قضايا

إنتصار بدر

عايدة فهمي.. النقابية الوحيدة بين الرجال!

2021.12.01

  عايدة فهمي.. النقابية الوحيدة بين الرجال!

«عندما أنظر اليوم إلى تلك الأعداد الغفيرة من النساء وهي تخرج كل صباح متجهة إلى ساحات العمل المختلفة، أشعر بارتياح، فقد تكللت جهودنا بالنجاح، ولكن ما يحزنني أن أيًا منهن لا تعرفن ماذا فعلنا نحن لتنفتح لهن تلك الأبواب التي كانت فيما مضى ممنوعة عليهن»..

بهذه الكلمات اختتمت الأستاذة عايدة فهمي حديثها معي، وفي شهادتها التي سجلتها معها عام 2000، ضمن مشروع تبنته مؤسسة «ملتقى الهيئات لتنمية المرأة» تحت عنوان «رائدات بيننا»، وكانت تلك الشهادة حول مسيرتها في العمل ومشوارها النقابي، فما نعرفه عن جهود الجيل الأول من النقابيات لتحسين شروط عمل النساء، وأدوارهن في الحركة العمالية قبل الخمسينيات من القرن العشرين، لا يتعدى سطورًا مقتضبة في كل ما تناولته الدراسات التي اهتمت بتأريخ الحركة العمالية والنقابية في مصر، أو في المذكرات الشخصية القليلة التي تركها لنا العمال.

وهذا القصور، في اعتقادي، غير متعمد، بل هو لأسباب تتعلق بندرة المذكرات التي كتبها عمال تلك الفترة، وأيضًا لندرة الوجود النقابي للنساء في النصف الأول من القرن العشرين، كما أن التاريخ الشفاهي، أو التاريخ من أسفل، الذي اهتم بتوثيق تجارب المعاصرين لأحداث تاريخية، أو لحركات اجتماعية، أو توثيق تجارب الحياة ذاتها، سواء للجماعات أو الأفراد من غير النخب، لم يحظ بالاهتمام في العالم إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد اعتُرف به بوصفه تاريخًا مكملاً للتاريخ الرسمي بعد ذلك بسنوات. بخاصة وأن الوسائل الحديثة في التوثيق المرئي والصوتي لم تتيسر للباحثين أو غيرهم مثلما هي متاحة الآن.

وللأسف فإن أكثر ما حصلنا عليه من معلومات عن تاريخ الطبقة العاملة ودور النساء فيها، وإن جاء عبر جهود مضنية للباحثين في الاطلاع على الصحف المعاصرة لمراحل هذا التاريخ، وبعض الوثائق التي صدرت عن العمال أو مَن تيَّسر الوصول إليهم ممن كان منهم على قيد الحياة، فإن القدر الأكبر من المعلومات الذي اعتمد عليه الباحثون في تلك الدراسات تم الحصول عليه مما ورد بالمحاضر الأمنية، وتقارير مصلحة العمل والوثائق الرسمية التي أمكنهم الاطلاع عليها، والتي رغم أهميتها في رصد الوقائع فإن هذا الرصد في أغلبه كان يحمل وجهة النظر الرسمية، والتي ربما تكون خادعة وغير معبرة عن الحقيقة، إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة الحكومات التي تعاقبت على مصر، منذ ثورة 1919، فجميعها كانت تمثل الشرائح العليا من البرجوازية وكبار الملاك، وانحازت إلى مصالحها التي تعارضت بالطبع مع مصالح العمال، وغالبًا ما اتخذت ضدهم مواقف عدائية، وتعمدت تشويه تحركاتهم، علاوة على أنها مصادر جافة، على عكس التاريخ الشفاهي الذي ينقل تلك الوقائع في صور من الحياة تنبض بقلوب المشاركين فيها، وينقل أيضًا رؤيتهم لها، والتي غالبًا ما يتم إغفالها في الوثائق الرسمية.

وكل ما وردنا عن دور المرأة في الحركة النقابية في تلك الدراسات نقابتان فقط شاركت النساء في مجلسي إدارتيهما، ورابطة لعاملات النسيج في النصف الأول من القرن العشرين، النقابة الأولى هي نقابة الحكيمات التي تأسست عام 1920، على خلفية حركة عمالية ونسائية نشطة برزت كقوة اجتماعية مؤثرة في ثورة 1919، وكل ما ذكر عن تلك التجربة أنها كانت إحدى ثلاث نقابات تأسست على أساس قومي، يضم جميع العاملين بالمهنة على مستوى جميع الأقاليم المصرية في نقابة واحدة، وليس على أساس العاملين بأحد المنشآت، مثل بقية النقابات، وأن لوائحها وأهدافها كانت أقرب إلى الجمعيات الأهلية النسائية منها إلى النقابات.

