رؤى
فؤاد مرسيصناعة الصورة الذهنية في التراث الشعبي
2021.03.01
صناعة الصورة الذهنية في التراث الشعبي
حين زار الرحالة الدمشقي عبد الغني النابلسي القاهرة، عام 1105 هـ، كان من بين المعتقدات السائدة بين الناس، حسبما قال، إن البنت لم يتيسر لها الزواج، تأتي الجامع الفخري، الذي اشتهر باسم جامع البنات، في يوم الجمعة والناس في الصلاة وتجلس في مكان هناك، فإذا كان الناس في السجدة الأولى من الركعة الأولى من صلاة الجمعة تمر بين الصفين، وتذهب فيتيسر لها الزوج.
وعبد الغني النابلسي (1050 - 1143 هـ / 1641 - 1731م)، فقيه متصوف وأديب ورحالة، ولد ونشأ في دمشق. دوّن رحلاته في ثلاثة كتب، الأول هو: حلة الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز، المعروف بالرحلة الصغرى، التي قام بها عام 1100 هـ، والثاني وهي الرحلة الوسطى المسماة "الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية، قام بها 1101 هـ، أما رحلته للقاهرة فكانت ضمن الرحلة الكبرى التي قام بها عام 1105هـ وسجلها عام 1110 هـ. وسماها "الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز".
كان تدوين عبد الغني النابلسي لهذا المعتقد أول وأوحد تأريخ له نقابله في كتب الرحالة والمؤرخين، فلم يذكره أحد قبله، ويبدو أنه كوّنه من حكايات الناس المتداولة في ذلك الزمان، ومن بينها تلك الحكاية التي كانت تسري في هشيم الحياة الشعبية فتؤججها بالأحلام والآمال، مما ساعد البعض على إدخال تعديلات عليها، كأي نص شعبي حي، مرن ومتجدد، يسمح بالحذف منه والإضافة إليه، كما كان تدوين "النابلسي" لها هو المصدر الذي اعتمد عليه كل من مرّ على هذا الموضوع.
وحين زار "النابلسي" مصر كان قد مضى على افتتاح الجامع الفخري نحو ثلاثة قرون إلا قليلًا، فقد افتتح الجامع للصلاة في نهاية شهر شعبان عام 821 هـ.
وفيما بين التاريخين مسافة حافلة بالمتغيرات التي عملت على محو السيرة الأصلية لباني الجامع، وإحلالها بسيرة ثانية أكثر إشراقًا، لتوقفنا أمام واحدة من أبرع صناعات الدهاء والمكر، التي أسست وهمها على تيمات دينية ومعتقدات شعبية راسخة، كمنت وراءها ومررت من خلالها أكذوبتها التاريخية، التي استثمرت ضحالة وعي واستمراء دعته وسكونه للخرافي والمجهول المشوِّق.
فباني ص هو الأمير فخر الدين عبد الغني بن عبد الرازق بن أبي الفرج، كان واليا على إقليم الشرقية في زمن الملك فرج بن برقوق، ثم عمل كاشفًا للوجه البحري في عهد، خلفه، الملك المؤيد (815 - 824 هـ/1412 - 1421م)، وأستادارا له، فضلا عن تقلده الوزارة. وكان مملوكًا من أصل أرمني، ينتسب لعائلة (ابن نيقولا الكاتب، وهي عائلة ضالعة في العمل السياسي، فأبوه "عبد الرازق بن تاج الدين" الذي تقلد عدة وظائف في الدولة حتى صار أستادارا ووزيرا أيضًا.
