ثقافات
علا سيفصورة «ساندرز».. خواطر فوتوغرافية
2021.04.01
صورة «ساندرز».. خواطر فوتوغرافية
يتصف حفل تنصيب الرئيس الأمريكي في واشنطن بأنه يوم شديد البروتوكولية، كل شيء فيه محسوب ومدروس بدقة بالثانية والدقيقة. كما أنه يوم يوثق ويسوَّق إعلاميًّا على مستوي العالم لحظة حدوثه، حتى بل قبل بدء الأحداث بساعات؛ إذ يبدأ تصوير المنصة التي تشهد التنصيب، وخصوصًا توافد المدعوين الذين يهتم المشاهدون عبر العالم بمتابعة إطلالتهم وأزيائهم وتعبيراتهم وجوههم ولغة أجسادهم، وحتى ما وراء الكواليس عندما يتاح ذلك أمنيًّا. ولكن هذا العام، مع بدء حفل تنصيب جو بايدن، فجأة، بدأت صورة للمرشح السابق والسيناتور الحالي في الكونجرس عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرز (٧٩ عامًا) في الانتشار السريع جدًا عبر الإنترنت، حتى صارت ظاهرة كادت أن تطغى على وقائع التنصيب التي تلت أكثر حملة انتخابية مثيرة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة. وبين ليلة وضحاها أصبحت ظاهرة عالمية في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، التي غالبًا ما كانت متعاطفة تجاه بيرني (اسمه المعروف به، أما ساندرز فهو لقب واسم العائلة).
فما موضوع هذه الصورة التي لقيت كل هذا الاهتمام الفيرال الهائل على مواقع التواصل الاجتماعي؟(1)
على العكس من جميع الحضور، إطلالة ساندرز الذي كان جالسًا على كرسيه متباعدًا اجتماعيًّا، ومنتظرًا بدء مراسم الاحتفال كانت بعيدة كل البعد عن الزي الرسمي الذي كان من المتوقع أن يلتزم به ساندرز؛ بحكم أنه السيناتور الذي يمثل ولاية فيرمونت في الكونجرس الأمريكي. كان ساندرز جالسًا، يضع رجلاً على رجل مرتديًا جاكيت كاجوال رمادي اللون، وذراعاه مكتوفتان، ويلبس قفازات صوفية مزركشة ثقيلة يطلق عليها الأمريكان ميتنز (mittens)؛ لحمايته من البرد القارس، كما شوهد يحمل ظرف بريد. وعند سؤال ساندرز عن رأيه في هذه الصورة، أجاب بابتسامة أنه راضٍ تمامًا عنها، «نحن في فيرمونت (الولاية التي يمثلها في الكونجرس)، نلبس لنتفادى البرد، ولا نشعر بالقلق حيال الموضة الجيدة»، مضيفًا: «نريد الدفء.. وهذا ما فعلته اليوم». وعلى الرغم من بساطة الإجابة، فإنها تترك انطباعًا لدى الجمهور الأمريكي، وتؤكد ليس فقط أنه شخص عملي، ولا يحب المظاهر، ولكنه يعبر ضمنيًّا عما يعرفونه عنه بأنه يشعر بضائقتهم المالية في هذا الوقت الحرج، وسط العواصف الاقتصادية التي تعصرهم.
ولكن ما حصل من قفزة صاروخية بالملايين لتشيير (بمعنى نشر على مواقع التواصل الاجتماعي بالعربي المصري الدارج) الصورة يعتبر ظاهرة غريبة، لم يكن سببها فقط طرافة الصورة، أو شعبية ساندرز. فملايين الناس عبر العالم، ليس فقط الأمريكان، قاموا عبر برنامج فوتوشوب بإعادة توظيف صورة ساندرز وتحويرها وإعادة صياغتها في أوضاع مغايرة للواقع، مما أطلق العنان للخيال لرؤية ساندرز جالسًا في نفس الوضع، مع خلفية غير واقعية، سواء في زمان في عمق التاريخ مثل اجتماع مع رئيس الوزراء البريطاني تشرشل في قاعة يالتا للمؤتمرات، أو الثوري السوفيتي ستالين في الأربعينيات، أو في مكان لم تعتبه أرجل ساندرز، مثل سطح القمر مع رائد الفضاء نيل أرمسترونج أو مع عمال يعتلون قمة ناطحات السحاب في نيويورك، أو جالسًا مع الممثل المعاصر فورستر جامب والكثير غيرهما. وهنا لم يكن لساندرز أي رأي في اختيار الشخصيات والمواضع التي تظهر فيها صورته وذابت فوارق الاختلافات السياسية والحزبية والاجتماعية أمام ابتسامة ظرف والجانب الإبداعي للصور.
