تواريخ

يحيى فكري

عشرون عامًا على تأسيس اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة

2021.01.01

عشرون عامًا على تأسيس اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة

صحونا ذات صباح جميل لنجد الشوارع تهتف لفلسطين. وصِرنا جميعًا يغمرنا شعورًا مختلفًا في مطلع الألفية الجديدة، هكذا أصبحنا نحدث أنفسنا بأن رياح التغيير تهب، وأن فجرًا جديدًا يبزغ بعد ليل طويل. وعدنا لنغني «صباح الخير على الورد إللي فتح في جناين مصر»!

كان قد مرّ ما يقرب من عشرين عامًا على حكم مبارك، وتزداد الأحوال في مصر تعاسة وركودًا. لم يعد هناك من يرى أية مشروعية لذلك النظام الشائخ الفاسد، خاصة وقد باتت تعصف به الأزمات من كل حدب وصوب.

لقد دخل نظام مبارك في نهاية التسعينات في أزمة مركبة، متعددة الجوانب، أهمها الجانب الاقتصادي. فبدءًا من عام 1998 حدث تدهور شديد في كل المعدلات الاقتصادية، ما قوض كل الأوهام التي روجوا لها في منتصف التسعينات، عند بداية تطبيق سياسات الخصخصة والنيوليبرالية، بأن مصر هي «النمر الشرق أوسطي الصاعد».

هكذا شهد مطلع الألفية انهيار شديد في معدلات النمو وارتفاع العجز في ميزان المدفوعات وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وخلال عام 2001 خسر الجنيه المصري أكثر من ثلث قيمته أمام الدولار، ووصل مجمل الانخفاض في سعره عند بداية التعويم عام 2003 إلى حوالي 80%. وكتبت مجلة الإيكونوميست (أهم الدوريات المعبرة عن تقديرات الرأسمالية العالمية) في عدد يناير 2002: «مصر التي وُصفت في منتصف التسعينات بالنمر الاقتصادي، تبدو الآن كتمساح تساقطت أسنانه، فعبر انهيار سعر الصرف، وأسعار الأسهم والعقارات، انخفض حجم الثروة في مصر بمقدار النصف خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وأدى هروب رؤوس الأموال والسياسات الخاطئة إلى انهيار الاستثمارات الأجنبية بمقدار الثلثين بينما ارتفعت البطالة لتصل إلى 20% وفقًا للتقديرات غير الرسمية ومن المنتظر أن تزيد بسبب الأزمة الاقتصادية وبالتالي لن يجد 800 ألف يدخلون إلى سوق العمل سنويًا أي فرصة عمل».

وبالطبع كان الأثر المباشر لذلك هو تردي الأحوال المعيشية للأغلبية الساحقة من المصريين. هكذا ارتفعت الأسعار، وازدادت معدلات الفقر، وتهاوت خدمات الصحة والتعليم والمواصلات ومجمل الخدمات والضمانات الاجتماعية. وبعد حوالي عشر سنوات من بداية تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي، وما نتج عنه من إفقار متسارع للجماهير، بات هناك شعورًا عامًا بفقدان الأمل، وغضبًا مكتومًا يبحث عن طريقه للانفجار.

والمؤكد أن عام 2000 كان عامًا تعيسًا على مبارك ونظامه، فلم يقتصر الأمر على التدهور الاقتصادي، وإنما شهد في منتصفه فشل مفاوضات كامب دايفيد الثانية بين عرفات وباراك (رئيس الوزراء الإسرائيلي) برعاية كلينتون. وهو ما قوض بشكل نهائي مشروع السلام الفلسطيني الإسرائيلي، الذي بدأ باتفاقية أوسلو عام 1993، وكان نظام مبارك عرَّابه والمروج الرئيسي له. وشهد نهاية العام صعود اليمين في الولايات المتحدة وإسرائيل بفوز بوش وشارون، وبدأ بوش وعصابته –حتى قبل توليهم الحكم- في إطلاق سهامهم الحادة ضد مبارك ونظامه بصفته المسؤول من وجهة نظرهم – بسبب فشله وركوده وفساده واستبداده- عن تزايد العداء لأمريكا في المنطقة.

هكذا خسر مبارك دعم الإمبريالية له في وقت كانت فيه تلك الإمبريالية تدق طبول الحرب على أفغانستان والعراق، وتستعد للتدخل بجيوشها في المنطقة. هذا بينما احتدمت الأمور في مواجهته بانفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية (انتفاضة الأقصى) ومظاهرات التضامن معها في كل ربوع مصر. وأصبح يسود شعورًا عامًا أن الشارع المصري لم يعد قابلًا لاستمرار الحال على ما هو عليه.