وكانت وظيفة الأستادار من الوظائف المهمة في العصر المملوكي، وهي وظيفة إدارية يضطلع شاغلها بأمر البيوت السلطانية من النواحي كافة، فهو المشرف على المطبخ ومستلزمات الحاشية والغلمان، وله واسع التصرف فيما تحتاجه هذه البيوت بما فيها نفقتها. كما عيِّن الأمير فخر الدين عبد الغني، مشيرًا للدولة سنة 819 ه/ 1416 م، وذلك بالإضافة إلى منصبي الأستادرارية وكشوفية الوجه البحري. وكان شاغل تلك الوظيف يجمع بين وظائف عدة في وقت واحد، من بينها أنه كان يتكلم باسم السلطان ويشرف على الدواوين السلطانية ويراقب أعمال ومشروعات الدولة، لذا كان يُختار لها من يتمتع بكفاءة إدارية عالية إضافة إلى قوة الشخصية، فضلا عن أن الوزراء كانوا يراجعونه في كل الأمور، وربما لا يقدمون على اتخاذ قرار قبل مشورته، وأحيانا كان ينفرد بإصدار القرارات دون الرجوع للسلطان. ومن ثَم يمكننا أن نعرف المكانة التي كان يتبوأها ذلك الرجل الفذ في تلك الحقبة.
المهم هو أن ما اشتهر عن ذلك الأمير هو براعته وقسوته في جمع الأموال من الناس، واستنادًا إلى ما أورده المقريزي بشأنه، كان له في ذلك النهج فنون لم يدانه فيها أحد، نعم؛ كان واحدًا من منظومة أوقعت بالأهالي من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم، ولا حكايته بقول، من كثرته وشناعته، لكنه كان أمدهم باعًا، وأقواهم في الظلم ذراعًا، وأنفذهم في ضرر الناس أمرًا، وأشنعهم في الفساد ذكرًا.
وكان من بين ظلمه أنه سطا على أحد الدور بخط بين السورين - فيما بين باب الخوخة وباب سعادة - وشرع في عمارتها، وعمارة ما حولها، وما تجاهها من بر الخليج الغربي، فأخذ من الناس مستلزمات العمارة بغير ثمن، أو بأقل ثمن، وتفنن أعوانه في ظلم من يستدعيه بهم إلى هذه العمارة.
كما كان من بين أعماله أنه هدم الدور التي بالأحكار فيما بين ظهر المقس حتى قنطرة الموسكي ليعمل مكانها بستانًا، فأتى الهدم على ما لا يدخل تحت حصر من الدور والرباع والمساجد والأسواق، وغير ذلك مما يكون قدر مدينة من مدن الشام.
وقد تفانى في خدمة الملك المؤيد، وظهر من مخدومه عليه إقبال كثير، لكثرة ما يحمله لخزانته، ويقوم به من المهمات السلطانية.
ويبدو أن الأمور كانت قد ساءت بينه وبين الملك المؤيد بسبب مسالكه المتعسفة، ففي غياب السلطان المؤيد ببلاد الشام عام 816 هـ، أظهر المظالم في البلاد حتى شتت الفلاحين وأخرب غالب البلاد وجبى الأموال بالتعسف، ففر عن مخدومه، متخوفًا منه إلى بغداد، ثم بعث إليه السلطان منديل الأمان فحضر إلى مخدومه، الذي أعاده إلى الأستدارية عام 819 ه، كما كان. وبالغ في الخدمة، ويبدو أن الدافع وراء إعادته إلى مناصبه هو الغلاء الذي كان قد عمّ البلاد وأدى بها إلى حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، وإزاء خبرة فخر الدين عبد الغني وبراعته في جمع الأموال، يبدو أن المؤيد رأى الاستعانة به لاستعادة السيطرة على الأوضاع الاقتصادية، لكن ما إن سافر السلطان مرة أخرى حتى عاد فخر الدين عبد الغني إلى سيرته الأولى، ففي رجب سنة 820 ه: سافر إلى الوجه القبلي وسطا على أموال الناس ومشايخ العربان، فأخذ من الأبقار ستة آلاف رأس ومن الأغنام ثمانية ألف رأس، ومن الجمال ألف جمل، ومن قطر السكر ألف قنطار، ومن الرقيق ألف رأس، وحصل منه في غياب السلطان للناس الضرر الشامل.
