أعداد خاصة

خالد عزب

عائلات النخب المصرية وثورة 1919.. عائلة محمد محمود نموذجًا

2018.06.01

عائلات النخب المصرية وثورة 1919.. عائلة محمد محمود نموذجًا

الأصول والجذور

ينتمي محمد محمود باشا سليمان  إلى  شريحة  مهمة  من  المجتمع  المصري، شريحة  أعيان  الريف،  التي  استطاعت  زيادة ممتلكاتها حين  بدأت  الدولة  في بيع  أراضيها الزراعية القابلة  للاستصلاح  في عهدي: محمد سعيد باشا، والخديوي إسماعيل،  فقد نشط هؤلاء في شراء  أراضي  الميري خلال  تلك  الفترة. وكذلك  أراضي الدومين، التي كانت ملكًا  للخديوي  إسماعيل  وأسرته،  ثم  تنازل عنها  للحكومة  في أكتوبر 1878؛ نتيجة للأزمة  المالية التي حدثت في عهده.

 كان للعمد والمشايخ من أعيان الريف دورهم السياسي، وذلك بعد أن نجحوا في تدعيم مركزهم الاقتصادي، وكان المجال العلني الذي عبرت فيه هذه الطبقة بمختلف شرائحها عن اتجاهاتها هو مجلس شورى النواب الذي أنشأه الخديوي إسماعيل عام 1866 في محاولاته للاستعانة بهذه الطبقة في مواجهة  الضغط  السياسي من جانب كل من  إنجلترا وفرنسا، بعد أن أدت الأزمة المالية  إلى اشتداد الضغط الأوروبي ممثلًا في صندوق الدين والمراقبة الثنائية، وتعيين وزيرين أوروبيين؛ أحدهما: فرنسي، والآخر: إنجليزي في الوزارة المصرية.

 في مجلس شورى النواب الثالث (1876 – 1879)، بدأ كبار الملاك والأعيان في بلورة حركة اجتماعية سياسية تتواءم مع طموحاتهم في تثبيت وتعميق حضورهم على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر، ولم  يلبث هؤلاء أن تصدوا  لاستبداد  مصطفى  باشا رياض  رئيس  مجلس النظار  «الوزراء»؛ مطالبين بحق المجلس في مناقشة الميزانية؛ حيث كان الجانب الأكبر من هذه الميزانية متعلقًا بتسديد ديون الخديوي إسماعيل، وكان العبء الأكبر في تسديد هذه الديون يقع على عاتق كبار الملاك والأعيان، لذلك طالب هذا المجلس بضرورة إقرار مبدأ المسؤولية الوزارية، وحينما حاول الخديوي إسماعيل حل هذا المجلس، تحول نوابه إلى نواة لتجمع وطني واسع؛ حيث عقد ستون منهم اجتماعًا في أبريل سنة 1879 في منزل إسماعيل باشا راغب، انضم إليهم عدد من العلماء والهيئات الاجتماعية، وفي مقدمتهم شيخ الإسلام، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود، واثنان وأربعون من الأعيان والتجار، واثنان وسبعون من الموظفين، وثلاثة وتسعون من الضباط، وسُمي هذا الاجتماع: «الجمعية العمومية»، وصدرت عنه أول وثيقة سياسية قومية في تاريخ مصر عرفت باسم: «اللائحة الوطنية»، والتي طالب أصحابها بتحويل مجلس شورى النواب إلى برلمان تشريعي، وفصل السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، وتأكيد مبدأ استجواب الحكومة أمام البرلمان.

استمرت مساهمة الأعيان في العمل الوطني أثناء الثورة العرابية، فقد أيد الأعيان الضباط في مظاهرة عابدين في سبتمبر 1881؛ كما نجحوا في تأليف مجلس نواب جديد في نفس العام، بأغلبية من العمد والأعيان، وعين محمد  باشا سلطان رئيسًا له، فكان بذلك أول رئيس له من المصريين بعد أن كانت رئاسته قاصرة على الذوات الأتراك.

غير أنه بعد تسليم القاهرة، وهزيمة العرابيين، تنصل جميع العمد والأعيان الذين وقعوا على محضر «الجمعية العمومية»، والذي رفضوا فيه تنفيذ أوامر الخديوي محمد توفيق، وزعموا أنهم وقعوه تحت تهديد رجال الجيش لهم بقتل من يمتنع منهم عن التوقيع، ويرجع ذلك لبعض مواقف رجال الثورة العرابية، الذين نهجوا نهجًا يقوم على تأليب الفلاحين على الأعيان.

بعد أن احتل الإنجليز مصر، دخل كبار الملاك من العمد  والأعيان  المصريين مرحلة  أخرى، فلم يتجه  الإنجليز  إلى  إشراكهم  في الحكم بصورة  إيجابية  إلا في وقت  متأخر، واكتفوا بما منحوه لهم في القانون الأساسي الصادر في مايو 1883، الذي نص على أن تكون هناك ثلاث هيئات نيابية: مجالس المديريات، ومجلس شورى القوانين، والجمعية العمومية.

 ومحمد محمود باشا هو أحد أبناء محمود باشا سليمان ابن الشيخ عبد العال بن عثمان بن نصر بن حسب النبي بن  طائع بن حسن بن محمد بن جامع،  الذي  ينحدر من أصل عربي  إلى  قبيلة  بني سليم  المشهورة  في  الحجاز.

 كان سليمان  بك  عبد العال عمدة لقرية ساحل سليم، وقد وصل  إلى  منصب مدير مديرية قنا في عهد  عباس حلمي  باشا الأول،  ونال رتبة البكوية،  وأصبح  سليمان  بك  عبد العال أحد أربعة من المصريين نالوا هذه الرتبة.

اختير سليمان بك عبد العال نائبًا عن ساحل سليم «قسم أبو تيج» في المجلس النيابي الأول عام 1866 – 1869 ، وامتلكت أسرته 528 فدانًا من الأطيان الخراجية بناحية الساحل عام 1879.

 أما محمود باشا سليمان، فقد أحضر له والده عندما بلغ السابعة من عمره بعض الأساتذة  لتعليمه العلوم العربية والفقهية، فنال نصيبًا كبيرًا منها، ثم عهد به إلى عمه همام بك عبد العال العضو  في  مجلس  الأحكام  بمثابة  «وزارة الحقانية»، الذي أخذه معه  إلى القاهرة؛ حيث درس بعض النحو والحساب واللغة التركية، والتحق بالجامع الأزهر لبضع سنين حيث درس العلوم والأدب.

 وعندما عاد إلى قريته عين عمدة لساحل سليم، ثم ناظرًا لقسم «أبو تيج» و«ديروط»، ومنح سلطة واسعة، ثم رقي  إلى  منصب وكيل مديرية جرجا  في  أسيوط، وذلك  لأنه  ساعد  محمد  سعيد باشا بتقديمه  الميرة للجيش ضد عربان  أولاد  المصري، الذين ثاروا على الحكومة عام 1857، ثم ترك محمود باشا سليمان وظائف الحكومة وتفرغ لإدارة أملاكه التي ورثها عن والده سليمان  بك  عبد العال، وكانت هذه الأملاك  تقع في أسيوط  وجرجا، وقد استطاع أن يضيف إلى  أملاكه200 فدان من الأراضي العشورية بناحية تاسا بمديرية أسيوط.

في انتخابات مجلس النواب عام 1881 في عهد الخديوي محمد توفيق، رشح محمود باشا سليمان نفسه وانتخب فيه، واختير عضوًا في اللجنة التي تولت الرد على خطاب العرش حيث ألقى هو الخطاب أمام الخديوي في 29 ديسمبر من نفس العام.

 ولما قامت الثورة العرابية تجنب محمود باشا سليمان الاشتراك فيها، وتذكر مجلة «الكشكول» أنه كان ضد الثائرين متضامنًا مع صديقه محمد باشا سلطان؛ إذ كان محمود باشا سليمان من أعيان الوجه القبلي الذين أرسل  إليهم محمد باشا سلطان الرسائل بعدم تقديم أية مساعدة للعرابيين.

