رؤى
فوكومان ميلينكوفيتشالبابا فرنسيس: إصلاحي في كنيسة غير إصلاحية!
2025.05.11
مصدر الصورة : AFP
ترجمة: أشرف إبراهيم
المقال الأصلي منشور في موقع COUNTERFIRE بتاريخ 27 أبريل 2025[1]، وهو ترجمة لمقال منشور في موقع KONTRANAPAD بتاريخ 26 أبريل 2025[2]
ستُحزن وفاة البابا فرنسيس كثيرين من المؤمنين، خصوصًا في بلدان الجنوب العالمي، في حين سيرحب بها الجناح اليميني في الهرمية الكاثوليكية الرومانية المرتبط بالأنظمة الرجعية من وارسو إلى واشنطن بارتياح. فقد جسّد خورخي ماريو بيرغوليو، المعروف بالبابا فرنسيس، التوترات داخل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
من جهة، بقي حارسًا لسلطة الفاتيكان الظالمة، تلك المؤسسة التي شاركت لقرون في أشكال من القمع الطبقي، الاستعماري، والأبوي. ومن جهة أخرى، كان شخصية نادرة ضمن تلك الهرمية أعطت صوتًا علنيًّا للمضطهدين. فمثلًا في وقت كانت فيه القوى الغربية تدعم، أو تصمت أمام إرهاب إسرائيل ضد شعب فلسطين، أدان البابا فرنسيس ذلك بوضوح واعتبره جريمة ضد الإنسانية.
وفي مجال الإصلاحات داخل الكنيسة، أحرز تقدمًا، وإن كان محدودًا، كسر بعض الحواجز: سمح بمنح البركة الرعوية للأزواج من نفس الجنس، وهو وإن لم يصل إلى حد الاعتراف الكامل بهذا النوع من الزواج كنسيًّا، فإنه يمثل خطوة تاريخية. كما سمح للنساء بالمشاركة في انتخاب الأساقفة، وهو ما لم يصل إلى درجة الاعتراف بالكهنوت النسائي، لكنه فتح ثغرات في البنية الأبوية للكنيسة.
علاوة على ذلك، وبصفته أول بابا من أمريكا اللاتينية، جلب معه روح لاهوت التحرير، الحركة المسيحية الاشتراكية الراديكالية التي نشأت في وطنه. ورغم أنه كان متحفظًا تجاه هذه الحركة في شبابه، فإنه تبنَّى خلال حبريته بعض مبادئها الأساسية: الالتزام بالفقراء، نقد الاستغلال الرأسمالي، وربط العدالة الاجتماعية بالبيئية. كما عبّر عن تعاطفه مع الاشتراكية كبديل أخلاقي عن النيوليبرالية، ما أثار انتقادات حادة من المحافظين.
ومع ذلك، ورغم هذا الخطاب، ابتعد بشكل حاسم عن البعد الثوري للاهوت التحرير، وقام بقمع تحليله الطبقي. فبدلًا من الدعوة إلى انتفاضة المضطهدين، بقي أسلوبه في إطار الإصلاحية والإدانة الأخلاقية للظلم دون الدعوة إلى تنظيم سياسي لمقاومته.
خطوات صغيرة، شقوق كبيرة: غزة، مجتمع الميم، ومسألة المرأة
خلال فترة حبريته، وضع البابا فرنسيس نفسه بشكل متزايد في مواجهة التيارات الأيديولوجية السائدة في الإمبريالية الغربية ويمين الكنيسة. لم تكن انتقاداته خطابية فقط. ففي بعض الحالات، مِثْل إدانته لإرهاب إسرائيل ضد الفلسطينيين، تحدى بشكل مباشر الهيمنة السياسية والدينية التي بررت لعقود من الزمان ذبح المسلمين في الشرق الأوسط. عندما وصف جرائم إسرائيل في غزة بـ"الإرهاب"، وأشار إلى أنها قد تحمل "سمات الإبادة الجماعية"، لم يُدِن تل أبيب فقط، بل كذلك "الحضارة" الغربية التي تموّل المجازر. وقد لقيت كلماته صدًى قويًّا بين شعوب الجنوب العالمي، مبينًا أن الصوت المناهض للعنف الإمبريالي يمكن أن يُسمع حتى من داخل الفاتيكان رغم تاريخه الاستعماري.
وفيما يخص حقوق المرأة في الكنيسة، حقق البابا تقدمًا رمزيًّا، ولكن ذا دلالة. ففي عام 2021، سمح لأول مرة للنساء بالتصويت في انتخاب الأساقفة، كاسرًا تقليدًا عمره قرون من تهميش المرأة. وقال: "لا يمكننا أن نتخيل الكنيسة بدون الدور الأساسي للمرأة"، رغم رفضه المستمر لمسألة الكهنوت النسائي. ويجسد هذا التناقض بين إشراك النساء في الحكم ورفض الاعتراف بهن ككاهنات توترًا جوهريًّا في حبريته: الاستعداد لبعض الإصلاحات، لكن دون إعادة ترتيب جذرية لهياكل السلطة.