وكان في شهر محرم من العام ذاته، قد سار بأتباعه إلى الوجه البحري، لتحصيل المال: وجبى جميع تلك الأعمال البحرية بفريضة ذهب، يقرره على كل قرية من قرى ديوان السلطان، وقرى الأمراء والأجناد، لم يترك بلدًا من بلدان الوجه البحري حتى أخذ منه ما قرره على أهله، فكان لا يأخذ إلا الذهب فقط، فتحسن سعر الذهب لكثرة طلبه، وبلغ الدينار المصري مائتين وستين، بعد مائتين وثلاثين، وتتبع مع ذلك كل من يشار إليه بغنى أو مال، فأخذ مالًا كثيرًا من مصادرات الناس، سوى ما ساق من الخيل والجمال وغيرها، فأنزل بالإقليم من الخلل ما خيف عواقبه. وداخل الخوف الكثير من الناس أن يوقع بهم الأمير فخر الدينـ فقد شملت الجباية أهل النواحي عن آخرهم، ولم يعف عن أحد منهم البتة، وكانت لا تصل إليه مئة دينار إلا وأخذ أعوانه مثلها، فأخذ لنفسه ولأعوانه مالًا كثيرًا ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها، فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم، وكانت أكثر ما تبلغ الجيدة منهن إلى ألفي درهم، فجبى من الوجه البحري على اسم الجاموس مالًا جمًا.
وكان أول من ابتدع سعري صرف للعملة الواحدة، فقد: ألزم الصيارفة ألا تأخذ الدراهم المؤيدي إلا من حساب سبعة دراهم ونصف، فيما هو محسوب على الناس بثمانية دراهم، وألزمهم أيضًا ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمئة وخمسين درهمًا للقنطار، وهو إلى الناس بستمئة درهم، فإذا أمر بصرف الفلوس على أحد حسب عليه بستمئة درهم القنطار، وربما كان هذا الذي حسبت عليه بستمئة قد أخذت منه أمس بخمسمئة وخمسين، وألزمهم أيضًا أن لا يقبضوا الذهب الأفرنتي إلا من حساب مئتين وثلاثين الدينار، وهو معدود على الناس بمئتين وستين، وإذا صرف لأحد ذهبًا يحسبه عليه بمئتين وستين، وكان لا يورد أحد لديوان السلطان ألف درهم إلا ويحتاج إلى غرامة مثلها، أو قريب منها، ثم إنه ألزم صيارفته، ومقدميه، وشادي أعماله، ومباشريها، وولاتها، بمال قرره عليهم، في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس، فما من مرة إلا وهم يبالغون في ظلم الناس، حتى يفضل لهم بعد المصادرة شيء، ثم أنه: لما عاد من الوجه البحري وسار إلى بلاد الصعيد أوقع بلهائه على الأشمونين، وكسرهم، وساق من الأغنام والأبقار والجمال والخيل شيئًا كثيرًا فرقه على أهل الوجه البحري بأغلى الأثمان، وراح يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري، ومع ذلك فقد شمل باعة مصر والقاهرة رماية البضائع عليهم، من السكر والعسل والصابون والقمح وغير ذلك، حيث كان قد اشترى من الإسكندرية وغيرها بضائع كثيرة.
واستمر على هذا النحو حتى مات، في 15 شوال سنة 821 هـ. ودفن بجامعه الذي بناه بين السورين بعد تمام بنائه وافتتاحه بنحو بشهرين.
وهذا هو الجامع المقصود حاليًا بجامع البنات، ويقع بشارع بورسعيد، بالقرب من شارع الأزهر، واحتفل بافتتاحه يوم الجمعة 28 شعبان 821 هـ. ووفقًا لعبد الرحمن زكي، في موسوعته "مدينة القاهرة في ألف عام"؛ فقد خصصت به دروس للتصوف والفقه على المذاهب الأربعة، وتولى التدريس فيها علماء كثيرون. وللجامع بابان ومئذنة وسبيل يعلوه كتاب. أما الصحن فمكشوف كعادة الطراز المملوكي، يحيط به أربعة إيوانات، أكبرها الإيوان الشرقي، يغطي قسمه الأوسط سقف به زخارف ومكتوب به تاريخ تجديد لجنة حفظ الآثار له في عام 1813هـ/ 1895م. وكانت لجنة حفظ الآثار العربية قد أصلحت الإيوانين الشرقي والغربي وعملت سقوفًا جديدة لهما.. وقوذمت الجدران ودعمتها.. كما أصلحت الأرضيات والشبابيك الجصية والمنبر والأبواب النحاسية. (حسن عبد الوهاب: تاريخ المساجد، ج 1). وللجامع محراب بسيط ومنبر مطعم وحلي داخله وسلمه بزخارف هندسية حفرت في الخشب. ويحيط بالصحن أربعة أبواب مصاريعها محلاة بالنحاس المفرغ، أحدهما الشرقي البحري، يوصل إلى قبر المنشئ وابنه الأمير زين الدين عبد القادر المتوفى (1430).