اعتزل محمود باشا سليمان العمل السياسي بعد الثورة العرابية، وعاد مرة أخرى إلى بلدته عام 1882، وظل هناك حتى عام 1895؛ حيث عزف - على حد قول الدكتور محمد حسين هيكل - عن الاشتراك في أي عمل تحت لواء النظام الجديد الذي فرضه الإنجليز على مصر حين استصدروا من الخديوي محمد توفيق قانون مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.

غير أنه سرعان ما تحول عن رأيه، وبدأ المشاركة في الحياة السياسية مرة أخرى، ففي عام 1896 اختير محمود باشا سليمان عضوًا في مجلس مديرية أسيوط؛ كما انتخب عضوًا في مجلس شورى القوانين، ثم تجدد انتخابه عام 1899؛ حيث عين وكيلًا منتخبًا للمجلس في 22 مارس، وتم تثبيته في فبراير 1911، واستمر وكيلًا إلى أن حُلَّ المجلس عام 1912.

 ونظرًا لمرض محمود  باشا  سليمان، لم يتقدم  للاشتراك في الجمعية التشريعية، وهو النظام الجديد الذي أدخله  المندوب السامي البريطاني هوراشيو هربرت كتشنر  إلى  مصر في 21 يوليو عام 1913؛ كبديل عن مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، ويرجع عدم اشتراكه إلى وجود ولديه محمد بك محمود حيث انتخب عضوًا في الجمعية التشريعية، وعبد الرحمن بك محمود الذي انتخب عن دائرة أبو تيج في الجمعية التشريعية في نفس الفصل التشريعي.

ولعل حرص أسرة  محمود  باشا  سليمان على  الاشتراك في المجالس النيابية كبقية  الأعيان،  كان  رغبة منهم في مزيد من السلطة؛ لزيادة  نفوذهم، وحماية مصالحهم،  وأيضًا  لتأصيل هيبتهم في مديرياتهم. 

 وعقب توقيع الاتفاق الودي بين كل من بريطانيا وفرنسا عام 1904، تغيرت السياسة البريطانية في مصر من الاعتدال والمهادنة والمراوغة بالوعود المتكررة بقرب موعد الجلاء، إلى العنف والتهديد باستمرار الاحتلال، وشعر الشعب المصري بخيبة أمل كبيرة نتيجة لتراجع فرنسا، التي كان يعتمد عليها في نضاله لتحقيق الجلاء، وكان رد الفعل الطبيعي لفشل سياسة الاعتماد على الدول الخارجية في الحصول على الاستقلال، هو ظهور اتجاه يدعو إلى القومية المصرية، واعتماد المصريين على أنفسهم في الكفاح، وساعد على ظهور هذا الاتجاه  تيار الثقافة الليبرالية الغربية، الذي هب على مصر إثر عودة أبناء الأعيان، الذين تأثرت ثقافتهم وعقيدتهم بالمذاهب الفكرية والسياسية في غرب أوروبا، ثم عادوا إلى بلادهم يحملون بذور هذه الثقافة الحديثة، وليشنوا حملة على ما يتردى فيه وطنهم من تخلف فكري وحضاري، ونجح هذا الاتجاه في تحويل تيار الحركة الوطنية من الصبر والتواكل والاعتماد على الغير، إلى الاعتماد على الشعب المصري؛ كما أحدثت آراؤهم ومعتقداتهم الجديدة انقلابًا فكريًّا في السياسة المصرية، تمثل في الدعوة إلى الاستقلال التام، فاشتد تيار السخط والغضب بين المصريين تجاه السياسة البريطانية.

 وقد تزعم هذا الاتجاه أحمد لطفي السيد بك، الذي حاول تحقيق غايته، فتشاور مع محمد بك محمود بشأن إصدار جريدة تعبر عن فكرهم، وتدعو إلى اتجاههم الجديد، الذي عبر عنه بقوله: «جريدة لا تدور في فلك الخديوي، ولا ترتبط بالوكالة البريطانية». وكان من وجهة نظر الصفوة المثقفة ومنهم الشيخ محمد عبده، أنه ما دامت هناك صحيفة كصحيفة «المؤيد» تناصر المندوب السامي البريطاني، فلا بد من ظهور صحيفة أخرى تحاسب الاثنين معًا.
 وعلى هذا، فبعد أن عقد  كلاهما  النية، بدأت خطوات التنفيذ، فقام  عبد العزيز  بك  فهمي  بوضع قانون شركة الجريدة، واختاروا محمود  باشا  سليمان (والد محمد  بك  محمود) رئيسًا للشركة، وحسن  باشا  عبد الرازق وكيلًا، وأحمد لطفي السيد  بك رئيسًا لتحريرها، وعقدوا اجتماعًا في فندق الكونتيننتال، وبعد الاتفاق على السياسة والمبادئ التي تقوم عليها صحيفة «الجريدة»، صدر العدد الأول منها في 9 مارس عام 1907؛ حيث أخذت تنشر دعوتها الفكرية والسياسية في أسلوب اتسم بالكياسة والاعتدال، وفي 20 سبتمبر عام 1907، أعلن حسن باشا  عبد الرازق أن الجمعية العمومية لشركة الجريدة، قررت تحويل شركة الجريدة إلى حزب سياسي  باسم: «حزب الأمة»، برئاسة محمود باشا سليمان، وحسن  باشا  عبد الرازق  وعلي  باشا  شعراوي  وكيلين،  وأحمد  لطفي  السيد  بك سكرتيرًا  عامًّا.

 وقد نالت مكانة محمود باشا سليمان السياسية قبولًا من جميع أطراف الخلاف الديني الذي تفجر في ذلك  الحين  نتيجة مقتل بطرس باشا غالي، فعند حدوث الخلاف بين المسلمين  والأقباط  كان محمود  باشا  سليمان من الذين تقدموا للقضاء عليه، فقد كان وكيلًا للمؤتمر المصري الذي عقد في عام 1911 من أجل إزالة هذا الخلاف.

وقد استمر محمود باشا سليمان رئيسًا للحزب حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914.

  لم يختلف موقف محمود باشا سليمان من الخديوي عباس حلمي الثاني ومن الاحتلال عن موقف غالبية الأعيان، من العداء  للخديوي  وتأييد  الإنجليز، وذلك على الرغم من  أن  محمود  باشا  سليمان  كان من  الأعيان  الذين  أيدوا  الخديوي عباس حلمي  الثاني خلال  الأزمة  الوزارية عام 1893، كذلك ألقى محمود باشا سليمان  خطبة  أمام الخديوي عباس حلمي الثاني عندما زاره في منزله عام 1893، عبر فيها عن ولائه وإخلاصه.

غير أن  الأعيان  لم يلتزموا بسياسة واحدة سواء تجاه الخديوي  أو  الاحتلال، مثلما حدث عام 1908 بعد  مجيء  إلدن  جورست  المندوب السامي  البريطاني، وانتهاجه سياسة الوفاق مع الخديوي عباس حلمي  الثاني  وأهمل الأعيان، الذين حاولوا بدورهم تحسين علاقاتهم مع الخديوي، غير أن العداء استمر غالبًا على العموم.

وفي محاولة  للأعيان وخاصة  أعضاء حزب  =الأمة لتحسين العلاقة بينهم وبين الخديوي، قبَّل محمود باشا سليمان يد الخديوي مرتين في الجمعية العمومية عام 1909، وإن كان قد تخلف عن توديع الخديوي عندما سافر إلى الحج في ديسمبر عام 1909، متعللًا بمرضه.

 أما عن علاقة محمود  باشا  سليمان  بالإنجليز؛  فقد سلك مسلك  الأعيان  في  تأييد الإنجليز، حتى  مجيء جورست عام 1908 عندما تغير موقفهم نتيجة الوفاق بينه وبين الخديوي، أما  علاقته  باللورد كرومر، فقد ارتبط محمود  باشا  سليمان  بعلاقات الصداقة، فحينما أصدر الأعيان صحيفة «الجريدة» في مارس عام 1907 قيل: إنها  قامت بوحي من كرومر؛ حيث كاشف أنصاره المترددين عليه ومنهم محمود باشا سليمان بتلك الفكرة،  فأطلعوه على رغبة الشيخ محمد عبده في إصدار صحيفة تعبر عن الأعيان، ولكن وفاته حالت دون إصدارها.