وفي اعتقادي أنها لم تكن التحدي الأصعب في التحاق المرأة بالعمل النقابي، إذ لم يمثل النوع الاجتماعي أية عقبة، سواء في تأسيسها أو في تشكيل مجلس إدارتها، لاقتصار عضويتها فقط على النساء، وربما لهذا السبب لم تصمد أمام الأحداث التي عصفت بالطبقة العاملة بعد ذلك، واختفت سريعًا، واختفى معها الحضور النسائي في النقابات لأكثر من عشرين عامًا، رغم وجود عاملات بقطاع النسيج والمحال التجارية في تلك الفترة، ومشاركتهن في إضرابات عمال النسيج والمحال التجارية خلال السنوات التي أعقبت ثورة 1919 وحتى منتصف هذا القرن، ولكن لم تجرؤ أي منهن على الترشح في المواقع القيادية بتلك النقابات، ربما بسبب العقلية التسلطية للرجال، وبالأخص لدى الفئات العمالية الأقل تعليمًا وثقافة، والأكثر تحفظًا تجاه المرأة آنذاك، والمدهش أن نفس الشيء انطبق على الممرضات والمعلمات، وهي القطاعات التي استوعبت أيضًا الفتيات المتعلمات في تلك الفترة.

ويبدو أنه كان على المرأة أولا أن تحصد ثمار انتصارها في معركة التعليم، ونتائج عمليات تمصير الوظائف التي أتاحت لها التوافد بأعداد كبيرة إلى ساحات العمل الأخرى، لتكتسب المزيد من الخبرة النضالية في الدفاع عن حقوقها داخل مواقع العمل المختلفة، قبل العودة مرة أخرى لممارسة العمل النقابي، ومواجهة التقاليد الاجتماعية التي تجعل الرجال يصرون على بقاء النساء في المواقع الخلفية.

وسجلت نقابة الموسيقيين، التجربة الثانية للنساء، شواهد هذا الصدام في انتخاباتها التأسيسية عام 1942 حين استخدمت صفة المرأة باعتبارها وصمة في حق السيدة أم كلثوم، صاحبة فكرة تأسيسها، لإبعادها عن الترشح على منصب نقيب الموسيقيين، وإسقاطها خلال الانتخابات، لكن شخصية أم كلثوم حسمت المعركة، لتفوز في النهاية بمقعد النقيب.

ورغم الفوز المستحق للسيدة أم كلثوم بالمقعد ودلالاته في تغير نظرة المجتمع نسبيًّا لالتحاق النساء بالعمل النقابي وفوزها بثقة الموسيقيين لسبع دورات متتالية، فإن الوجود النقابي للمرأة منذ عام 1942 حتى عام 1949 ظل قاصرًا على نقابة الموسيقيين فقط من بين 465 نقابة موجودة آنذاك، ولم ترصد هذه التجربة تفصيليًّا، رغم وجود أم كلثوم وسط كوكبة من المفكرين والشخصيات العامة والإعلاميين، ربما لأن حضورها الفنى الطاغي غلب على حضورها النقابي.

أما رابطة عاملات النسيج التي أسستها حكمت الغزالي عام 1946 ضمن تشكيلات اللجنة التنفيذية للطلبة والعمال، والتي خاضت تظاهرات ضخمة في 12 فبراير عام 1946 ضد الملك والإنجليز، فقد انفضت سريعًا نتيجة إجراءات القمع العنيف التي مارستها حكومة إسماعيل صدقي ضد الحركة الوطنية والعمال، ولم يتسن لها إعداد كوادر نقابية من بين عاملات النسيج، رغم أنها أول رابطة نسائية تضع برنامجًا لمطالب العاملات.