في نوفمبر عام 1999 –عشية ميلاد الألفية- انطلقت في مدينة سياتل بالولايات المتحدة مظاهرات حاشدة ضد مؤتمر منظمة التجارة العالمية، فيما اعتبر ساعتها إعلانًا عن ميلاد حركة مناهضة العولمة الرأسمالية. هذه الحركة التي تواصلت فيما بعد باتساع مطرد عبر عدة محطات كبرى شهيرة من سياتل إلى جنوة إلى بورتو أليجري، ودمجت في مسارها مناهضة الحرب مع مناهضة العولمة، ونظمت في فبراير عام 2003 مظاهرات عالمية حاشدة للمطالبة بإيقاف الحرب على العراق.

صعود حركة مناهضة العولمة مَثَلَ انعطافة هامة في الصراع الطبقي العالمي ساعتها، ليس فقط لقدرتها على تنظيم حشود عالمية كبيرة، وإنما أيضًا لأنها انطلقت، ولأول مرة منذ عقود، في مواجهة الرأسمالية العالمية ومؤسساتها: منظمة التجارة العالمية والصندوق والبنك الدوليين. وتجاوزت بذلك المطالب العالمية الجزئية مثل انقاذ البيئة أو اسقاط ديون العالم الثالث، وإن كانت قد حشدت في مسارها كل الحركات والجماعات التي تناضل من أجل مطلب أو آخر: الخضر، وأنصار البيئة، والحركات النسائية، واتحادات الفلاحين، والنقابات العمالية، والمنظمات غير الحكومية، والفوضويين، والاشتراكيين الماركسيين بمختلف تياراتهم، وبالطبع حركة أوقفوا الحرب. ولقد خلق هذا الزخم الشديد للحركة حالة من التجذير السياسي واسع النطاق على امتداد قارات العالم الخمس لسنوات تالية.

وبعد أقل من عام من مظاهرات سياتل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية، وأدت إلى تفجير حركة تضامن واسعة معها، وانطلقت مظاهرات عارمة في عديد من العواصم العربية الكبرى تهتف لفلسطين والقدس والانتفاضة وتدين التخاذل العربي. وهكذا لعبت الانتفاضة على الساحة العربية نفس الدور الذي لعبته حركة مناهضة العولمة على الساحة العالمية، أي خلقت حالة من التجذير السياسي في مختلف بلدان المنطقة. 

ففي يوم الخميس 28 سبتمبر عام 2000 اقتحم شارون باحات المسجد الأقصى تحت حماية نحو ألفين من جنود الاحتلال الإسرائيلي. وأعلن أن الحرم القدسي سيظل منطقة إسرائيلية، ما استفز الجماهير الفلسطينية وأدى إلى خروج مظاهرات احتجاج كبيرة ووقوع مواجهات دموية في مختلف مدن الضفة وغزة. وفي يوم السبت 30 سبتمبر عرضت قناة تليفزيون فرنسية شريط فيديو لعملية اغتيال الطفل محمد الدرة الذي كان يحتمي بجوار أبيه ببرميل أسمنتي في شارع صلاح الدين جنوبي مدينة غزة. هذه اللقطات المصورة التي تحولت إلى أيقونة الانتفاضة وأثارت مشاعر عشرات الملايين من العرب ضد همجية الاحتلال الصهيوني.

وفي يوم الأحد 1 أكتوبر تجمع آلاف الطلبة في ساحات جامعتي القاهرة وعين شمس، حول معرضين نظمهما الطلاب الاشتراكيون احتجاجًا على ما يجري في الأراضي المحتلة. وقد دفع زخم الأحداث والغضب مما يجري الطلاب للاحتشاد بشكل عفوي، وتطور الأمر سريعًا لتتحول الحشود الاحتجاجية إلى مظاهرات كبيرة تقتحم البوابات الحديدية للجامعتين وتخرج إلى الشارع، في سابقة كانت الأولى من نوعها منذ سنوات -ما يقرب من عشر سنوات على الأقل، عندما خرجت مظاهرات احتجاج طلابية ضد الحرب الأولى على العراق (حرب تحرير الكويت).