 وبالنسبة لما يقال عن  أن  الإنجليز قد عرضوا عرش مصر على  محمود باشا سليمان بعد وفاة  السلطان حسين كامل، ورفض محمود  باشا  سليمان ذلك العرض؛ لأنه جاء عن رغبة الإنجليز، فإنه ذو دلالة كبرى على مدى  حجم  أسرة  محمود  باش ا سليمان، التي عُدَّت من أكبر الأسر المصرية،  إلى حد ترشيح عميدها سلطانًا على مصر، وأيضًا  تؤكد على مصرية هذه  الأسرة؛ لأنه كانت هناك شخصيات  أكبر من محمود باشا  سليمان،  غير أنه تميز عنها بأنه من أصل مصري.

 عندما انتهت الحرب العالمية الأولى  وأعلن  قرار الهدنة، لم يكن على مسرح السياسة المصرية سوى رجال حزب الأمة  وأعضاء  الجمعية التشريعية، الذين كانوا  إما  أعضاء  في حزب الأمة، أو من ذوي الميول المتقاربة معه،  أما  الحزب الوطني فقد خفت صوته واختفى  من على مسرح السياسة المصرية في هذه الحقبة المهمة من تاريخ  البلاد، بعد وفاة  مصطفى باشا كامل، واضطرار  محمد  بك  فريد  للهرب بسبب  اضطهاد  السلطات  الإنجليزية  له.

 ترتب على  هذا الوضع  أن  بات الشعب المصري يفتقد الزعيم الوطني الذي ينظم صفوفه ويتولى  قيادته،  وأصبحت  الحاجة ماسة وملحة  لظهور القيادة  الوطنية   لكي  تتولى   قيادته،  ولم  يطل  انتظار  الشعب  لها، فظهرت  القيادة  المطلوبة،  وكان من  الطبيعي أن  يأتي ظهورها  من بين رجال حزب الأمة  وأعضاء  الجمعية التشريعية، بعد أن خلا لهم الجو، وبعد أن عرفوا بالاعتدال تمشيًا مع روح العصر، وبما يتناسب مع الوضع الدولي لبريطانيا بعد الحرب.

قدر لرجال حزب الأمة أن يتولوا زمام المبادرة؛ كما قدر لسياستهم أن تطغى على ما عداها، بسبب اختفاء رجال الحزب الوطني، وعدم مواءمة سياستهم لروح العصر، لهذا كان السعي إلى حل القضية الوطنية مع بريطانيا وحدها فكرة حزب الأمة وحده، فاستطاع فيلسوف الحزب أحمد لطفي السيد  بك  أن  يعمق الشعور لدى  المصريين، بأن مصير بلادهم رهن بإرادتهم  وإرادة بريطانيا وحدها، وكان لا بد أن يبرز في الميدان شخصية لم تعرف من قبل بطابع العداء الشديد لبريطانيا والسلطات البريطانية في مصر؛ إذ لم يكن من المنطق إملاء الشروط على بريطانيا بعد أن خرجت من الحرب منتصرة.

في عام 1914 اعتزل محمود باشا سليمان الحياة العامة، معتكفًا في بلدته ساحل سليم؛ حيث كان قد تجاوز الثمانين، غير أنه في عام 1918 ومع بداية النهضة الوطنية، خرج من عزلته، فأصبح منزله مقرًّا للحركة الوطنية، ومع اندلاع ثورة عام 1919 وتكوين لجنة الوفد المركزية في أبريل 191، رأسها محمود باشا سليمان، وذلك بعد سفر الوفد المصري إلى أوروبا؛ حيث كان بمثابة الأب الروحي  لأعضاء اللجنة.

وقد استطاع محمود باشا سليمان أن يقود سفينة الوفد في مصر، فعندما  وصلت برقية من الوفد في أوروبا  إلى محمود  باشا  سليمان  برغبة  الأعضاء  في العودة  إلى  مصر، على  أثر اعتراف  الولايات المتحدة الأمريكية  بالحماية  البريطانية  على مصر، علق قائلًا:

“كل من  أفشى سر هذه البرقية عددته عدوًّا لهذا الوطن، فلينفقوا ما جمعنا له من أموال  الأمة،  فإذا نفدت فليعودوا،  أما  الآن  فليظلوا يواصلون السعي؛  ذلك هو الجواب الوحيد  الذي  يجب  أن  نجيب  به”.

كما يذكر لمحمود  باشا  سليمان رفضه لأوامر  السلطات العسكرية  الإنجليزية  بأن يلزم منزله، وأجاب قائلًا:

“أنا الذي يحق لي أن أقول لهم: اخرجوا من بلدي، وليس يحق لهم أن يحرموني حريتي في وطني”.

 غير أنه أرغم على ترك القاهرة والإقامة في ساحل سليم بعد مقابلته الشهيرة مع اللورد اللنبي، ثم ساءت حالته الصحية، واضطر إلى اعتزال السياسة العامة، ويعتبر اشتراك محمود باشا سليمان في أحداث ثورة 1919 امتدادًا لدور طبقة الأعيان في الثورة، الذين تمسكوا بالخيار السلمي في الحصول على الاستقلال.

 وذلك ما ظهر بعد اجتماع كبار الملاك - ومنهم  محمود  باشا  سليمان - باللورد  اللنبي  في  26 مارس  عام 1919؛ حيث تمخض الاجتماع عن توجيه الأعيان نداءً في الصحف إلى الشعب المصري، يطالبونه بالهدوء ووقف كل أعمال العنف. كما أيد محمود باشا سليمان وأولاده دخول مصر في المفاوضات الرسمية عام 1920.

 من المشهود  لمحمود  باشا  سليمان،  أنه أدى  دورًا اجتماعيًّا  كبيرًا؛ حيث أوقف  قطعة  أرض من  أجل  إنشاء  مدرسة صناعية  بأسيوط؛ حيث تنازل عن هذه المدرسة وما وقف عليها لمجلس مديرية أسيوط؛ ليتولى إدارة شؤونها بعقد تاريخه 26 يناير عام 1913، يخوله الحق في استردادها من المجلس إذا لم يقم بتنفيذ شرط الوقف.

 وقد  توفي  محمود  باشا سليمان في 22 من يناير عام 1929، بعد أن بلغ من العمر عتيًّا، تاركًا أربعة من الأبناء، وهم: حفني محمود باشا، ومحمد محمود باشا، وعلي بك محمود، وابنة واحدة.

النشأة والتعليم:

ولد محمد محمود باشا ابن محمود باشا سليمان ابن الشيخ عبد العال بن عثمان بن نصر بن حسب النبي بن طائع بن حسن بن محمد بن جامع،  في  الرابع  من  أبريل  عام 1878، في قرية ساحل سليم، مركز أبو تيج،  مديرية أسيوط، في عام 1892 نال محمد  محمود باشا  الشهادة  الابتدائية  من مدرسة  أسيوط  الابتدائية،  ثم انتقل  إلى  القاهرة حيث التحق  بالمدرسة  التوفيقية، وأتم تعليمه بها في عام 1897 .
 بعد  إتمام  تعليمه الثانوي  أرسله والده محمود باشا سليمان،  إلى كلية باليول  في جامعة  أكسفورد  في  إنجلترا؛ حيث نجح في الحصول على دبلوم علم التاريخ الحديث، فكان أول مصري يتخرج من جامعة أكسفورد.

 صناعة سياسي:

في أواخر عام 1900 استدعى محمود باشا سليمان ابنه محمد من لندن لتولي وظيفة مهمة في إحدى النظارات، وعقب عودته عين محمد أفندي محمود في وظيفة وكيل مفتش تحت الاختبار في وزارة المالية في الأول من يناير عام 1901، ثم رقي إلى وكيل مفتش بذات الوزارة في الأول من ديسمبر عام 1902 ، ثم انتقل إلى وزارة الداخلية حيث عين مساعد مفتش في الأول  من يناير  عام  1904 ،  ثم عين سكرتيرًا خصوصيًّا لمستشار وزير الداخلية المستر ميتشل في الأول من نوفمبر عام 1905 حتى 28 من نوفمبر عام 1906، وفي تلك الفترة حصل على رتبة البكوية في الرابع من مارس 1906.