كما تحدى البابا أحد أكثر المُحرَّمات عنادًا في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية: علاقتها بمجتمع الميم. ففي ديسمبر 2023، تقرر أن في إمكان الكهنة منح "البركة الرعوية" للأزواج من نفس الجنس، ما شكَّل تحولًا مفصليًّا بعد عقود من الرهاب المؤسسي. وقال: "عندما يُطلب البركة، تُمنح البركة"، مؤكدًا أن الكنيسة يجب ألا تكون "قاضيًا لا يعرف إلا الإدانة". ورغم توضيحه أن الأمر لا يتعلق بالاعتراف بالزواج الكنسي المثلي، فإن هذه الخطوة أثارت معارضة شرسة من الأساقفة المحافظين، خصوصًا في إفريقيا، حيث رفضت بعض المؤتمرات الأسقفية تنفيذ القرار علنًا. وفي بولندا، وصف الكاردينال مارك يندراشيفسكي التغيير بأنه "مدمر"، وكان قد صرّح سابقًا بأن "أيديولوجيا المثليين أخطر من الشيوعية".
لاهوت التحرير: عودته إلى الكنيسة دون الثورة
لاهوت التحرير هو أكثر الحركات المسيحية اليسارية تطرفًا في القرن العشرين، وقد وُلد من نضال الجماهير الفقيرة في أمريكا اللاتينية من أجل التحرر. في جماعات القاعدة الكنسية، حيث قرأ الفلاحون والعمال والكهنة المهمشون الكتاب المقدس من منظور اضطهادهم، ظهر يسوع في روح المسيحية المبكرة كثائر يقف مع الفقراء، ليس فقط روحيًّا، بل سياسيًّا. كانت مبادئ الحركة الأساسية: الالتزام بالفقراء باعتبارهم موضع الحضور الإلهي، وعبرت الحركة عن نقد مستوحًى من الماركسية للعنف البنيوي لنمط الإنتاج الرأسمالي، ورؤية للكنيسة كجماعة مسيحية منظمة سياسيًّا تسعى فعليًّا إلى إقامة ملكوت الله عبر القضاء على الظلم والعبودية والأنانية.
ولقد دفعت الحركة بسبب ذلك ثمنًا دمويًّا: فقد قُتل الآلاف من الكهنة والرهبان والعلمانيين على يد الأنظمة اليمينية المدعومة من الولايات المتحدة. ومن بين الضحايا كان أوسكار روميرو، رئيس أساقفة السلفادور الذي اغتيل أثناء القداس عام 1980، واليسوعيون في جامعة أمريكا الوسطى الذين ذُبحوا عام 1989. وأدان الفاتيكان في عهد يوحنا بولس الثاني والكاردينال راتزينغر (لاحقًا بنديكتوس السادس عشر) الحركة بحجة أنها "ماركسية أكثر من اللازم"، وعوقب عديد من لاهوتيي التحرير بالحظر من التعليم أو النشر أو الخطابة.
وبصفته أول بابا من الجنوب العالمي، جلب فرنسيس صدًى حقيقيًّا للاهوت التحرير إلى الفاتيكان، لكنه استبدل بجوهره الثوري "لاهوت الشعب"، وهو نسخة معتدلة طورها اللاهوتي الأرجنتيني خوان كارلوس سكانوني، تتجنب المفاهيم الماركسية والصراع الطبقي لكنها تحتفظ بالتركيز في الفقراء.
ورغم تحفظه على لاهوت التحرير في البداية وقت أن كان كاهنًا وأسقفًا شابًا، بدأ فرانسيس منذ عام 2013 وحتى نهاية حبريته في العودة إلى لاهوته "المولود معه". وظهر ذلك بوضوح في سلسلة المصالحات التي أجراها مع لاهوتيي التحرير. فقد دُعيَّ غوستافو غوتيريز، مؤسس الحركة، للاحتفال بالقداس مع فرنسيس وعميد مجمع العقيدة والإيمان، في إشارة غير متوقعة للمصالحة. كما تمت الاستعانة بليوناردو بوف كمستشار في إعداد الرسالة العامة لأوداتو سي عام 2015، التي ربط فيها فرنسيس النضال البيئي بعناصر من لاهوت التحرير: "الاستماع إلى صرخة الفقراء يعني أيضًا الاستماع إلى صرخة الأرض". ورفع العقوبات التي استمرت لعقود عن الكاهنين ميغيل ديسكوتو وإرنستو كاردينال، الداعمين للثورة الساندينية في نيكاراغوا.
