الاسم بالمصادفة، وفوجئوا أن هذا الاسم هو اسم إحدى المنظمات الشيوعية السرية، وكان لها نفوذا في شركة الدلتا للحديد والصلب بشبرا الخيمة من خلال سعيد جمعة رئيس نقابة الشركة وأحد قيادتها التاريخية وزوج بنت القيادي العمالي محمود العسكري، وكان أحد رموز شبرا الخيمة ورموز منظمة "الفجر الجديد"، فتعامل أمن الدولة على اعتبار أن المجلة امتداد للتنظيم السري الشيوعي وقتها. وقد استغل صابر بركات وعمال الدلتا للصلب حالة الانفتاح السياسي، ورغبة السادات وقتها لفتح العديد من المنابر، والاستجابة لدعوة التعددية السياسية، والاختيار بين أن يكون هناك منبر اجتماعي وآخر يعبر عن العمال، فلم يتوقفوا عند حدود سور شركة الدلتا للحديد والصلب، بل تخطوه وصولاً لباقي الشركات المجاورة مثل شركات البترول في مسطرد، وإسكو للصوف وناروبين، والزجاج والبلور وغيرها من مصانع وشركات شبرا الخيمة.
لكن إرادة أمن الدولة التقت مع إدارة الشركة فصودرت المجلة، وصدر قرار بحل الأسرة، وكان للشركة ناد في وسط القاهرة له العديد من الأنشطة الثقافية والسياسية، فاستضاف وقتها إحسان عبد القدوس، ونجيب محفوظ، ورضا محرم، وخالد محي الدين، وفي فترة المنابر استضافت الجميع بدءًا من خالد محي الدين، ومحمد عبد السميع، وكمال الدين رفعت، ومصطفى كامل مراد، وذلك لتمكين العمال من اختيار منبر يعبر عنهم، ولكنهم فوجئوا بإغلاق النادي بالشمع الأحمر وانتهى الأمر. لم يكن هناك طيف سياسي موحد داخل الدلتا للحديد والصلب، بل كان هناك الشيوعي، واليساري، والوفدي، والناصري، والإخوان المسلمين، ومن ليس لهم أية انتماءات سياسية، وكان هدف الجميع الدفاع عن حقوق العمال. اقترب صابر بركات في فترة السبعينيات من حزب العمال، لكنه ظل مرشحًا وليس كادرًا داخل الحزب، وكان يطلق على نفسه ماركسي من منازلهم أي أنه كان يقرء للماركسية واليسار وأفكاره تقترب من أفكارهم لكن لم ينتم وقتها لحزب أو تنظيم بشكل قوي. وفي عام 77، كان قدمر عامان فقط على خروج صابر بركات من الجيش، وكان يطلب منه باستمرار أن يذهب كل شهر لكتيبته ليؤكد على عنوانه ويتمم على مخلته، وكان يبيت ليلة واحدة ثم يعود لعمله في الدلتا للصلب، وفي يوم 17 يناير كان بركات في كتيبته، ولم يكن يعرف ما يجري في مصر، وعندما خرج من الكتيبة فوجئ بأحداث يناير، وقتها توجه بركات إلى الدلتا للصلب واقترح على زملائه إرسال برقية لرئيس الجمهورية وقتها أنور السادات تنص البرقية "إلى السيد رئيس جمهورية مصر العربية، السيد رئيس مجلس الشعب، السيد نائب رئيس الجمهورية، السيد وزير القوى العاملة والهجرة، السيد رئيس اتحاد عمال مصر نشكر يتقدم الزميلات والزملاء بشركة مصر للدلتا والصلب بوافر الاحترام والتحية لسيادتكم على رفع الأسعار، رافعين شعار مزيد من رفع الأسعار، والفقر والجوع". لاقت فكرة التلغراف التي اقترحها بركات قبولًا شديدًا لدى العمال، وطلب صابر أن يدفع كل عامل قرش صاغ ليس لشيء سوى أن يحصى عدد الموافقين على ارسال البرقية، وبلغ العدد 600 توقيع من أصل 1000 كانوا في الوردية التي جمع فيها التوقيعات.