خلال  تلك  الفترة  الممتدة  ما بين  عام  1901  إلى  1906،  أثبت محمد محمود كفاءة عملية  وإدارية، نال من خلالها رضاء رؤسائه، مما رشحه إلى تولي منصب مدير الفيوم.
في 29 من نوفمبر عام 1906 عين محمد بك محمود مديرًا للفيوم، وقد شهدت فترة عمله في الفيوم اصطدامه بشخص الخديوي عباس حلمي الثاني؛ حيث كانت تتنافس عائلتان على منصب العمودية، وفازت إحداهما مما أغضب العائلة الأخرى التي كانت على صلة بالخديوي، وقد اتهمت المأمور بقبول رشوة، ومساندة العائلة الأخرى ضدها.

 وفي أثناء إحدى  التشريفات الخديوية، أخبر الخديوي محمد  بك  محمود بفساد المأمور، ولكن  محمد  بك  محمود دافع عنه ونفى هذه التهمة، مما أغضب الخديوي، وتدخل المندوب السامي البريطاني لإرضائه، وأوقف المأمور.
وقد أثرت هذه الأزمة على العلاقة بين الخديوي عباس حلمي الثاني ومحمد بك محمود؛ مما دفعه إلى تقديم استقالته على إثر تجاهله في حركة الترقيات عام 1909، غير أنه تراجع عنها بعد تدخل الوكالة البريطانية.
 وقد وصف سعد باشا زغلول عندما كان وزيرًا للمعارف، محمد بك محمود عندما كان مديرًا للفيوم أثناء زيارته للفيوم، بأنه لاحظ أنه كان شخصية نالت احترام الأهالي؛ كما كان محمد بك محمود وراء إنشاء مدرسة البنات في عام 1908؛ حيث استطاع الحصول على منحة من ديوان الأوقاف كل عام لهذه المدرسة.

وقد استمر محمد محمود مديرًا للفيوم إلى 28 فبراير عام 1910، انتقل  بعدها  ليصبح محافظًا  للقنال، وقد حصل خلال فتر ة توليه  على  رتبة  التمايز  في  الثالث  من فبراير 1907 .
في الأول من مارس عام 1910 عين محمد بك محمود محافظًا للقنال، وقد شهدت فترة عمله مجموعة من الأحداث، لعل أهمها: تصادف مرور ملك إنجلترا جورج الخامس متجهًا إلى الهند، فاستقبله محمد بك محمود بصفة رسمية، ورحب به أشد الترحيب، وأقام له الزينات على حسابه الخاص، ويقال: إنه بسبب هذا الاستقبال الأسطوري، رقي إلى مدير من الدرجة الأولى في مديرية البحيرة بعد ذلك.

 كما يذكر لمحمد بك محمود أنه أثناء عمله محافظًا للقنال، تدخل لحماية مصالح العمال المصريين العاملين في شركة قنال السويس، وزيادة مرتباتهم، وتحسين معاشهم، والتقليل من ساعات العمل لهم، ومساواتهم بالموظفين الأجانب.
وخلال توليه هذا المنصب حصل على النيشان العثماني الثاني في 19 يونيه عام 1911، وقد استمر محمد بك محمود محافظًا للقنال إلى الثالث من يناير عام 1914؛ حيث نقل بعدها ليعمل مديرًا للبحيرة.

 في الثالث من يناير عام 1914 عين محمد بك محمود مديرًا للبحيرة، وقد شهدت  فترة توليه  للمديرية  تدهور العلاقة بينه وبين السلطات  الإنجليزية،  نتيجة رفضه تنفيذ أوامر السلطات الإنجليزية بزيادة المتحصل من الضرائب على الأهالي؛ كما شهدت فترة  توليه حصوله  على نيشان  الكوماندور في الكفاءة الزراعية من الحكومة الفرنسية في 23 من مارس 1914، وحصوله على رتبة الباشوية في 13 يوليو 1915 .
وقد استمر محمد محمود باشا في منصبه مديرًا للبحيرة إلى الرابع من أغسطس 1917.

محمد محمود والوفد المصري:

ارتفع تيار الوطنية، وتجددت الآمال في النفوس، وامتلأت قلوب المصريين بالحماس، عندما أعلن الرئيس الأمريكي ودور ولسن مبادئه في صيف عام 1918، والتي كان أهمها: حق الشعوب في تقرير مصيرها، والاستقلال التام لجميع الدول.

بدأ التفكير في مصير البلاد مع بداية الحرب العالمية الأولى، عندما سعى أحمد لطفي السيد بك لإعلان استقلال مصر، وتنصيب الخديوي عباس حلمي الثاني ملكًا عليها، وكان من الطبيعي أن يرحب الخديوي بالفكرة؛ لأنها تحقق طموحه وأهدافه، فعهد إلى عدلي باشا يكن، وأحمد لطفي السيد بك، وسعد باشا زغلول بمهمة تحقيقها مع الحكومة البريطانية.

وعندما تولى السلطان حسين كامل عرش مصر، عمل على إحياء الفكرة، فاعتزم السفر إلى لندن بعد انتهاء الحرب بغية تنظيم الحماية، فأمر حسين باشا رشدي رئيس الوزراء بكتابة مذكرة إلى الحكومة البريطانية، يطلب فيها حل القضية المصرية، إلا أن المنية واتته قبل تبليغ هذه المذكرة.

ولما جاء السلطان  أحمد فؤاد الأول من بعده أهمل الفكرة في البداية، ثم عاد واهتم بها عندما لاحت تباشير الهدنة،  فأوعز  إلى  عدلي باشا يكن وحسين باشا رشدي بأن يقوما بتحقيقها، فاعتزما السفر إلى لندن بعد الحرب؛ لمفاوضة الحكومة البريطانية في الاستقلال.

وقد بذل كل من عدلي باشا  يكن، وحسين باشا رشدي جهدهما من أجل الوصول إلى الوسيلة التي يمكن عن طريقها تحقيق أهداف البلاد؛ كما كانا على اتصال وثيق بالزعماء  للبحث  والتشاور، من أجل الوصول إلى هذه الغاية.
وعندما بدأ  التفكير في تأليف  الوفد، وقف السلطان  أحمد  فؤاد  الأول  وحكومته ممثلة في عدلي باشا  يكن وحسين  باشا رشدي  إلى جانبه  مؤيدين  ومساندين،  واتفقوا على أن  يكون هناك وفدان، وفد رسمي يتولاه رئيس الحكومة لدى الحكومة البريطانية، ووفد شعبي يشد من أزر الوفد الرسمي لدى الشعب المصري نفسه، ولدى الرأي العام البريطاني وغيره من ممثلي الدول.

 لهذا شهدت هذه الفترة محاولة كبار رجال السياسة في مصر  تأليف  أكثر  من وفد، حتى انتهى  الأمر  في النهاية  إلى تأليف الهيئة التي عرفت باسم: «الوفد المصري» في 13 نوفمبر عام 1918؛ كما لم يتخلف الشباب المصري المتحمس عن الركب، فألف بدوره ما عرف باسم: «الحزب الديمقراطي» في 10 يناير عام 1919 .

اختلف المؤرخون والباحثون، وتعددت رواياتهم حول صاحب فكرة تأليف الوفد، فقد برزت من الروايات التي رويت حول فكرة الوفد ثلاث منها: 
الأولى: نسبت الفكرة إلى سعد باشا زغلول. 
والثانية: نسبت الفكرة إلى الأمير عمر طوسون. 
والثالثة: نسبتها إلى محمد محمود باشا.
تذكر الرواية الأولى: أنه في سبتمبر من عام 1918، دعا سعد باشا زغلول أصحابه: محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد  بك، وعبد  العزيز  بك  فهمي، إلى  مسجد وصيف؛ للتحدث فيما ينبغي عمله عندما تسنح الفرصة، للبحث في المسألة المصرية بعد إعلان الهدنة، فأجاب الدعوة محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، واعتذر عبد العزيز بك فهمي لمرضه.
 أما الرواية الثانية: فتذكر أن الأمير عمر طوسون هو صاحب الفكرة؛ حيث أوعز بها إلى سعد باشا زغلول؛ لشخصيته البارزة في الجمعية التشريعية، وذلك عندما تقابلا في حفل عيد جلوس السلطان  أحمد فؤاد الأول، مساء يوم 9 أكتوبر 1918 بكازينو سان ستيفانو.