وقد اشتملت قاعة القبر على تركيبة من الرخام بها كتابة نصها: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا قبر أمير حاج بن محمد بن عبد الغني بن أبي الفرج أوقفه على نفسه وعلى أولاده ووالدتهم سور باي تغمدهم الله برحمته لا أعان الله من تكلم في بيعه أو باعه". (عبد الرحمن زكي، موسوعة مدينة القاهرة في ألف عام، القاهرة).
ويبدو أن الأسرة العلوية انشد اهتمامها لهذا الجامع، فقد ذكر "حسن عبد الوهاب" أنه في عام 1851م، أصلحت السيدة والدة حسين بك، نجل محمد علي واجهته الغربية وأنشأت منارته الموجودة على يمين الباب، وفي عام 1853م أضافت إليه السبيل الموجود أمامه، وأثبتت هذا كله في لوحة وثائقية.
كما اتجهت إليه أنظار لجنة حفظ الآثار العربية في عام 1895 م، وأجرت به إصلاحات عديدة، من بينها إصلاح الإيوانين: الشرقي والغربي، وأنشأت لهما سقوفًا جديدة، كما أصلحت الأرضيات الرخامية والشبابيك والمنبر والأبواب النحاسية، وأضافت إليه شبابيك ودواليب.
ويرجح العديد من الأثريين أن المخطط الأصلي للجامع لم يتضمن مكانا للدفن، بسبب قرب المكان من الخليج المصري الذي كان يمر بشارعه الرئيس (شارع بورسعيد حاليًا). ويبدو في ظن هؤلاء أن هناك من تولى إعادة تجهيز إحدى القاعات التي كانت مخصصة للدرس بحيث تكون مقبرة.
ونظرا لاستخدام الجامع في تدريس الفقه في بداية إنشائه، فقد خلط العديد من الكتاب، ومن بينهم النابلسي، بين مبنيين مختلفين حملا الاسم نفسه، وهما: المدرسة الفخرية والجامع الفخري، فكلا المشيدين يحمل لقب "فخر الدين"، غير أن المدرسة الفخرية أسبق زمنيا من الجامع الفخري، بناها واحد من أرباب الخير، هو الأمير فخر الدين أبو الفتح عثمان بن قزل الباروميّ (551 - 629ه)، أستادار الملك الكامل محمد بن العادل، وكان الفراغ منها في سنة 622 هـ.
* * *
يبدو أن الجامع الفخري لم يلق إقبالًا من الناس في البداية، بسبب من سيرة بانيه غير المحمودة، الذي كان كمن قال فيه الشاعر، (والاستشهاد هنا هو استشهاد المؤرخ ابن إياس في خضم حديثه عن جامع الملك المؤيد):
بنى جامعا لله من غير حِلّهِ فجاء بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد فرجها فليتك لا تزني ولا تتصدق
ومن هنا التقطت الخيط يد مدربة، أشاعت أن الأمير فخر الدين عبد الغني كان له سبع بنات أصبن جميعًا بالطاعون ولقين حتفهن ودفنَّ بهذا الجامع، الذي أشيعت حوله ميزة مباركة استثنائية مفادها أن العانس التي تطوف حول الجامع تفوز بزوج.