وعلى امتداد شهري أكتوبر ونوفمبر عام 2000 لم تتوقف المظاهرات الطلابية للتضامن مع الانتفاضة في مختلف المدن المصرية. وامتدت الحركة من طلاب الجامعات إلى طلاب المدارس، وهو حدث شديد الدلالة، لأنه يكشف عن انتشار الغضب داخل فئات اجتماعية أوسع. وتحولت مظاهرات طلاب المدارس إلى طقس شبه يومي في أحياء وبلدات عدة، وارتفع وسطهم هتاف شهير مقتبس من هتافات جماهير كرة القدم: «واحد اتنين الجيش المصري فين»! وبالطبع كان الهدف من المطالبة بتدخل الجيش في هذا الهتاف ساعتها هو إنقاذ الشعب الفلسطيني، وليس فرض حكمًا عسكريًا على الشعب المصري.

كما شهدت مظاهرات أكتوبر ونوفمبر حدثًا آخر غير مسبوق أيضًا، عندما ارتفع وسط حشود الطلبة في ساحة جامعة القاهرة هتافًا يتحدى مبارك لأول مرة منذ توليه السلطة: «يا علاء قول لَأبوك.. كل الطلبة بيكرهوك»! هذا التحدي الذي كشف عن الغضب المكتوم، وتطور عبر السنوات التالية إلى معركة للتغيير الديمقراطي انتهت بثورة يناير المجيدة وإسقاط مبارك.

شهدت مصر طوال عقد التسعينات حالة من الركود السياسي وخفوت في حدة النضالات الاجتماعية، اللهم إلا من النذر اليسير، وهو وضع نتج عن شروط عديدة محلية وإقليمية وعالمية، ليست محل نقاش هنا. إلا أن زخم مظاهرات التضامن مع الانتفاضة خلق صحوة سياسية، وأصبح هناك جيلًا جديدًا يندفع إلى ساحات النضال، ودماءً جديدة تتدفق في شرايين الحركة. 

وطوال الأسابيع الأولى منذ انطلاق الانتفاضة لم تتوقف أشكال التضامن معها، فإلى جانب المظاهرات نُظمت عدة مؤتمرات حاشدة للتضامن في: نقابة الصحفيين، وحزب التجمع، وعدد من المواقع المحلية في شمال القاهرة ومدينة نصر ومدينة السويس ومدينة العريش؛ كما صدر عدد كبير من البيانات السياسية من قوى ومؤسسات تعلن عن تضامنها مع الانتفاضة.

وفي يوم الجمعة 13 أكتوبر عام 2000 دعا مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب إلى اجتماع موسع في مقره، حضره عدد كبير من المناضلين السياسيين والشخصيات العامة، غالبيتهم العظمى من اليسار بمختلف تلاوينه، للبحث في كيفية دعم الانتفاضة وسبل التضامن معها. وتم في هذا الاجتماع تأسيس «اللجنة الشعبية المصرية لدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني». وبعد عدة أيام أعلن مركز هشام مبارك للقانون عن استضافة اللجنة، بحيث تمارس نشاطها من مقره على كورنيش النيل في الملك الصالح. 

واتفق المجتمعون في مركز النديم على مهمتين أساسيتين للجنة: الدعم السياسي والدعم المادي، وصدر عنهم بيان تأسيسي يتضمن هذا الإطار. وفي أول اجتماع داخل مركز هشام مبارك تقرر إصدار عريضتين لجمع التوقيعات عليهما، الأولى موجهة لأمين عام الأمم المتحدة تطالبه بتفعيل القرارات الدولية المساندة للشعب الفلسطيني، والثانية موجهة لرئيس الجمهورية تطالبه بقطع العلاقات مع إسرائيل. كما تقرر العمل على تنظيم حملة لجمع توقيعات شعبية على العريضتين، وتقرر أيضًا البدء في جمع تبرعات عينية وتسليمها إلى اللجان الشعبية في فلسطين.

ولأن الشهور الأولى من الانتفاضة شهدت تعاطفًا واسعًا من جانب الجماهير المصرية، وحماسة شديدة للتضامن معها، لذا حققت المهام العملية التي ألقتها اللجنة الشعبية على نفسها نتائج باهرة. والحقيقة أن الإعلام لعب دورًا مركزيًا وقتها في إلهاب حماسة الجماهير المصرية، وساهم بالأساس في ذلك قناة الجزيرة القطرية، وقناة النيل الإخبارية التي كانت تتمتع ساعتها بروح شبابية ودرجة من الاستقلالية. كما ساهم أيضًا برنامج «رئيس تحرير» للإعلامي حمدي قنديل بشكل رئيسي في الدعاية والتعبئة للجنة الشعبية.