 أما  الرواية الثالثة -وهي رواية عبد  العزيز  بك  فهمي أحد مؤسسي  الوفد المصري-: فتذكر  أنه ذات  يوم من أيام شهر سبتمبر 1918، وكان خارجًا من مجلس إدارة الجامعة المصرية القديمة  ومعه كل من:  أحمد لطفي السيد  بك،  وسعد  باشا  زغلول، وبينما هم في طريقهم نحو ميدان الفلكي، اعترض محمد محمود باشا سبيلهم واضعًا عصاه أمامهم في عرض الرصيف قائلًا: «إلى أين تذهبون؟ إنني أريد أن نتحدث في مصير مصر، لقد انتهت الحرب وستحصل الهدنة، ولا بد من النظر في تأليف وفد كي يسافر للمطالبة بحقوق البلاد». 

وما لبث أن  اجتمع كل من محمد محمود باشا، وسعد باشا زغلول،  وعلي  باشا  شعراوي،  وعبد العزيز بك فهمي، فكرر محمد محمود باشا دعوته، غير أن سعد باشا رفض الفكرة متحججًا بأن الوقت غير مناسب؛ حيث كان البريطانيون مزهوين بنصرهم، فانصرف كل واحد منهم إلى حال سبيله، غير أن سعد باشا عاد  فأرسل  إل ى محمد محمود باشا، وعلي  باشا  شعراوي، وعبد  العزيز  بك  فهمي، يدعوهم  إلى الاجتماع  للبحث  في  تأليف  الوفد.
 ومما يرجح القول بأن محمد محمود باشا هو أول من نادى بتأليف الوفد وصاحب الفكرة: اعتراف سعد  باشا  زغلول  نفسه، ففي 20 ديسمبر 1917 كتب في مذكراته يقول: «فاتحني محمد باشا محمود أنه ينبغي أن نتفكر في حالة مصر بعد الحرب؛ إذ يجب أن تتحد جماعة أهل الرأي على التفكير في هذه المسألة، فقلت: ممن تتألف هذه الجماعة؟ فجرى ذكر شعراوي، وعبد العزيز فهمي، ولطفي السيد، وهو، وأنا، وعدلي، وتأجل البحث فيها إلى فرصة أخرى».

وعلى هذا، فإذا  كان محمد محمود  باشا  قد فاتح سعد باشا   زغلول بالفعل لأول مرة - كما ذكر سعد باشا في مذكراته - في 20 ديسمبر عام 1917، فإنه يكون قد سبق الأمير عمر طوسون في التفكير؛ لأن الأمير اعترف بأن الفكرة خطرت بباله عقب إعلان مبادئ ولسن؛ أي: بعد 8 يناير عام 1918 تاريخ إعلان المبادئ؛ كما أن محمد محمود باشا يكون قد سبق سعد  باشا زغلول أيضًا؛ لأن دعوة سعد باشا زغلول لاجتماع مسجد وصيف، جاءت في يوم 12 أكتوبر عام 1918؛ أي: بعد عروض محمد محمود  باشا  المتكررة عليه، وبعد أن عرض الأمير الفكرة عليه في حفل سان ستيفانو مساء يوم 9 أكتوبر عام 1918.

في صباح يوم 13 نوفمبر عام 1918، أعلن  تأليف الوفد المصري من ستة  أعضاء  فقط، هم: سعد  باشا زغلول،  وعلي  باشا  شعراوي، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، ومحمد بك علي علوبة، وعبد العزيز بك فهمي، وفي صباح نفس اليوم توجه ثلاثة من زعماء الوفد إلى دار الحماية؛ لمقابلة المندوب السامي البريطاني  ريجلند  ونجت، وطلبوا منه السماح للوفد بالسفر إلى إنجلترا لعرض مطالب البلاد، ولفتوا نظره  إلى  ثقل  الأحكام  العرفية المفروضة على البلاد، والرقابة الصارمة على الصحف والمطبوعات، وطالبوا بإلغائها.

 وبعد انتهاء المقابلة عقد الوفد اجتماعًا في منزل سعد باشا زغلول لاستكمال  تشكيل الوفد، واختيار رئيسه  وأمين صندوقه، فاتفق  الأعضاء  على  اختيار سعد  باشا  زغلول  رئيسًا،  وعلي  باشا  شعراوي  أمينًا للصندوق؛ كما عرض بعض الأعضاء ضم  عبد  اللطيف  بك  المكباتي، فوافقوا  بالإجماع، وأصبح  عدد  أعضاء الوفد المؤسسين سبعة أعضاء، قاموا في نفس اليوم بوضع صيغة التوكيل، ثم قام الوفد  بضم  مصطفى  بك النحاس،  ودكتور  حافظ  بك  عفيفي،  ومحمود  بك أبو النصر،  وإسماعيل باشا صدقي  إلى  عضويته؛ كما ضم  حمد  باشا  الباسل،  وجورج  بك  خياط، وسينوت  بك  حنا، وما إن حل يوم 23 نوفمبر عام 1918، حتى كان الوفد قد انتهى من تشكيله النهائي، فأصبح يتكون من أربعة عشر عضوًا: سبعة مؤسسين، وسبعة ضموا إليه بعد تكوينه؛ كما ضُمَّ إليه في فترة لاحقة  واصف  بك بطرس غالي، وحسين بك واصف، وعبد الخالق بك مدكور، وقد كان جميع هؤلاء الأعضاء – فيما عدا محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك - من بين  أعضاء  الجمعية التشريعية، وينتمون  إلى تكوين فكري واجتماعي واحد من طبقة الأعيان والمثقفين من ذوي التأثير في المجتمع المصري.
 كما من الواضح أن الوفد قد تألف من عناصر، أغلبها تمثل حزب الأمة السابق، ومن أقدر العناصر المثقفة التي كانت تنتمي إليه، ومن أعضاء الجمعية التشريعية المعروفين باعتدالهم وتحفظهم وثورتهم المحدودة، وكان معظمهم من كبار الأعيان الذين يطلقون على أنفسهم: «أصحاب  المصالح الحقيقية»،  أما  عقيدتهم  السياسية والفكرية، فكانوا من أتباع  الشيخ محمد عبده الذين عرفوا بجماعة «الإسلاميين  الإصلاحيين»، التي تبنى حزب  الأمة  اتجاهاتها،  وكانوا يعتنقون نفس الأفكار الليبرالية الحديثة التي وفدت إلى مصر خلال القرن التاسع عشر.

وقد  بدأت  جهود سعد  باشا  زغلول والوفد الرامية  إلى السفر في نوفمبر عام 1918، عندما تقدم سعد  باشا  زغلول  إلى  سلطات الاحتلال طالبًا  الإذن  بالسفر  إلى لندن، ثم جاء الرد بتعذر تحقيق طلبه، وأن من المستحسن  إذا  كانت لديه مقترحات بشأن نظام الحكم في مصر - مما لا يخرج عن الخطة التي وضعتها الحكومة البريطانية - أن يتقدم بها إلى المندوب السامي. هذا الرد جعل سعد باشا زغلول يدرك أن بريطانيا ترغب في المماطلة حتى ينتهي مؤتمر الصلح وتضيع الفرصة على مصر، وأنها تهدف إلى أن يحصر الوفد اقتراحاته في نطاق الحماية؛ لذا بادر إلى الاحتجاج والاعتراض على هذه السياسة، فأرسل الرسائل والبرقيات  إلى  ولسن رئيس الولايات المتحدة  الأمريكية، وإلى كليمنصو رئيس المؤتمر، يحتج فيها على منع الوفد من السفر، وأخذ يندد بالسياسة البريطانية عن طريق الخطابة في الاجتماعات العامة، وقد  رأت  الحكومة البريطانية  أن  استمرار الوفد في احتجاجاته المتكررة سيفضح سياستها، ولهذا وجهت  إنذارًا  إلى  الوفد في 6 مارس عام 1919، فاستدعى واطسون - قائد قواتها العسكرية في مصر- رئيس الوفد  وأعضاءه  للحضور  إلى مركز القيادة، وأبلغهم نص  الإنذار  التالي:
“إن أي عمل منكم يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب الأحكام العرفية”.