وهناك من يردد أن ثمة أزمة اعترت الحياة الاجتماعية في أواخر عهد الملك المؤيد، مفادها شح الحياة بما عطل أيادي الراغبين عن طلب الزواج، وسادت العنوسة بين الفتيات مما جعلهن يطلبن الزوج بأية طريقة، فانطلق مجذوب في شوارع القاهرة يردد الشائعة، وإزاء الأزمة الطاحنة عميت العقول عن التفكير ونسيت ما كان من باني الجامع، فهرولت البنات خلف الشائعة، يحدوهن الأمل في تحقيق المراد.
وقد راجت تلك الحكاية، التي داعبت غريزة إنسانية، قيض لها من ساهم في ترويجها، ربما دون وعي، وربما كان مُستأجرًا من أجل إذاعة المعتقد وتكريسه في نفوس العامة، بهدف إزاحة الصورة السلبية عن باني الجامع، وإكساب الجامع صفة استثنائية، تعزز من الإقبال عليه.
وهى الحالة التي نصادف لها مثيلًا تراثيا آخر، ممثلًا في ملابسات تأليف كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش"، ففي هذا الكتاب المنسوب للأسعد بن مماتي؛ نقابل شخصية قراقوش وهي عارية من الحكمة والعدل والحلم، وقد نُعتت بأحط الصفات من خلال أسلوب تهكمي ساخر، لاقى رواجًا وإقبالا كبيرين، مما أسهم في محو الصورة الإيجابية لشخصية بهاء الدين قراقوش وتحويله إلى نموذج لكل جبار، متسلط، على نقيض الصورة التاريخية التي رسمته بوصفه صاحب الإسهام الأكبر في التخلص من أذيال الدولة الفاطمية وتمكين صلاح الدين الأيوبي، فأصبح الوزير الأقرب إليه حتى إنه كان يسند إليه أمور الدولة في غيابه خارج البلاد، وتخليدًا لفطنته ونباهته وأعماله الجليلة في بناء السور الثالث للقاهرة أطلق اسمه على أحد الميادين المهمة التي كانت موجودة بحي الظاهر، وهو الميدان نفسه الذي بنى عليه بيبرس جامعه الشهير. ويقف وراء تأليف ذلك الكتاب أكثر من احتمال، أولها: المنافسة السياسية بين ابن مماتي وقراقوش، فكلاهما كان ينافس الآخر في حقيبة المناصب بشدة، وهو الرأي الذي يتفق معه المستشرق الفرنسي كازانوفا، وثانيها أن يكون ابن مماتي قد نقل الصورة الشعبية التي كانت شائعة عن قراقوش بعيدًا عن تأثيرات المؤرخين ونظراتهم الأحادية، التي كانت تتعالى غالبًا على أصوات العامة. وآخرها أن يكون الكتاب مدسوسًا على ابن مماتي من أجل تعميق الهوة بينه وبين منافسه من ناحية، وبينه وبين صلاح الدين من ناحية ثانية، إذ كان ابن مماتي ميالًا للدولة الفاطمية.
* * *
تيمات ثلاث انبنت عليها هذه الرواية، أولها الطاعون الذي كان شديد الفتك بالناس في تلك الأيام، وكان يحصد أرواح الآلاف بالجملة، حتى إن المرء كان يكتب على ذراعه اسمه مخافة أن يموت في الطريق ولا يُستدل عليه.
وبحسب تعبير الجاحظ: كانت الطواعين تقع كثيرًا، فتصير تواريخ. ويبدو أن تلك الرواية استفادت من وباء الطاعون الذي كان يضرب الجنبات المصرية عامًا بعد عام، مما تسبب في تناقص السكان من ناحية، واحتياط الأحياء لتفشي الوباء من ناحية ثانية.