وقد تجلى تعاطفه مع الاشتراكية في عديد من خطاباته. أدان "دكتاتورية السوق"، و"منطق الربح الذي يقتل"، ودعا إلى "اقتصاد يخدم الإنسان، لا العكس". وطالب بإدخال دخل أساسي عالمي، وفي الرسالة العامة Fratelli Tutti (جميع الإخوة) شدد على أن الأرض والموارد يجب أن يكون لها "وظيفة اجتماعية" للصالح العام، وهو من المبادئ الأساسية للإصلاح الزراعي الاشتراكي في أمريكا اللاتينية. دعم إيفو موراليس في بوليفيا وانتقد خافيير ميلي في وطنه الأرجنتين.
ورغم أنه تجنب التحليل الماركسي للمجتمع ورفض المقاومة المسلحة والدعوات إلى التنظيم السياسي، فإن فرنسيس جلب بعض مفاهيم لاهوت التحرير من الهامش إلى الفاتيكان. لكنه أعاد تشكيل طاقته الثورية في خطاب إصلاحي يقوم على النداء الأخلاقي أكثر منه إستراتيجية سياسية. وبهذا، قمع الصراع الطبقي كمحور للعدالة واستبدل به نداء عامًّا للرحمة والتضامن.
كما لاحظ ليوناردو بوف: "السؤال ليس ما إذا كنت تؤيد لاهوت التحرير، بل ما إذا كنت تؤيد تحرير المظلومين". فرنسيس تبنى الأول -الرمزية، السردية، وفكرة المصالحة- لكنه لم يتبنّ الثاني، أي العمل العملي لتحدي النظام القائم. وتبقى حبريته مزيجًا متناقضًا من النبي والدبلوماسي، تحتفظ فيه رؤية التحرير بنغمتها الإنجيلية لكنها تفقد حدّتها الثورية.
القوة ليست في روما
لا يمكن تقييم إرث البابا فرنسيس بشكل كامل دون الظلال التي لاحقته منذ أيام الديكتاتورية الأرجنتينية (1976–1983). فقد اتُّهم ككاهن شاب وقائد إقليمي للرهبنة اليسوعية بأنه عرض كاهنين للقمع من قبل المجلس العسكري بسبب سلبيته أو حتى تواطئه. رغم أن البعض، مثل الأب ياليكس، تراجعوا لاحقًا عن الاتهامات الأخطر، فإن الحقيقة حول دوره لا تزال غامضة. وما هو مؤكد هو أنه كقائد كنسي آنذاك لم يقف في وجه جرائم الدولة، وهو ما يلقي بظلال طويلة على دفاعه اللاحق عن الفقراء والمضطهدين. صمته في الماضي جعل كلماته اللاحقة أعلى صوتًا، لكنها أيضًا أكثر غموضًا.
تقع كامل حبريته في هذا التناقض: بين الصمت والشهادة، بين الرسالة الجذرية والاستمرارية المؤسسية. رغم أنه فتح أبوابًا لم تُفتح لعقود -من لاهوت التحرير، إلى حقوق مجتمع الميم والنساء، وحتى النقد العلني للإمبريالية- فعل ذلك دون المساس ببنية الكنيسة ذاتها. كانت إصلاحاته عميقة ومحدودة في آنٍ معًا، صاخبة في الشكل، حذرة في الجوهر.
وبسبب بقائه محاصرًا بين النبي والدبلوماسي، بين الأمل والتسوية، تكشف حبريته حدود التغيير الممكن من داخل المؤسسة الكنسية. فالتغييرات التي جلبها -رغم أهميتها وقوتها الرمزية- لم تأتِ من الفاتيكان نفسه، بل جاءت استجابة لضغوط من الأسفل: لصراخ شعب غزة، لصمود النساء اللاتي خدمن الكنيسة لعقود دون حق التصويت، ولإيمان مسيحيي مجتمع الميم الذين رفضوا التخلي عن الله لأن الكنيسة تخلت عنهم.
إن القوة الحقيقية للاهوت التحرير لم تكن يومًا في الرسائل البابوية، بل في أيدي جماعات القاعدة الكنسية، وفي اللاهوتيين المتمردين الذين يواصلون الوعظ رغم الحظر، وفي العمال الذين يقرؤون الكتاب المقدس لا ككتاب للطاعة، بل ككتاب للمقاومة، وينظمون صفوفهم ويضربون ويبنون البدائل. وإن كان فرنسيس قد أظهر أن البابا يمكن أن يتكلم ضد الإمبريالية، فإن ما تبقى هو أن يُظهر الناس أن ملكوت الله لن يأتي من فوق، بل سيُبنى من الأسفل: من وحل الفافيلا، من المناجم والحقول، من شوارع المدن المحتلة، من الأجساد التي ترفض الصمت.
بهذا المعنى، فإن موته لا يغلق فصلًا، بل يفتح سؤالًا: ليس ما الذي سيحدث للفاتيكان، بل ماذا سنفعل بالأمل الذي أشعله، ولو من دون قصد؟
1- https://www.counterfire.org/article/pope-francis-a-reformist-in-an-unreformed-church/
2- https://kontranapad.com/papa-francisko-1936-2025-reformista-u-nereformisanoj-crkvi/