 ورغم هذا التهديد استمر الوفد في خطته، فأرسل إلى لويد جورج  رئيس الحكومة البريطانية برقية احتجاج، فقامت سلطات الاحتلال في 8 مارس عام 1919 بالقبض على سعد باشا زغلول، وحمد باشا الباسل، وإسماعيل باشا صدقي، ومحمد محمود باشا؛ حيث تم احتجازهم في ثكنات قصر النيل، ومنها إلى بورسعيد؛ حيث تم ترحيلهم على ظهر الباخرة “كالدوني  CALEDONI”، ونفيهم إلى مالطة في يوم 9 مارس عام 1919.

 وصلت الباخرة كالدوني إلى مالطة، وعلى متنها الزعماء المصريون، الذين تم نقلهم إلى المعسكر التابع للجيش البريطاني، وقد خصصت السلطة العسكرية لكل اثنين منهم شقة  ذات ثلاث غرف، فأقام  سعد  باشا زغلول ومحمد محمود  باشا معًا، وحمد باشا الباس، وإسماعيل  باشا  صدقي في شقة  أخرى، وتنازل  محمد  محمود  باشا لسعد باشا زغلول عن غرفته الدافئة، وأخذ لنفسه الغرفة الباردة، ثم تم تجميع المنفيين الأربعة في مسكن واحد داخل المعسكر، وسمح لهم بالتنزه في عربة مدة ساعتين يوميًّا على نفقتهم الخاصة وتحت الحراسة؛ كما صرح لهم باستخدام طاهٍ ألماني، وإبقاء التيار الكهربائي إلى ما قبل منتصف الليل؛ كما سمح لهم بقراءة  ثلاث صحف، هي:  TIMES الإنجليزية، والمقطم المصرية، وMALTA  الإيطالية، وقد أدت ظروف النفي إلى جعل الزعماء شديدي  التأثر  والانفعال،  الأمر الذي  أدى  إلى وقوع بعض الخلافات بينهم، كان محمد محمود باشا طرفًا  أصيلًا فيها.

كانت حادثة نفي زعماء الوفد  إلى  مالطة  الشرارة التي  أشعلت  الثورة، فقد تملك الجماهير المصرية  الإحساس بالمهانة، والرغبة في الثورة والانتقام، وخاصة بعد هذا الحادث، وبعد  أن  تبدد  أملهم  في الحصول على الاستقلال.
 بدأت الثورة بمظاهرات سلمية،  إلا  أن  السلطات الإنجليزية  قابلتها بالعنف والقسوة، فأطلقت الرصاص على المتظاهرين فقتلت وجرحت المئات؛ كما اتسعت دائرة الثورة كلما اشتدت مقاومة  الإنجليز  لها،  وعجزت الحكومة والإنجليز عن السيطرة على  الموقف، مما شجع بعض المدن الثائرة على إعلان استقلالها، مثلما حدث في مدن زفتى والمنيا وأسيوط وغيرها.

 غير أن فشل سياسة القمع  والإرهاب  في  إخماد  الثورة، أجبر السلطات الإنجليزية  على  الإفراج  عن الزعماء، والسماح لهم بالسفر لعرض مطالب البلاد، فهدأت الأحوال وسافر الوفد إلى باريس في 19 أبريل عام 1919، وفي نفس اليوم الذي وصل فيه الوفد أعلن الرئيس ولسن اعترافه بالحماية البريطانية، فكان هذا الاعتراف صدمة قاسية للوفد وللمصريين جميعًا، بعد أن تبدد الأمل الذي علقته مصر على مبادئ ولسن ومؤتمر السلام.

 لم ييأس زعماء الوفد المصري في باريس من تحقيق هدفهم في إسماع  العالم صوت القضية المصرية، فتوالت اجتماعاتهم  ولقاءاتهم  بالساسة والصحفيين  الأجانب، ففي 3 من مايو عام 1919، أقام  الوفد المصري مأدبة في فندق الكونتيننتال لرجال الصحافة  الأمريكيين  والإنجليز، قام خلالها محمد محمود باشا بإلقاء خطاب تناول القضية المصرية وأبعادها؛ كما أقام مأدبة أخرى في 2 من أغسطس عام 1919 في فندق كلاردج لكبار الساسة ومشاهير الكتاب وأساتذة الجامعة، ألقى خلالها محمد محمود باشا كلمة تناول فيها القضية المصرية وحق مصر في تقرير مصيرها.

 وقد شغل محمد محمود باشا في باريس منصب أمانة صندوق الوفد المصري، وظل  أمينًا  له حتى سفره  إلى الولايات  المتحدة  في  الأول من أكتوبر عام 1919.
أثناء وجود الوفد المصري في باريس، تعرف عن طريق الدكتور حافظ  بك  عفيفي  على  مجموعة من الساسة والصحفيين  الأمريكيين، ومنهم:  جوزيف فولك  المحامي الأمريكي الشهير، الذي نجح في إثارة  القضية المصرية في الصحافة  الأمريكية  وبين  أعضاء  مجلس الشيوخ الأمريكي خاصة السيد «بواره»، وقد شجع النجاح الذي أحرزه فولك في إثارة القضية المصرية، الوفد المصري على التفكير في إرسال  بعض  أعضائه إلى الولايات المتحدة  لإثارة  القضية،   فتقدم  سعد  باشا  زغلول، ومحمد محمود باشا، وعبد  اللطيف  بك  المكباتي، بطلب للسفر إلى الولايات المتحدة، فتم السماح لهم بالسفر، غير أن العقبات توالت تباعًا لمنع هؤلاء الأعضاء من السفر، خاصة محمد محمود  باشا  الذي عارضت الحكومة البريطانية سفره؛ لما كان يتمتع به من مميزات، خاصة  إجادته  التامة للغة الإنجليزية، والتي تسهل من مهمته في مخاطبة الرأي العام الأمريكي، غير أن الظروف جميعًا كانت في صالح محمد محمود باشا، فقد شاءت الظروف أن تسمح له وحده بالسفر، نظرًا للظروف الصحية لسعد باشا زغلول التي حالت دون سفره، فوقع اختيار الوفد المصري على محمد محمود باشا للسفر.

 وفي الأول من أكتوبر عام 1919 غادر محمد محمود باشا فرنسا على ظهر الباخرة «بولونيا» متوجهًا إلى نيويورك، التي وصلها في 9 أكتوبر، وعقب وصوله مباشرة قام باستئجار بناية «ستراند اندر ولش» لتكون مقرًّا للوفد المصري في واشنطن.

 اتخذ محمد محمود باشا أثناء وجوده في الولايات المتحدة العديد من الخطوات؛ للحصول على التأييد للقضية المصرية، فقد حرص منذ وصوله إلى الولايات المتحدة على مخاطبة عدد من رموز المجتمع الأمريكي، مثل: المستر مارشال رئيس مجلس الشيوخ الأمريكي، وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ “المستر لودج”، ورؤساء تحرير المجلات والجرائد اليومية الواسعة الانتشار في الولايات المتحدة، مثل: “New York Times” ، “Washington Post” ، ووزير الخارجية الأمريكي؛ حيث قام بشرح مأساة الشعب المصري وأحقيته في الاستقلال، وكيف وقف إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لصالح الحق والحرية، ومبادئ المجتمع الأمريكي، ومبادئ “ولسن” الأربعة عشر، وكيف أن بريطانيا تريد أن تخل بعشرات وعشرات الوعود التي تقدمت بها للشعب المصري خلال 32 عامًا من الاحتلال؛ كما حرص محمد محمود باشا على الاطلاع المنتظم على أغلب الصحف الأمريكية الصادرة؛ لمعرفة آخر تطورات الثورة المصرية والقمع البريطاني لها، وأخبار الوفد المصري في باريس، ولرصد تناول الصحف للقضية المصرية، والرد على أي إهانة مباشرة موجهة للقضية المصرية، أو له شخصيًّا، فقد اتهمه أحد الصحفيين بكونه فلاحًا؛ ليحقر من شأنه، ورد محمد محمود باشا باعتزازه بالفلاحة التي يعمل بها أغلب الشعب المصري، وتكلم عن سيرته الذاتية هو وأجداده، بداية من تعلمه في جامعة أكسفورد، مرورًا بعمله مديرًا للفيوم، ثم البحيرة، وكان غالبًا ما يرد بمقالات يكتبها بنفسه، ومد كل من يناصر القضية المصرية بالمعلومات اللازمة لإكمال مقالاته، كذلك كان يرد على كل التصريحات الرسمية، خاصة التصريحات المتتالية لوزير الخارجية الأمريكيLansey الذي أراد أن يشرح اعتراف الولايات المتحدة بالحماية البريطانية، وقال: إن هذه الحماية المقصودة ضرورة حرب، وليست اعترافًا بالاحتلال البريطاني لمصر. 