ثم تأتي نقابة موظفي شركة شل آبار الزيوت الإنجليزية المصرية «النصر للبترول حاليًا» التي تأسست عام 1948 لتسجل مبادرة جديدة لالتحاق المرأة بالعمل النقابي عام 1949 بانضمام عايدة فهمي، وهي المرة الأولى التي تتقدم فيها امرأة للعمل النقابي بشركات الإنتاج الصناعي الكبرى، ولم تقف عن هذا الحد بل واصلت تقدمها لمواقع نقابية أخرى بقطاع البترول كانت مغلقة تمامًا على الرجال، مثل اتحاد عمال البترول، والنقابة العامة للبترول، حتى وصلت لعضوية المجلس الاستشاري الأعلى للعمل عام 1956 لتصبح أول امرأة تفوز بعضويته منذ تأسيسه عام 1933، واستطاعت أيضًا الانتقال بمطالب الحركة النسائية لحقوق متساوية للعاملات إلى حيز التنفيذ، وإقرارها بشكل رسمي في عقد العمل الجماعي بشركتها وفي لائحة خدمات الصندوق الطبي بها قبل إقرارها في قوانين العمل.

كما حاولت في تلك الفترة تأكيد الوجود النسائي على خريطة النشاط النقابي بتشجيع زميلاتها في أماكن العمل الأخرى للتقدم إلى عضوية اللجان النقابية ودفعهن لخوض الانتخابات النقابية ووصولاً بعدد منهن إلى المواقع النقابية بالشركات.

ورغم أن نقابات الموظفين التي تأسست أواخر الأربعينيات في القرن العشرين وعلى رأسها نقابة «موظفي شل لآبار الزيوت» قد أحاطتها الشبهات، باعتبارها نقابات انفصالية تأسست بترحيب من الإنجليز وأصحاب الشركات والحكومة، وبمساندة من الإخوان المسلمين، لفصل الموظفين عن العمال لتفتيت قوة العاملين في المنشأة الواحدة بعد إضرابي عمال النسيج بشبرا عام 1946، والإضراب الضخم لعمال شركة (شل) الإنجليزية للبترول عام 1947، فإنها كشفت عن جانب إيجابي يستحق الدراسة، إذ أتاحت للنساء فرص الوصول إلى المواقع النقابية مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين.

ولم يقف نشاط الأستاذة عايدة فهمي عند حدود العمل النقابي، بل تقدمت لانتخابات مجلس الأمة عام 1957 التي شاركت فيها المرأة للمرة الأولى بعد إقرار حقها في المشاركة السياسية بدستور عام 1956، وفي قانون الانتخاب، وكانت المرشحة المسيحية الوحيدة من بين المرشحين المسيحيين في دائرتها التي لم تلجأ إلى دعم الكنيسة، ورفعت شعار الدين لله والوطن للجميع، مستندة إلى قاعدتها العمالية لسكان الدائرة. فهي واحدة من جيل من الفتيات نشأ وتربى في ظل صحوة وطنية وحدت كل فئات الأمة المصرية وعناصرها على الرغبة في التحرر والمساواة في الحقوق والواجبات، وعلى الأفكار التنويرية التي أعقبت ثورة 1919، وحقق هذا الجيل من النساء مكاسبه مع كل مرحلة من مراحل الاستقلال الوطني، بداية من دستور 1923الذي جعل تعليم المرأة إلزاميًّا، مرورًا بمعاهدة 1936 وعمليات التمصير التي أتاحت للنساء وظائف على نطاق أوسع، وانتهاءً بثورة يوليو 1952 وحصول المراة على حق المشاركة السياسية.

ولعل من حسن حظي أن التقيت بالأستاذة عايدة فهمي عام 2000 قبل وفاتها بخمس سنوات، لأحظى بهذه الشهادة النادرة والثرية لنقابية مصرية أكدت وجودها على الساحة النقابية بأداء رفيع المستوى، واتصف بالكفاءة والحنكة والقدرة على حشد القوى العاملة في القضايا المصيرية، والقدرة على إدارة الأزمات بذكاء حاد، وكسب معاركها بكل ما يمتلكه النقابي من أوراق، سواء عبر التفاهم الودي والتفاوض أو النزاع القانوني، وانتهاءً بالتلويح بالإضراب، ما أكسبها احترام زملائها في العمل، ومنحها موضعًا متميزًا داخل الحركة النقابية، ليس باعتبارها المرأة النقابية الوحيدة آنذاك، بل باعتبارها قيادة نقابية من العيار الثقيل، كما استطاعت عبر هامش الحماية القانونية والانحياز النسبي للعمال الذي أتاحه مجلس قيادة الثورة في أوائل الخمسينيات، الانتقال بنقابتها إلى وضع أفضل من حيث الموارد، والتفاف الجمعية العمومية حول النقابة، ونجحت في فترة توليها منصب السكرتير العام لنقابة «موظفي شل لآبار الزيوت» في رد الاعتبار لنقابتها بإصرارها على تحييد النزعة الانفصالية التي ألصقها بها مؤرخو الحركة العمالية، وإعادة الروح التضامنية لها بخاصة في القضايا المصيرية للعمال.