هكذا نجحت اللجنة في جمع كميات هائلة من التبرعات العينية خلال وقت قصير، اشتملت على مواد غذائية جافة (دقيق، وأرز، وسكر، ولبن مجفف، الخ) وأدوية ومستلزمات طبية. وبالطبع كان هناك نشاطًا مركزيًا لجمع التبرعات يديره مركزي النديم وهشام مبارك وعدد من قيادات اللجنة، إلا أن الحدث الأهم، وبالغ الدلالة، هو النشاط المحلي الواسع لجمع التبرعات في الأقاليم، خاصة المدن والبلدات الريفية في الوجه البحري، الذي ارتبط بزخم الانتفاضة والحماسة الشعبية للتضامن معها، والذي لعب دورًا هامًا في تعبئة الجمهور حول اللجنة.

وقررت اللجنة تنظيم قافلة إغاثة لتسليم التبرعات، وتوجهت بخطاب رسمي إلى وزير الخارجية لتسهيل مهمتها، فجاءها الرد من عمرو موسى –وزير الخارجية- محييًا ومباركًا، فيما اعتبر اعترافًا رسميًا بها. وخرجت القافلة الأولى يوم 26 نوفمبر عام 2000، لكنها مُنعت من الوصول إلى رفح وتسليم التبرعات إلى اللجان الشعبية الفلسطينية، واضطروا إلى تسليمها لمسئول السلطة الفلسطينية في العريش على غير ما كان مخطط له. إلا أن حملات جمع التبرعات تواصلت بنفس الحماسة والزخم استعدادًا لتجهيز قوافل تالية.

على جانب آخر قامت اللجنة بتوزيع العريضتين بشكل واسع لتجميع التوقيعات عليهما، ونظمت مجموعة من الفعاليات المتنوعة (ندوات، أمسيات فنية، الخ) في مواقع عديدة لجمع التوقيعات. وبعدما نجحت في جمع أكثر من ربع مليون توقيع، قام وفد كبير من أعضاء اللجنة يوم 28 فبراير عام 2001 بتسليم التوقيعات على العريضة الموجهة لأمين عام الأمم المتحدة في مقر المركز الإعلامي للأمم المتحدة بجاردن سيتي. وبعدها قام الوفد بتسليم التوقيعات على العريضة الموجهة إلى رئيس الجمهورية في قصر عابدين بصحبة اثنين من أعضاء البرلمان هما حمدين صباحي وعبد العزيز شعبان، وفي حضور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية.

وخلال عام 2001 نظمت اللجنة سبعة قوافل تحمل تبرعات من الأغذية والأدوية لدعم الانتفاضة. وفي يوم 10 سبتمبر 2001 نظمت اللجنة مظاهرة أمام مجمع التحرير، دعت إليها بصفتها تجمع لوفد شعبي لتسليم رسالة احتجاج إلى السفارة الأمريكية. هذه المظاهرة كانت أيضًا –بمعنى ما- جديدة من نوعها، فهي لم تكن تحرك جماهيري عفوي، وإنما كانت تجمهر تم بناءً على دعوة من قوى سياسية منظمة، وهو حدث غير مسبوق منذ سنوات طويلة.

وهكذا افتتحت مظاهرة 10 سبتمبر سلسلة طويلة من المظاهرات والتجمهرات، تمت جميعًا بناءً على دعوات من قوى سياسية، طوال السنوات التالية وحتى انطلاق ثورة يناير المجيدة. وخلال المظاهرة ارتفع أيضًا لأول مرة هتافًا شهيرًا ظل يتردد بعدها لسنوات: «يسقط.. يسقط.. حسني مبارك»! الذي بادر به الاشتراكيون الثوريون يومها.

لكي ندرك حجم الدور الذي لعبته اللجنة الشعبية، ومدى تأثيرها، علينا أولًا التعرف على حدود الحركة السياسية في ذلك الوقت. ولو حاولنا رسم خريطة لقوى المعارضة السياسية المصرية وأحوالها في مطلع الألفية، سنجدها على الوجه التالي: 

هناك أحزاب المعارضة الشرعية القائمة (أهمهم أحزاب التجمع والوفد والناصري) وجميعهم أحزاب هامشية لا شأن لها، متواطئة مع النظام وتتبع سياسات انتهازية، وليس بينها ما يمكن وصفه بأنه تنظيم جماهيري. المنظمة الجماهيرية الوحيدة في مصر ساعتها كانت جماعة الإخوان المسلمين، وهي تنظيم غير شرعي يملك قاعدة جماهيرية واسعة، وإن اقتصر نشاطها على تقديم الخدمات والمشاركة في الانتخابات البرلمانية والنقابية، وتتمتع بنفس الدرجة من التواطؤ والانتهازية، ودون أية فعالية سياسية ذات طابع احتجاجي.