كما حرص محمد محمود باشا على عقد العديد من المقابلات الشخصية، وإلقاء الخطب لشرح تفاصيل القضية المصرية  في الولايات المتحدة؛ حيث استطاع محمد محمود باشا إبهار المراسلين  بلباقته؛ حيث  أكد  في  اجتماع  بفندق  أسنوز  على حق مصر في الاستقلال، وتكلم عن أن  تضحيات  مصر هي التي ساعدت اللنبي على تحقيق  انتصاراته؛ كما استغل محمد محمود باشا  أحداث القمع  والبطش البريطاني   بالشعب  المصري  للتقدم باحتجاجات إلى المستر لودج رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالكونجرس، مثل: حوادث الإسكندرية، وقمع المظاهرات السلمية. 

كما عكف محمد محمود باشا على إعداد الكتاب الأبيض بالإنجليزية، وجمع فيه عددًا كبيرًا من المقالات التي تشرح تفاصيل القضية المصرية؛ سواء من النواحي القانونية، أو السياسية، أو الإنسانية، أو التاريخية، بحيث تثبت أحقية الشعب المصري في تقرير مصيره، وقد حقق هذا الكتاب شهرة عظيمة دفعت عددًا كبيرًا من المهتمين للحصول عليه؛ كما حرص محمد محمود باشا على إرسال عدد من النسخ إلى المكتبات العامة، ومكتبات الكليات في عدد من الولايات الأمريكية، بل والكنائس ، والجمعيات الأهلية، حتى يصل للمواطن الأمريكي العادي، ويصبح لديه القدرة الحقيقية على تشكيل رأي عام جارف يسير في اتجاه القضية المصرية، وتضمن الكتاب حوالي 200 صفحة عن جميع أعمال الوفد في مصر والخارج، وكذلك مكاتباته مع أعضاء مؤتمر السلام منذ 10 من نوفمبر 1918 إلى 14 من يوليو 1919، وختمه ببيان وافٍ عن الأحداث التي وقعت في شهري مارس وأبريل عام 1919، مرفقة بصور لآثار الأعمال التي ارتكبها البريطانيون في مصر.

أثناء هذه الفترة  وصلت  إلى  القاهرة  لجنة  بريطانية  برئاسة وزير المستعمرات  البريطاني  اللورد  ملنر؛  لكي تضع  مقترحًا  عن دستور وقانون يحكم مصر في إطار الحماية البريطانية، وقد تصدى محمد محمود باشا لمهمة هذه اللجنة وفند ادعاءاتها، وقد لاح في الأفق أن الولايات المتحدة في طريقها لتقديم تعديل على اتفاقية السلام بشأن المادة 147 فيما يخص رفض مد الحماية البريطانية على مصر فيما بعد الحرب العالمية الأولى، وحق مصر في تقرير مصيرها، فسعت عدة وفود للالتقاء بمحمد محمود باشا، مثل: الوفد الهندي، والوفد الكوري؛ كما تقدم السناتور أوين بخطاب إلى وزير الخارجية الأمريكي مستفسرًا عن اعتراف الولايات المتحدة بالحماية البريطانية على مصر، وعلاقة ذلك بالمبادئ الأربعة عشر للرئيس ولسن.

وبعد هذا الجهد الكبير الذي بذله  محمد محمود باشا، أرسل إليه الوفد المصري في مارس عام 1920 طالبًا منه العودة إلى باريس، وقد استمر محمد محمود باشا في باريس متابعًا جهود جوزيف فولك في إثارة القضية المصرية في الولايات المتحدة؛ كما حاول تعيين المحامي الإنجليزي الشهير “وليم بركلي” للدفاع عن القضية المصرية وإثارتها في باريس وأوروبا.
حاول محمد محمود باشا حث الوفد المصري لإرساله إلى بريطانيا  لإثارة  القضية  المصرية، غير  أن  تدخل  عبد  الرحمن  بك  فهمي  حال دون ذلك، وانتهى الأمر بإرسال الدكتور حافظ محمود والسيد لانجدون دافيز رئيس الجمعية المصرية في لندن من أجل هذا الغرض.

في 15 مايو عام 1919 أعلنت الحكومة البريطانية عن عزمها إرسال لجنة إلى مصر برئاسة اللورد ألفريد ملنر وزير المستعمرات البريطانية، وعضوية كل من: المستر رنل رود من رجال وزارة الخارجية، والجنرال مكسويل القائد العام للقوات البريطانية عند إعلان الحماية، والجنرال السير أوين توماس عضو البرلمان والخبير في الشؤون الزراعية، والسير سل هرست المستشار القانوني لوزارة الخارجية، والمستر سبندر محرر جريدة WESTMINSTER GAZIT، وكانت مهمة اللجنة التحقيق في أسباب الاضطرابات التي حدثت في مصر.
 وما إن أذيع نبأ تشكيل اللجنة وغرضها وعزمها المجيء إلى مصر، للعمل على إبقاء الحماية وحمل المصريين على قبولها، حتى أخذت الجماهير المصرية تبدي استياءها ومخاوفها، وتتساءل عن موقف ساسة مصر، وموقف الوفد ولجنته المركزية التي كان يرأسها آنذاك محمود باشا سليمان.

كما اتجهت النية داخل الوفد إلى مقاطعة اللجنة التي وصلت إلى مصر في 7 ديسمبر عام 1919، وما إن أذيع نبأ وصولها حتى انهالت برقيات الاحتجاج من معظم فئات الشعب تستنكر قدومها، وأجمعت آراء المصريين على أن الوفد برئاسة سعد باشا هو الوكيل الشرعي للشعب المصري، وأنه يتعين على اللجنة مفاوضته؛ إذا أرادت التفاوض، وبذلك تمت محاصرة اللجنة فلم يتصل بها من المصريين سوى السلطان وحكومته.

 وبينما كانت اللجنة تواجه هذا الموقف البالغ الصعوبة، بعد أن نجحت حركة المقاطعة، كان الوفد يواجه موقفًا مشابهًا، بعد  أن  فشلت مهمته في باريس، ومن ثم فقد تهيأت  الظروف المناسبة للجمع بين  الطرفين، ولأن تلعب الوساطة دورها، وقد قدر لعدلي باشا يكن أن يلعب هذا الدور، فقد كان على صلة وثيقة بالوفد في باريس؛ حيث قام هو وزميلاه حسين باشا رشدي وعبد الخالق باشا ثروت بتنسيق كامل مع لجنة الوفد المركزية برئاسة محمود باشا سليمان بالاتصال بملنر، ثم أرسلوا  تقريرًا شاملًا عن نتيجة هذه الاتصالات إلى سعد باشا  زغلول  وأعضاء  الوفد المصري في باريس، وطلب من سعد باشا زغلول العودة إلى مصر، لكنه رفض، وعندما تقرر طلبه  أرسل  إليه  سعد باشا زغلول  أن  الوفد لن يعود  إلى  مصر  إلا  إذا  شكلت وزارة دستورية خلفًا لوزارة  يوسف  باشا  وهبة  للتفاوض، مع  تأييده أن يشكل عدلي باشا يكن وزارة تكون مهمتها مفاوضة الإنجليز، لكن عدلي باشا يكن رفض أن يقوم بالتفاوض وحده، واشترط ضرورة مشاركة الوفد؛ كما طلب من سعد باشا زغلول الانضمام إليه في باريس؛ للقيام بالوساطة بين الوفد ولجنة ملنر، وقد استطاع عدلي باشا يكن إقناع الوفد بالمفاوضة التي بدأت في 9 يونيه عام 1920، وهي المفاوضات التي اشترك فيها محمد محمود باشا، وسعد باشا زغلول، وأحمد لطفي السيد بك، وعلي بك ماهر، وعبد  العزيز بك فهمي، بجانب عدلي باشا يكن.