لم يكتف صابر بالعمال بل اتجه إلى رئيس مجلس إدارة الشركة وطلب منه التوقيع على التلغراف، فرفض ونهره، فاتجه إلى المدير الإداري وفوجئ أن لديه ضيف، وبعد ما تحدث عن الأمر كله والتلغراف لرئيس الجمهورية اكتشف أن هذا الضيف هو رئيس مباحث أمن الدولة في شبرا الخيمة، فطلب منه قرش صاغ، وسأله ألست مواطنًا مثلنا تعاني من ارتفاع الأسعار، فكان الرد حبس صابر بركات داخل مكتب المدير الإداري للشركة لمدة ساعة، إذ كان الاتفاق بينه وبين العمال أن يخرجوا الساعة الثانية ظهرًا، وأن يتوجهوا لمجلس الشعب لتسليم التلغراف، بعدما رفض مكتب بريد المطرية أن يتسلمه منهم، ولكن العمال كانوا أذكى فقرروا تأجيل موعد الخروج ساعة، وبعد خروجه توجه هو والعمال إلى ميدان التحرير بأتوبيسات الشركة، وقبل مجلة أكتوبر على الكورنيش بالقرب من ماسبيرو تم إنزالهم، فاعتبروا الأمر فرصة وقرروا السير على الأقدام في مسيرة، رددوا خلالها هتافات ضد رفع الأسعار، وتردي أوضاعهم المعيشية، وبالفعل ذهبوا إلى مجلس الشعب وطُلب منهم الدخول لتقديم التلغراف، فرفضوا خشية الاعتقال وسلموا التلغراف للموظفين، وكان وقتها رئيس مجلس الشعب الذي أصبح رئيسًا للجمهورية فيما بعد صوفي أبو طالب.
بعدها توجه العمال وصابر بركات إلى ميدان التحرير وكانت الأعداد في تزايد، وحدثت الكثير من أعمال العنف من الشرطة، فعاد العمال إلى منازلهم. وفي اليوم التالي ذهب عمال الدلتا للصلب إلى شركتهم وقرروا الإضراب عن العمل، لكن الحركة في وسط القاهرة والعديد من الأماكن الأخرى جعلتهم يتركون الشركة، خاصة بعد إعلان الإدارة أن الشركة إجازة، فخرجوا من الأبواب ركبوا الأتوبيسات وقبل منطقة المظلات أنزلوا من الأتوبيسات، فقرروا أن يسيروا على الأقدام وصولاً لشارع جسر البحر بالقرب من مستشفى الرمد بمسرة، ومنية السيرج بشارع شبرا، وحدثت اشتباكات بين العمال ومن انضم إليهم من المواطنين وتفرقوا أكثر من مرة وصولاً لميدان التحرير، وبعد وصولهم التحرير سمعوا بأعمال العنف التي انتشرت في العديد من الأماكن وبدأت الشرطة تواجه المتظاهرين وتفرق الجميع، وأعلنت حالة الطوارئ. وفي كلمة ممدوح سالم وزير الداخلية آنذاك أمام البرلمان قال إن منطقة شبرا الخيمة آمنة ولا يوجد أي تحرك في أي شركة أو مصنع باستثناء عامل مجنون، قاصدًا صابر بركات، حاول أن يخرج بالعمال لكنهم تصدوا له ورفضوا تخريب الشركة ومصر. وعاد صابر لمنزله ونصحه الكثيرون بأن يترك المنزل خشية الملاحقة الأمنية، لكن ظروفه الاجتماعية وقتها وحاجته للوظيفة لم تمكنه من ذلك فخاف أن يفصل من الشركة، بالرغم من إبلاغه بأن الشركة في عطلة لمدة ثلاثة أيام، وهو في عطلة لحين البت في موقف الشركة منه، جاءت قوات الأمن لمنزله وطلب منه الضابط أن يحضر حقيبته واعتقل بالفعل. وظل صابر في قسم شبرا الخيمة يخضع لتحقيق أمن الدولة، لمدة ثلاثة أيام، والتقى بمدير أمن القليوبية الذي وجه له السباب "حتة صرصار زيك يخليني أصحى ثلاثة أيام، شبرا كلها أمان ومافيهاش أي حاجة غيرك أنت". وظل في القسم في الغرف التي كانت على السطح، لم يكن معه سوى مجموعة من البنات الذين كانوا محكومين بفترات قليلة، وقد أطعمنه ومنحنه الماء والسجائر، إلى أن نقل إلى سجن بنها، وظل شهرًا كاملاً لا يعرف أحد عنه شيء، وعانى من الحبس الانفرادي والتعذيب، إلى أن قبض على اثنين من منطقة العمار كانوا ينتمون لحزب العمال ووزعوا منشورات ضد القانون 2 الذي عرف وقتها بقانون العائلة الذي منع فيه السادات أية محاولات لانتقاد رئيس الجمهورية أو حتى الحث على ذلك.