إضافة لهؤلاء كان هناك ثلاثة أحزاب غير شرعية، أكثر حضورًا وفعالية من الأحزاب الشرعية، لكن أقل جماهيرية بكثير من الإخوان: حزب العمل (حزب شرعي تم حله) وهو تنظيم وطني راديكالي شديد التلون، يتأرجح ما بين المواقف اليسارية والإسلامية، ويتسم خطابه بالصخب الشديد فكان أعلى الأصوات وأكثرها حدة ضمن المعارضة السياسية خلال التسعينات؛ وحزب الوسط وهو انشقاق عن الإخوان المسلمين، حاول بناء حزب إسلامي حداثي مندمج في الحركة الديمقراطية؛ وحزب الكرامة، وهو انشقاق راديكالي عن الحزب الناصري، يقوده جيل السبعينات في الحركة الناصرية، يمارس أدوارًا أكثر نضالية ويتمتع بنفوذ جماهيري في بعض المواقع، لكن تتسم مواقفه بعصبوية شديدة. وإلى جانب الكرامة سنجد بعض الحلقات الناصرية، الأصغر والأقل فاعلية.

أما تنظيمات اليسار الماركسي ذات الإرث النضالي، والشأن الكبير في السبعينات، فقد تفككت جميعًا واندثرت منذ منتصف الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، ولم يتبق منها سوى حلقات محدودة ظلت هي الأخرى هامشية وبلا تأثير. أهم ما بقى منها كان الحزب الشيوعي المصري وهو حلقة صغيرة مارست نشاطها من داخل حزب التجمع وتحت مظلته، وعلى نفس خطه الانتهازي. ذلك بالإضافة لبعض الحلقات الأصغر من بقايا اليسار الراديكالي السبعيني كانت تحاول الحفاظ على وجودها دون أية فعالية تُذكر. 

وإلى جانب هؤلاء سنجد حلقتين أكثر شبابية وفعالية: الاشتراكيين الثوريين، وهي حركة نشأت في مطلع التسعينات، كانت في ذلك الوقت محدودة العدد ومنقسمة، تمارس نشاطًا ضيقًا ودؤوبًا في بعض الجامعات والمواقع العمالية؛ واليسار الديمقراطي، وهي حركة كانت ساعتها في طور التشكل، دفع إليها بعض كوادر اليسار السبعيني تحت مظلة المركز المصري الاجتماعي الديمقراطي.

ولم تقتصر حركة اليسار على تلك التنظيمات، وإنما تجاوزتها إلى منظمات المجتمع المدني الحقوقية. فقد انخرط عدد كبير من كوادر اليسار الراديكالي السبعيني، بعد اندثار حلقاته، في العمل والنشاط داخل تلك المؤسسات التي شهدت انتعاشًا خلال التسعينات. ولقد تبنى البعض منها توجه نضالي متحدي للدولة القمعية، كان أهمهم مركزي النديم وهشام مبارك. وإلى جانب التنظيمات والحلقات ومؤسسات المجتمع المدني، كان هناك المئات من كوادر اليسار السبعيني منفرطي العقد، الذين عزفوا عن السياسة واعتزلوا العمل العام، ثم جاءت مظاهرات التضامن مع الانتفاضة لتعيد إليهم الروح والرغبة في النضال.

ربما تكون هذه الخريطة خادعة، بما تشمله من تكوينات عديدة ذات توجهات متنوعة. الحقيقة أن تلك التكوينات جميعًا، لحظة انطلاق حركة التضامن مع الانتفاضة، إما كانت في حالة موات، أو هامشية وشديدة الضعف، أو محدودة التأثير بشكل نوعي. لم تكن هناك حركة سياسية كالمتعارف عليها في البلدان الديمقراطية، أو حالة من المد والتصاعد النضالي كالتي عرفتها مصر في السنوات العشر التالية. لم تكن هناك تنظيمات نقابية لها أي درجة من الاستقلالية أو النفوذ الجماهيري، ولم تكن هناك أية حركات اجتماعية، حتى التنظيمات الجهادية المسلحة التي علا شأنها في مطلع التسعينات كان قد تم سحقها بالفعل في نهايتها.