كان الطاعون من المحن الكبرى التي تعطل أسباب الحياة، وفي بداية عهد المؤيد، وفقًا للمؤرخ المصري ابن إياس، وتحديدًا بعد خمسة شهور من صعوده للحكم (عام 815 ه/ 1412 م)؛ ضرب الطاعون مصر، وكثر الموت في الشباب والأطفال وعز وجود البطيخ الصيفي، والمتاح منه بيع بأضعاف ثمنه، وارتفع سعر المياه بسبب موت الجمال الناقلة لراوياته من النيل إلى الأحياء البعيدة عنه وذلك بسبب قلة العلف. ثم عاد الطاعون في محرم سنة 818 هـ، وكذا في العام التالي له، ثم عاد في عام 821 هـ، وكان أشده وأفتكه في عام 822 هـ، حيث: اشتد أمر الفناء والغلاء بالديار المصرية، وعم سائر ضواحيها، ومات من أهل القاهرة والفلاحين نحو النصف، فلما اشتد أمر الغلاء وكثر الطعن، نادى السلطان للناس أن يصوموا ثلاثة أيام متتالية، وأن يخرجوا إلى الجوامع، ويطلبوا من الله تعالى الكريم أن يكشف عنهم الفناء والغلاء ففعلوا ذلك. فلما تزايد الأمر، نزل السلطان ومعه الخليفة والقضاة الأربعة وسائر العلماء والمشايخ والصلحاء، وأمامه المصاحف على رؤوس الناس، ومعهم الأبقار والأغنام، حتى اليهود والنصارى خرجوا معه حاملين التوراة والإنجيل، وتوجهوا جميعًا إلى المكان المعروف حاليًا بصحراء المماليك، ونزل المؤيد عن فرسه وصلى على الأرض من غير سجادة، وتمرغ بوجهه على التراب وبكى، وضج الناس بالدعاء، وقرب السلطان قربانا، وذبح هناك مئة وخمسين كبشا كبارًا، وعدة أبقار وجملين، وفرقها على الفقراء والمساكين، كما فرق نحو ثلاثين ألف رغيف، وكان يومًا مشهودًا، لم يُسمع بمثله من قبل.
التيمة الثانية: البنات السبع العذارى، وهي تيمة تتكرر كثيرًا في الشواهد الفولكلورية المصرية كثيرًا، ففي البهنسا بالمنيا تنتشر حكاية السبع بنات اللاتي انضممن لجيش عمرو بن العاص، وارتدين ملابس الرجال وأبلين بلاءً حسنًا في تلك المرحلة، وبينما هن فرحات بما حققنه من إنجاز، إذ رحن يزغردن ابتهاجًا، وكشفن عن حقيقتهن، فاكتشف جيش الروم الأمر، وتسللوا إلى خيامهن ليلًا وذبحوهن.
وهناك من يقول إن هؤلاء البنات السبع - مجهولات الاسم - لم يكن مسلمات، بل هن سبع من الراهبات اشتركن مع الجيش الإسلامي في أثناء توجهه لفتح البهنسا، وبذلن أنفسهن دفاعًا عنه، حتى تعقبهن الروم وقتلهن ودفن معًا.
وإزاء هذه التضحيات النادرة خلدهن الوعي الشعبي، وتحولت ساحة مقابرهن بأعلى إحدى التلال الرملية إلى مكان طقوسي مقدس، يلجأ إليه الراغبون في الإنجاب - رجالا ونساء- أو الساعون للتخلص من متاعب الجسد غير المفهومة، أو الباحثون عن الصفاء الروحي.. أغراض شتى يجمعها طقس واحد، اسمه "الدحرجة" حيث ينام المرء على جانبه الأيمن بعد أن يعقد يديه خلف رأسه، ثم تقوم خادمة أو خادم المكان بدفعه من أعلى الجبل ليهبط متدحرجًا وهو، أو هي، على الوضع هذا. ويكرر الفعل ذاته من ثلاث إلى سبع مرات.
أما في القاهرة فالمفردة تتكرر مرتين، الأولى تتعلق بضريح السبع بنات، وهو الاسم الذي كان يطلقه عامة القاهرة على القباب السبع الموجودة بآخر القرافة الكبرى جنوب الفسطاط، وهي تسمية لا تدعمها جذور تاريخية لها، فهذه القباب شرع الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله"، في بنائها ابتداء من سنة 1009م، ودفن فيها أربعة من كبار رجال الدولة من عائلة المغربي، اتهمهم بالخيانة وقتلهم. كما دفن فيها عددًا من قواده.