وقتها التقى صابر بركات بمحام إخواني كان نقيب محاميي القليوبية، وطلب أن يترافع عنه أمام النيابة، فاشترط عليه أن يدافع عن حقه فيما فعل وفقط، وبالفعل ترافع عنه وحصل على إفراج، لكن وقتها لم يكن الإفراج يتم إلا بعد مرور شهر ليتمكن رئيس الجمهورية من الاعتراض على قرار الإفراج إذا رغب في ذلك، ولا يخرج الشخص إلا في الإفراج الثاني، وبالفعل خرج صابر بركات من السجن ليبدأ مشوار جديد مع شركة الدلتا في محاولة عودته للعمل. بعد خروجه من السجن ذهب بركات إلى إدارة الشركة طالبًا عودته للعمل، فرفضت إدارة الشركة وطلبت منه أن يأتي بما يثبت خروجه من السجن فذهب إلى مسؤول أمن الدولة وقتها وكان يدعى حسن حسني، فرفض منحه شهادة تفيد خروجه من السجن، وظل متعنتًا معه حتى وصل به الأمر إلى أن ذهب إلى منزل صابر بركات وهو غير موجود وفتش في أغراضه، وعندما عاد بركات إلى منزله أخبرته والدته بما جرى فذهب إلى حسن حسني رئيس مكتب مكافحة الشيوعية في شبرا الخيمة وقتها غاضبًا فتبادلا الضرب وتجمع المجندون والمخبرون على بركات وأشبعوه ضربًا. وفي نهاية العام عقد مؤتمر بحضور رئيس شركة الدلتا للصلب وممدوح سالم الذي أصبح رئيسًا للوزراء بعد أن كان وزيرًا للداخلية في أحداث 17 و18 يناير، ودخل بركات للمؤتمر وقرر أن يتحدث عن أزمة عودته للشركة أمام الجميع، فطلب ممدوح سالم من رئيس شركة الدلتا للصلب بأن يعيده إلى عمله، وبالفعل أعيد للعمل في أماكن هامشية في الشركة بالمخازن التي رفض رئيسها استقباله خشية المشكلات والأزمات، وبالمشتروات التي طلب رئيسها من بركات ألا يأتي إلى العمل وأن يكتفي بالوجود يومًا أو اثنين في الأسبوع، وبالفعل استغل بركات ذلك الوضع وقرر أن يدرس بكلية الحقوق. وبعد شهور قليلة في 28 سبتمبر ألقي القبض على صابر بركات بسبب إصرار رئيس مكتب مكافحة الشيوعية وقتها في ملاحقته، وظل هكذا من عام 77 ل 82 أيام قليلة خارج السجن والأكثر داخله، فاعتقل مع حزب العمال، والحزب الشيوعي، والتيار الثوري، وفي قبضة اغتيال السادات وغيرها، إلى أن توفيت والدة بركات وهو في السجن عام 82، وحرم من وداعها، بل وتوفي أخوه بالعراق وأرسل إليه أبناء شقيقة بخطاب يطلبون منه أن يخرجهم من العراق حيث يعانون المشكلات بعد وفاة أخيه، إلا أنه لم يكتشف ذلك الأمر إلا بعد خروجه من السجن وبالمصادفة. لم ينهه السجن ولا وفاة والدته وشقيقه وهو معتقل دوره النقابي والسياسي والنضالي بل ظل يدافع عن حقوق العمال ويدفع الثمن من حريته وحياته فكان له دور بارز في الإضراب الشهير لعمال الحديد والصلب الذي حدث عام 89 فكتب البيان الذي كان بمثابة البداية، واعتقل وسط عشرات بل مئات الطلاب والعمال من جميع المناطق، وأسس مع آخرين اللجنة التنسيقية لعمال مصر التي كان تسعى للدعم والمساندة لكل الإضرابات العمالية.