اختصارًا، مصر مبارك في مطلع الألفية لم تكن فقط بلدًا يعاني من ركود اقتصادي، وأزمة اجتماعية، وعزلة دولية، وفساد وشيخوخة في هياكل الحكم، وإنما أيضًا كانت بلدًا يعاني من هامشية وضعف حركتها السياسية وقوها المعارضة، وشبه موات في حركة جماهيرها ومبادرتها العفوية. هذا ما كان عليه الحال عشية ذلك الصباح الجميل، يوم انطلاق حركة التضامن مع الانتفاضة.

لا شك أن مظاهرات أكتوبر ونوفمبر عام 2000 أعادت الروح بعفويتها للحياة السياسية، وكشفت الغطاء عن كم الغضب والفوران في الشارع المصري. فاستمرارها على مدار شهرين متواصلين، وانتقالها من طلاب الجامعات إلى طلاب المدارس، واتساع نطاقها الجغرافي على امتداد العديد من المدن والبلدات، هو حدث غير مسبوق منذ الأربعينات.

ولا شك أيضًا أن اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة ساهمت بشكل رئيسي في تحفيز وتطوير ذلك التجذير السياسي. ولعبت دورًا مركزيًا في خلق بؤرة لتعبئة وتنظيم أعدادًا غفيرة من الشباب الجدد الذين التفوا حول حركة التضامن مع الانتفاضة.

وبعد خفوت حدة مظاهرات، صارت اللجنة خلال أسابيع قليلة يُنظر لها بصفتها مركزًا وقيادة لحركة التضامن. وسريعًا ما تشكلت عشرات من اللجان الفرعية في المواقع المحلية والنقابات المهنية، تعمل كل منها بشكل مستقل عن اللجنة الأم، وإن كانت تمارس نشاطها جميعًا تحت مظلة واحدة، وتقوم كلها بمهمتين أساسيتين: جمع التبرعات، وجمع التوقيعات على العريضتين، ويتم توجيه الحصيلة في الحالتين إلى اللجنة الأم.

النجاح البارز للجنة الشعبية ارتبط ساعتها بطبيعتها السياسية والتنظيمية، بصفتها تكوين جبهوي واسع ومنفتح ينسق بين المشاركين فيه على مهام عملية محددة. لقد اقتدى مؤسسو اللجنة بالسياسة التي انتهجتها حركة مناهضة العولمة، واقتبسوا الصيغ التنظيمية التي اشتقتها الحركة منذ ما يقرب من عام. وقاموا بإنتاج إطارًا للعمل سمح لنشيطين ومناضلين سياسيين قادمين من روافد مختلفة، وحاملين لتوجهات متباينة، والأهم منخرطين تحت رايات سياسية وتنظيمية –متنافسة أحيانًا، وغير متناسقة في أغلب الأحيان- بالعمل معًا وانجاز المهام المطلوبة بفاعلية وكفاءة. وهكذا قدمت تلك الصيغة التنظيمية حلًا مثاليًا لمعضلة التشرذم والركود الطويل الذي كانت عليه الحركة السياسية في مصر في مطلع الألفية.

كان هناك سؤالًا متحديًا، أصبحت الإجابة عليه ضرورة ملحة في ذلك الوقت، هو:

كيف لجماعة من النشيطين السياسيين تضم: 1) ممثلين لقوى معارضة هامشية وانتهازية مثل حزبي التجمع والشيوعي المصري؛ 2) ممثلين لمنظمات مجتمع مدني حقوقية مناضلة ذات طابع مؤسسي مغلق مثل مركزي النديم وهشام مبارك؛ 3) ممثلين لتنظيمات وطنية راديكالية عصبوية مثل حزب الكرامة ومتلونة مثل حزب العمل؛ 4) ممثلين لتنظيم جماهيري خانع ومتواطئ ورجعي ومنغلق على نفسه مثل الإخوان المسلمين؛ 5) ممثلين لحلقة يسارية ثورية مناضلة صغيرة العدد ومحدودة التأثير مثل الاشتراكيين الثوريين؛ 6) ممثلين لحلقة يسارية في طور التشكل تحاول بطريقة حلقية ملتبسة الاستفادة من زخم اللجنة مثل المركز الاجتماعي الديمقراطي؛ 7) إلى جانب بعض الشخصيات العامة، وعدد كبير من المناضلين المستقلين المنحازين جميعًا للانتفاضة والراغبين في دعمها.. كيف يمكن لهذا الجمع المتنافر، الذي لا يوحده سوى تضامنه مع الانتفاضة، أن يعمل معًا بفاعلية وكفاءة، تستجيب لزخم الشارع، وتدفع بعفويته في اتجاهات أكثر تسييسًا وتنظيمًا، في ظل دولة قمعية غير متسامحة مع أي نشاط جماهيري منفتح؟ 