 لم تقف جهود عايدة فهمي عند حدود المهام النقابية، بل انطلقت إلى تحقيق آمال العمال في الحصول على الرعاية الصحية عبر تجربة جماعية للنقابات أوائل الخمسينيات، ولفتت انتباه القيادة السياسية آنذاك لأحد أهم مطالب الطبقة العاملة وهو «التأمين الصحي والمعاش الدائم، وهذه التجربة وإن لم تكتمل فإن تأثيرها كان كبيرًا في دفع القيادة السياسية لإعداد قانون التأمينات رقم 91 لسنة 1958، في أثناء توليها عضوية المجلس الاستشاري الأعلى للعمل، لتحظى أجيال العمال بعد ذلك بالحصول على معاش دائم، والمدهش أنها حرصت في كل هذا وبوعي أصيل على استقلالية الحركة النقابية، ولم تعلن عن انتماء حزبي خلال نشاطها النقابي، ولم تنضم عمليًّا لحزب الوفد إلا بعد توقف نشاطها النقابي داخل الشركة.

لقد حرصت الأستاذة عايدة فهمي في هذه الشهادة على التركيز على تجربتها في العمل ونشاطها النقابي، ولم تذكر الكثير عن حياتها الشخصية، كما لم ترصد كل الأمور حول تجربتها النقابية، بل ذكرت المحطات المهمة فقط، فذاكرة الحكي عادة ما تكون انتقائية، خاصة وأن تلك السيدة عاشت تاريخًا طويلاً حافلًا بالأحداث العامة والخاصة، يمتد من الحرب العالمية الأولى حتى لحظة وفاتها عام 2005، أي ما يزيد عن ثمانين عامًا لا يمكن الحديث عنها تفصيليًّا في شهادة واحدة، لكنها قدمت في شهادتها صورًا ومشاهد حية للحياة الاجتماعية في مصر منذ العشرينيات حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين، بتفاعلاتها الإنسانية، وأحداثها الاجتماعية، وكشفت لنا عن جانب مهم من التحديات التي واجهت المرأة العاملة في ظل ظروف الحرب، والتوترات، والتحولات السياسية بكل حساسيتها، والتباساتها، وتأثيرها على الطبقة العاملة، داخل واحدة من أهم الشركات الإنجليزية في مصر في مرحلة مهمة من مراحل تاريخها الحديث.

ومزجت عايدة في شهادتها الخاص بالعام، وقدمت تفسيرًا للأحداث من موقعها بوصفها عاملة قذفت بها الظروف إلى معترك العمل النقابي، ووفقًا لرؤيتها الشخصية، ووعيها بقضايا العمل والقضية الوطنية وحقوق النساء، الذي اكتسبته عبر التجربة والتثقيف الذاتي، وخبرة العمل والاحتكاك بإدارات عمل مختلفة، وأيضًا من موقعها كامرأة دخلت منفردة إلى معاقل الرجال تحيطها تحديات اجتماعية من كل جانب.

والشهادة لا توثق لتجربة عايدة في العمل النقابي بشركة «شل» وحسب، بل توثق كذلك لمرحلة من مراحل تقدم المرأة إلى العمل خلال عمليات التمصير، في فترة الانتداب البريطاني على مصر، وسيطرة الأجانب على الاقتصاد المصري، واحتكارهم للاقتصاد ولأغلب الوظائف الحكومية، ووظائف الشركات الأجنبية والمرافق الحيوية، كما توثق لجانب مهم من نضال الطبقة العاملة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، في مرحلة من أخطر مراحل النضال ضد الاحتلال الإنجليزي في مصر، والمراحل الأولى من عمر ثورة يوليو 1952، وترصد جانبًا من نضال المرأة النقابية، كان لصيقًا بالحركة النقابية ونضالها الوطني.