 وقد أسفرت مباحثات الطرفين عن وضع عدة مشروعات، أولها: المشروع الذي قدمه ملنر في 17 يوليو، ورد عليه الوفد بمشروع آخر من جانبه في نفس اليوم، غير أن ملنر رفض مشروع الوفد، ووصفه  بأنه  لايصلح  أن يكون  أساسًا  للتفاوض،  وأصر  على  أن  يكون مشروعه هو الذي يجب أن تُبنى عليه المفاوضات، كذلك رفض سعد باشا زغلول مشروع ملنر؛ لأنه رأى فيه حماية حقيقية، وعرض على أعضاء الوفد قطع المفاوضات، والعودة إلى مصر، فعارضه محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، ومحمد  بك  علي  علوبة، وكادت المفاوضات تتوقف لولا تدخل عدلي باشا  يكن  الذي  نصح  ملنر بتعديل بعض نصوص المشروع، فأعد مشروعًا يتوافق مع المطالب المصرية، والعروض الإنجليزية، فرفضه سعد باشا؛ مما  أدى  إلى انقسام أعضاء الوفد إلى فريقين: 

فريق رافض يضم: سعد باشا زغلول، وعلي بك ماهر، وواصف بك غالي، وسينوت بك حنا. 

وفريق مؤيد يضم: محمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك. 
على أن سعد باشا  زغلول  صمم على  رأيه، وصمم على  أن  ترفضه الأمة، فأرسل  إلى  مصطفى  بك  النحاس  خطابًا، طالبه  فيه أن  يبذل  أقصى جهوده لمنع الناس من الموافقة عليه دون شروط، وقد أدى هذا الموقف إلى تعميق الخلاف بين  أعضاء  الوفد؛ مما أدى إلى انقسام الوفد المصري.

 في 16 مارس عام 1921 كُلف عدلي باشا يكن بتأليف الوزارة، وأعلن أنه ماضٍ في طريق المفاوضة، فأعلن سعد باشا زغلول عدم ثقته في حكومة عدلي باشا يكن، وحاول استصدار قرار من الوفد بسحب الثقة منها، فرفض أعضاء الوفد الموافقة على القرار، فشن سعد باشا زغلول عليهم حملة عنيفة، لحمل الشعب على سحب الثقة من الحكومة، وأخذ أنصاره يرددون الهتافات العدائية ضد عدلي باشا يكن رافعين شعار:
“الاحتلال مع سعد خير من الاستقلال على يد عدلي”.

 كما هدد سعد باشا زغلول بنشر بيان باسمه، يعلن فيه عدم ثقته بعدلي باشا يكن، مما حدا بخمسة من  أعضاء الوفد المؤيدين لعدلي باشا  يكن، إلى  إرسال  بيان  إلى سعد باشا  زغلول، اعترضوا فيه على عدم اكتراثه برأي الأغلبية، فاعتبرهم سعد باشا  زغلول  منفصلين عن الوفد، فتوالت الاستقالات تباعًا، فخرج عبد العزيز  بك فهمي، وعلي  باشا  شعراوي، وحافظ  بك  عفيفي، وجورج  بك خياط، وعبد الخالق  بك  مدكور، وعلي  بك ماهر، وويصا بك واصف.

أما  محمد محمود باشا، فقد رأى  أن  المفاوضات بين مصر وبريطانيا ليست بين ندين متعادلين،  وإنما  هي بين القوة المسلحة والحق الأعزل، ولهذا فقد رأى أنه من الأفضل الحصول على شيء تتقوى به البلاد ثم تطالب بغيره؛ لأن مبدأ (التمسك بالكل أو لا شيء) مبدأ خطير؛ لصعوبة تحقيقه، طالما أن مصر لا تملك القوة التي تجبر بها بريطانيا على تحقيق مطالبها، وقد انتهى أمر الخلاف إلى انقسام هيئة الوفد المصري، التي قادت ثورة 1919.
 ولما كانت الغالبية العظمى من الجماهير المصرية قد انضمت إلى سعد  باشا زغلول وأيدت سياسته، بينما عارضت سياسة عدلي باشا يكن، فقد سافر وفد المفاوضات وسط موجة عارمة من السخط والهجوم، غير أن هذه المظاهرات لم تفلح في إثناء عدلي باشا يكن عن المضي في تحقيق ما صح عزمه عليه، فأجرى مفاوضاته مع جورج كيرزون وزير الخارجية البريطانية خلال الفترة من 16 يوليو إلى 19 نوفمبر عام 1921، وفي أثناء هذه المفاوضات حاول عدلي باشا يكن جاهدًا تفادي الفشل والتغلب على الصعاب، غير أنه وجد أن المفاوضات لن تؤدي إلى النتيجة التي يرجوها لمصر، فقطع  المفاوضات، وعاد  إلى القاهرة في 5 ديسمبر عام  1921، وقدم  استقالته  إلى  السلطان  أحمد  فؤاد  الأول  فور وصوله، بعد أن استقبل  أسوأ استقبال من الجماهير المؤيدة لسعد باشا زغلول،  مما  أدى  إلى استحكام الخلاف وتعذر الاتفاق بين الطرفين.

وقد كان محمد محمود باشا وراء عدلي باشا يكن، مؤيدًا مفاوضاته مع كيرزون، وكان راغبًا في حضور المفاوضات مع عدلي باشا يكن، مساندًا له أمام الموجة العاتية التي أثارها عليه سعد باشا زغلول.
وقد عبر محمد محمود باشا عن رأيه في مفاوضات عدلي باشا بقوله: «تفاوض عدلي مع الإنجليز، فرفع شأن مصر في تلك البلاد، وانتهت بأن قطع المفاوضات محتفظًا بحقوق بلاده كاملة غير منتقصة».

 الانفصال.. محمد محمود وحزب الأحرار الدستوريين:

بدأت فكرة تأليف حزب الأحرار الدستوريين في أواخر نوفمبر عام 1921، وقد  تزعمه عدلي  باشا  يكن، غير أنه كان مترددًا في  الإقدام  على  تأليف  حزب برئاسته؛  إذ  كان لا يميل إلى الخصومات والمنازعات  الحزبية،  لكنه في نهاية الأمر رضخ لرغبة أعضاء الوفد المنفصلين، وإلحاحهم على أن يتخذوا من رئاسته سندًا للحزب الجديد.

وبعد صدور تصريح 28 فبراير عام 1922، اقتنع عدلي باشا يكن بضرورة تأليف الحزب، وتعددت اجتماعات المؤسسين في منزل عدلي باشا يكن في رمل الإسكندرية في صيف عام 1922، بهدف وضع اللوائح والقوانين المنظمة له؛ كما حدد يوم 30 أكتوبر عام 1922 موعدًا لانعقاد أول اجتماع للجمعية العمومية للحزب في فندق شبرد؛ حيث أعلن عدلي باشا يكن بحضور 300 عضو عن قيام حزب «الأحرار الدستوريين».. كما أعلن محمد محمود باشا مبادئ الحزب الثمانية عشر.

وبعد انتهاء حفل إعلان قيام حزب  الأحرار  الدستوريين، نودي  بعدلي  باشا يكن رئيسًا للحزب،  واستمر في رئاسته حتى استقال في 17 من  يناير عام 1924؛ ليبقى  الحزب  دون رئيس إلى أن تم اختيار عبد العزيز باشا فهمي رئيسًا للحزب في 4 يناير عام 1925، حتى استقال في 4 مارس عام 1926، فظلت رئاسة الحزب شاغرة إلى 24 فبراير عام 1929 عندما اختير محمد محمود باشا رئيس الوزراء، ووكيل الحزب رئيسًا له.

الخاتمة:

مثلت العائلات المصرية -التي صعدت مع نمو الملكيات الزراعية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- رصيدًا كبيرًا لثورة 1919، فالقيادات الثورية كان معظمها من هذه العائلات التي أرسلت أبناءها للتعلم في الخارج، على غرار محمد باشا محمود الذي تلقى تعليمه في جامعة أكسفورد، وهذه الدراسة عكست دور هذه العائلة الأب والابن في الثورة الذي كان دورًا محوريًّا.