لم يكن بالطبع هذا ممكنًا دون وجود حركة جماهيرية حاضنة، إلا أن وجودها لا يكفي وحده، لابد من توجه في إدارة العمل يعي المعضلات التي تواجهه: أول سمات هذا التوجه هو قبول العمل الجماعي، كاختيار لا مفر منه؛ وثانيها هو قبول التنوع داخل هذا العمل الجماعي، وحق كل طرف في الحفاظ على انحيازاته ومواقفه المستقلة؛ وثالثها هو وضع شروط لإدارة العمل تضمن استمراريته وكفاءته، وتحفظ التوازن بين الجميع.

الشرط الأول أن يكون اجتماع اللجنة مفتوحًا بشكل دائم، يحق لكل من يرغب في دعم الانتفاضة أن يشارك فيه. الشرط الثاني ألا يكون لأي طرف داخل الاجتماع وزن خاص عن الآخرين، ممثل القوى السياسية والشخصية العامة والمناضل الفرد المستقل جميعهم متساوون في حق المناقشة والاقتراح والتصويت. الشرط الثالث أن تُتخذ جميع القرارات بالتوافق بين الجميع، ولا تعتمد مبدأ الأغلبية والأقلية. الشرط الرابع أن يقتصر النقاش والقرارات على المهام العملية وترتيباتها.

نجحت صيغة اللجنة الشعبية نجاحًا باهرًا في البداية، وحققت نتائج تجاوزت كل التوقعات، وصارت خلال عدة أسابيع المركز الأهم والأكثر وزنًا داخل الحركة السياسية في مصر. لكن مع تراجع زخم البدايات بدأت تظهر عيوب الصيغة التنظيمية. فاجتماع تنسيقي مفتوح يحق لكل من يرغب أن يشارك فيه بنفس الدرجة من التساوي بين الجميع، وضرورة توافق كل الحضور على أي قرار يُتحذ، هي شروط تؤدي مباشرة إلى الشلل وانعدام الفاعلية. ولا يمكن لهذه الشروط أن تحقق النجاح إذا لم تصاحبها إرادة لدى جميع الأطراف بحتمية تقديم تنازلات سياسية من جانب كل منهم لصالح الآخرين.

ولقد توافرت هذه الإرادة في البداية لكنها اختفت فيما بعد، ومع اختفائها بدأ الشقاق والتكتل داخل اللجنة، ووصل الأمر في نهاية عام 2001 إلى انقسام اللجنة عمليًا إلى لجنتين، تعمل كل منهما باستقلالية عن الأخرى. ورغم انقسام الاجتماع التنسيقي، إلا أن المهام العملية (جمع التبرعات، وجمع التوقيعات، وتنظيم القوافل) ظلت تتم بكفاءة بسبب استقلالية النشاط القاعدي. وسرت وقتها طُرفة وسط كوادر اللجنة أنها تضم نوعين من الأعضاء: نوع يقوم بالنشاط الذهني، غارق في الاجتماعات التنسيقية، بما تشمله من سجالات ومشاحنات وشد وجذب وعدم فاعلية؛ ونوع يقوم بالنشاط اليدوي، نشيط وفعال ويحقق انجازات، يحاول النوع الأول أن يسطو عليها!

وفي يوم الجمعة 29 مارس 2002 اقتحم ثلاثون ألف جنديًا إسرائيليًا مخيم جنين في مدينة نابلس الفلسطينية، بهدف سحق الانتفاضة، ما أشعل الحريق ثانيةً. واندفع فرقاء اللجنة الشعبية إلى إعادة توحيدها وتجاوز خلافاتهم في استجابة نضالية لسخونة الأحداث، ونجحوا بالفعل باستثناء جناح يساري متطرف محدود ظل منعزلًا. ودعت اللجنة إلى مظاهرة احتجاجية يوم الثلاثاء 2 أبريل في ميدان النهضة أمام السفارة الإسرائيلية. إلا أن الحشود الأمنية منعت المتظاهرين من الوصول للسفارة، فتجمعوا عند النصب التذكاري أمام جامعة القاهرة. ونجحت المجموعات الطلابية المرتبطة باللجنة في حشد مظاهرة كبيرة داخل أسوار الجامعة يومها، اقتحمت البوابة الحديدية والتحمت بالمتظاهرين في الخارج.