ولكن إن كان تعليق ساندرز على الصورة ومردودها تعليقًا إيجابيًّا مختصرًا مبديًّا القليل من عدم الاهتمام، وكأنه يقول إن هناك أمورًا أكثر أهمية تشغله فإن فريقه قد تعامل مع الموقف بشكل أكثر براجماتية وقاموا باستغلال الفرصة؛ وصنعت منتجات دعائية مستمدة لبيعها في متجر على موقع إلكتروني مخصص وهو https://store.berniesanders.com/. ونتج من حصيلة المبيعات المعتمدة على هذه الصورة ما يقرب من ٢ مليون دولار ينوي ساندرز التبرع بها لجمعيات تنموية وخيرية. وهنا نضع علامات مضيئة على تناقض إيجابي في الموقف: فساندرز يعرف نفسه بأنه ديموقراطي اشتراكي، ولكنه حيال هذا الموقف، وعلى الرغم من اشتراكيته فإنه لم يكن لديه مانع من اللجوء إلى وسائل التسويق التجاري الرأسمالية لاستجلاب مصدر تمويل للجمعيات التي يرعاها. وهو يبدو هنا إلى حد ما مثل روبن هوود الذي يلجأ للسرقة ويستحلها لإطعام من هم في عوز، وهكذا يقبل ساندرز البرانديج(2) شخصه وصورته لتزويد التمويل اللازم لمساندة الأهداف التي يدعو إليها. أما البرانديج الآخر فهي القفازات الصوفية التي كان يرتديها ساندرز؛ فهي مشغولة يدويًّا، ومهداة إليه من مدرسة اسمها جان أليس، التي بدورها تعاقدت مع شركة تجارية لصنع كميات مماثلة للبيع تجاريًّا، وإن كان ساندرز هو السبب في هذه الصفقة فإنه لن ينال، هو أو أي من الجمعيات الخيرية نصيبًا من هذه العملية التجارية التي سيؤول ربحها بالكامل لجان أليس. وإن كان ساندرز قد لزم الصمت فإنه من المتوقع بحسب ما نعرفه عن شخصيته أن يكون مناصرًا ومؤيدًا لها.
تفسير وقراءة ما وراء الصورة:
عندما نحاول فك شفرة هذه الصورة لفهمها وقراءة المعاني ما وراء الفوتوغرافيا؛ نجد عددًا من الموضوعات التي تطرح نفسها. أولاً: نتساءل لماذا نالت هذه الصورة في الأصل كل هذا الإعجاب؟ وتكمن الإجابة في البحث في صور قديمة سابقة لساندرز يمكن الاطلاع عليها بمجرد كتابة اسمه على محرك البحث جوجل والاطلاع على الملفات التي تظهر الصور فقط.. فالصور كلها من قديمها الأبيض والأسود حتى تاريخ المعركة الانتخابية هذه التي انسحب منها في ٢٠٢٠ تطلعنا على شخصية ساندرز الثورية المعترضة المهاجمة. أما هذه الصورة فكانت مغايرة جدًا لأنها تعبر عن نوع من الرضا عن الوضع الذي يراه يحدث؛ ألا وهو وصول حزبه الديموقراطي إلى الحكم. كما أن نظرة الاسترخاء والرضا هذه أيضًا يمكن أن تفسر بأنه أعفي من المهام الجسام التي كانت ستلقى على عاتقه لو كان قد فاز في الانتخابات، وتكبد مشاق المنصب. وكأنه يقول صامتًا «أنا منسحب لكن برضو مبسوط.. بمزاجي.. ومعاكم بس برواقة».
أما الموضوع الثاني؛ فهو دراسة الجانب السياسي والاجتماعي الذي حققه هذا الانتشار المدوي للصورة، على الرغم من أن المصور الفرنسي الذي التقط الصورة، برندان سميالوسكي Brendan Smialowski المقيم في واشنطن كمراسل صحفي لوكالة أجانس فرانس بِرس AFP ومتخصص في تصوير أمور السياسة والبيت الأبيض منذ ما يقرب من عقد من الزمن، يقول إنه لم يكن لديه أي توقع لما يمكن أن تُحدثه الصورة من نجاح. ولكن على الجانب الآخر ليس من المستبعد أن يكون قد تم الاستفادة من الصورة كأداة للإلهاء «بص العصفورة»؛ بهدف ترطيب الأجواء المضطربة الحادثة بسبب الخناق السياسي بين الحزبين، والذي وصل إلى أشده جراء الانتخابات الأخيرة.
ساندرز ومصر:
أما بالنسبة لنا في مصر؛ فقد كان يبدو أننا لا ناقة لنا ولا جمل بهذه الظاهرة بأكملها، حتى بدأت عملية الابتكار الفوتوغرافي. فمع كل الزخم الحاصل قام مصممون، لم أستطع التعرف عليهم ولكنني أهنئهم، بتخيل ساندرز جالسًا مع تماثيل أبو سمبل، أو أعلى سفح الهرم، أو في مواضع وأماكن فرعونية أخرى. وهي مناظر يمكننا، استغلالها لتسويق السياحة في مصر.
ومن ثَم، وبما أن الخيال متاح، ومجالي المفضل هو صور القرن التاسع عشر، فنصيبي من التجربة التخيلية هذه هو تصور للقائين لساندرز مع شخصيات في أجواء مصر في القرن التاسع عشر، من واقع صور سيبيا من أرشيف المصور الفرنسي بيشار(3).. فالتصور الأول لساندرز في جلسة حوارية مع الشيخ السادات في حوش بيته في القاهرة التاريخية، والآخر مع سيدة من النوبة مرتدية أبهى مصاغها، أو في صورة أخرى تستعير فيها القفاز من ساندرز!