وكانت هذه القباب قد تهدمت أواخر العصر الفاطمي ثم جُدد بناؤها في العصر الأيوبي وأطلق عليها اسم "مصلى الشريفة"، ثم حرف الاسم بعد ذلك وأصبح "قبة خضرة الشريفة". نسبة إلى أم أبى زيد الهلالي، صاحب السيرة الأشهر في ديوان التراث الشعبي.
وقد رجعت شهرة هذه المقابر إلى عددها الـ (7) الذي يحظى بمكانة متميزة في المعتقد الشعبي المصري وتدور حوله العديد من الممارسات والعادات الاجتماعية، إضافة إلى ما يحمله من دلالات كبرى في معظم الثقافات الإنسانية.
أما الثانية، وهي موضوعنا فتنسب إلى الحكاية المصنوعة حول بنات الأمير فخر الدين عبد الغني، السبع العذارى، اللاتي أصبن جميعًا بالطاعون ولقين حتفهن مرة واحدة، ودفن بالجامع الذي أنشأه أبوهن، وتزيد الحكاية أن الحزن أصاب الناس لموتهن على هذا النحو، وتكريمًا لهن أقبل الناس على زيارة المكان والتبرك به، ووجدت فيه العوانس حلا لمشكلة عنوستهن إذ رحن يتوافدن عليه أملًا في الزواج، كما أقبلت عليه العقيمات أيضًا أملًا في الإنجاب، وذلك بعد أن راج الاعتقاد في حل مشكلة من تلوذ بهذا الجامع.
واختلف طقس الزيارة من حالة لأخرى، فهناك من أشاع أن الطواف حول المسجد سبع مرات يفي بالمطلوب، وهناك من أشاع أن الطواف حول دكة المبلغ الموجودة في صحن المسجد سبع مرات أيضًا تحقق المراد، وثالث أشاع أنه الطواف حول البئر الموجودة بالمسجد.
التيمة الثالثة: الفضاء الزمني لممارسة الطقس، وهو يوم الجمعة الذي يحظى من بين الأيام بخصوصية وتعظيم بالغين، إذ وقعت فيه أمور وأحداث كونية عظام، فوفقًا للحديث النبوي "فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا"، "وَفِيهِ تَوَفَّى اللَّهُ آدَمَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا الْعَبْدُ شَيْئًا إِلا أَعْطَاهُ"، وكلها دلالات تتعلق بإعمار الأرض واستمرار الجنس البشري.
كل هذه الشائعات، التي تراكمت مع الزمن حققت إقبالًا كبيرًا على المكان وبات يُقصد بوصفه مكانًا مباركًا، وهي الصورة التي استقرت في وعي المصريين زمنا طويلا وتمكنت من نفوسهم، قبل أن تتحول إلى ذكرى، لم يعد منها إلا بقايا حكايات، ابتعدت كثيرًا عن سيرة صاحب المكان، الذي، حتى، لم يعد يذكره أحد، باستثناء المؤرخين.
لكنها، أيضًا، هي الصورة الواهية التي حملت بداخلها بذور تقويضها، فأي من المؤرخين الذين تصدوا لسيرة الأمير فخر الدين عبد الغني لم يذكر أنه أنجب بنات، إنما نقابل من ذريته ولدين فحسب، كلاهما ورث حقيبة المناصب التي كان يحملها الأب، الأول "عبد القادر" استقر في كشف الشرقية وولاية قطيا (ناحية الفرما) سنة 824 هـ، وله من العمر خمسة عشر سنة أو أكثر منها، وساءت سيرته هو الآخر، لعدم رشده.
فيما انتهج الابن الثاني " الأمير زين الدين" سياسة مغايرة، حين عين أستادارا، وكان ساكنًا لينًا محبًا لأهل الخير. وتوفي في سنة 833 ه ودفن على أبيه بمدرسته.
أما حكاية البنات السبع فقد دُبجت، ربما، لاستثارة عواطف الناس ومداعبة أخيلتهم، اعتمادًا على مفردات فولكلورية تتمتع بحمولة نفسية راسخة لدى العامة، تبلغ حد اليقين.