هكذا عادت مظاهرات طلاب الجامعات والمدارس العفوية إلى الشارع، لفترة وجيزة هذه المرة. إلا أن اختلافها عن الموجة الأولى - وأهميتها- أنها انطلقت بعد مبادرة من اللجنة الشعبية يوم 2 أبريل. وبعد تراجع المظاهرات العفوية عاد الشقاق إلى اللجنة، لكن بترتيب مختلف للانقسامات، وبات واضحًا للجميع أن الصيغة القائمة وصلت لنهايتها. وفي الشهور الأخيرة من عام 2002 بدأت الإمبريالية في دق طبول الحرب على العراق، وظهر الاحتياج لتنظيم فعاليات احتجاجية تستجيب للغضب المحلي وتواكب الحركة العالمية.

خرج اقتراح بتشكيل لجنة لتنظيم مظاهرات احتجاجية على الحرب. والحقيقة أنها كانت إعادة تشكيل للجنة الشعبية بنفس أطرافها وصيغتها التنظيمية وتعمل من نفس المقر (مركز هشام مبارك)، لكن بتجاوز للخلافات التي عرقلت وشلت الأولى. ودعت اللجنة الجديدة إلى تنظيم سلسلة من المظاهرات - مظاهرة كل شهر - احتجاجًا على الحرب، كان أخرها مظاهرة السبت 15 فبراير عام 2003 في ميدان السيدة زينب، وهو اليوم الذي اُختير عالميًا لتنظيم مظاهرات احتجاجية في كل أرجاء المعمورة، وشهد أكبر حشد احتجاجي في تاريخ الإنسانية.

بات لدى الجميع يقين بأن الحرب على الأبواب فالجيوش محتشدة تنتظر الشرارة، فقط لا أحد يعرف الموعد تحديدًا. هكذا اتفقت اللجنة على إطلاق دعوة للتظاهر في الساعة الواحدة ظهرًا في ميدان التحرير يوم بدء الحرب. سرت الدعوة بشكل واسع، إلا أن أحدًا لم يكن يقدر حجم الاستجابة.

وفي صباح الخميس 20 مارس 2003 بدأت الحرب، وتوجه الجميع إلى ميدان التحرير في الواحدة ظهرًا. ووصلت الحشود خلال ثلاث ساعات لما يزيد عن أربعين ألف متظاهر، واضطرت قوات الأمن إلى الانسحاب من الميدان، ليحتله المتظاهرون في سابقة لم تحدث منذ عام 1972. وفي نهاية اليوم أعلن المنظمون فض الاعتصام، والدعوة لمظاهرة تخرج في اليوم التالي بعد صلاة الجمعة من الجامع الأزهر إلى ميدان التحرير. وفي اليوم التالي احتشدت قوات الأمن مبكرًا لمنع أي تواجد في الميدان، ما أدى إلى قيام عدة مظاهرات عارمة جابت شوارع وسط المدينة، وحدثت صدامات عنيفة بين الأمن والمتظاهرين، الذين احرقوا الإعلانات التي تحمل صور حسني مبارك، وبات من الواضح للجميع أن مصر تدخل عصرًا جديدًا.

واصلت اللجنة الشعبية تنظيم قوافل الدعم حتى عام 2004، ووصل عدد القوافل التي أرسلتها منذ البداية وحتى النهاية إلى 19 قافلة. لكننا يمكن أن نعتبر مظاهرات 20 و21 مارس تاريخًا فاصلًا، فهي مَثَلت نهاية لحركة التضامن وللجنة الشعبية بالتبعية، وبداية لمعركة التغيير الديمقراطي. صارت نهاية في اتجاه صاعد وأكثر جذرية، وأصبحت البوصلة التي تتجه إليها أنظار الجميع، والسؤال الذي تدور حوله كل المداولات، هو: كيف نبدأ معركة من أجل الديمقراطية والإصلاح السياسي؟ 

هكذا لعبت اللجنة الشعبية دورًا مركزيًا في تطوير الحركة العفوية وتسييسها، وساهمت في إعادة إحياء الحركة السياسية وانتشالها من مستنقع الركود، وحفزت امكانيات النضال السياسي والاجتماعي في واقع تعتمل فيه عوامل الغضب والرغبة في التغيير.