دراسات
نجلاء عبد الجوادهنري كورييل: سيرة شيوعي يهودي مصري
2025.05.11
مصدر الصورة : ويكبيديا
هنري كورييل: سيرة شيوعي يهودي مصري
مرت منذ أسبوع الذكرى الـ47 على اغتيال هنري كورييل (أُغتيل في باريس في 4 مايو 1978)، أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ السياسي المصري والعربي خلال القرن العشرين. اليهودي المصري الذي ينتمي إلى أسرة برجوازية تعمل في السمسرة وقطاع البنوك، جمعت معظم ثروتها من المراباة، قرر أن يتحول إلى شيوعي مناضل مناهض للاستعمار، ليس فقط في مصر بل امتد نضاله إلى كثير من بلدان العالم، عربية وإفريقية وأوروبية. ولقد ترك كورييل إرثًا معقدًا ما زال محل نقاش حتى اليوم. في هذه المقالة نتتبع مسيرته منذ نشأته في أحضان البرجوازية اليهودية المصرية، مرورًا بتأسيسه لأهم التنظيمات الشيوعية في مصر، موقفه من القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية ونشأة إسرائيل وصولًا إلى منفاه الفرنسي حيث تحول إلى داعم للحركات التحررية قبل أن يلقى مصرعه اغتيالًا.
النشأة والتعليم: من البرجوازية اليهودية إلى الثورية الماركسية
وُلد هنري دانيال كورييل في 13 سبتمبر 1914 في القاهرة لعائلة يهودية ثرية تنحدر من أصول إيطالية. كانت عائلته تنتمي إلى النخبة الفرانكفونية في مصر، حيث كان والده دانييل كورييل مصرفيًّا كبيرًا وأحد أقطاب المجتمع اليهودي في القاهرة. عاشت العائلة في ڨيلا فاخرة في حي الزمالك تضم 17 غرفة بخلاف غرف الخدم، في بيئة تعج بالرفاهية والامتيازات التي كانت تتمتع بها الأقلية الأجنبية في مصر تحت نظام الامتيازات الأجنبية.
تلقى كورييل تعليمه في المدارس الفرنسية المرموقة في القاهرة، بدءًا من مدرسة العائلة المقدسة (الليسيه) اليسوعية في الفجالة. كان نظام التعليم هذا يعزز الانتماء إلى الثقافة الفرنسية أكثر من المصرية، وهو ما يفسر ضعف إتقان كورييل للغة العربية طوال حياته، حيث كان يتحدثها بلكنة أجنبية وبطلاقة محدودة. في هذه المرحلة المبكرة، تأثر كورييل بكتابات مثقفين فرنسيين مثل أندريه مالرو وبول نيزان وأندريه جيد، التي شكلت وعيه المبكر.
التحول الفكري الحاسم في حياة كورييل حدث أثناء سفره للعلاج في فرنسا عام 1937، حيث تعرف على الماركسية من خلال أخيه راؤول الذي كان على اتصال بالحزب الشيوعي الفرنسي. في هذا السياق، يقول المناضل الماركسي الراحل إبراهيم فتحي في كتابه "هنري كورييل ضد الشيوعية العربية" - إن يسارية كورييل قد نشأت على "أرضٍ أخرى غير أرض الصراع الطبقي والوطني في مصر والوطن العربي". وقد عبر كورييل عن تلك المرحلة من حياته لاحقًا بأن المدرسة اليسوعية "نمت لديه قيمًا أخلاقية عالية، لكن الحاجة لمفهوم شامل للعالم وجده في الماركسية". هذه الخلفية ستلعب دورًا محوريًّا في تشكيل رؤيته للقضية الفلسطينية لاحقًا.
شهدت مرحلة التكوين الفكري لكورييل تحولًا جذريًّا من حياة الترف البرجوازي إلى تبني الفكر الثوري. بدأ اهتمامه بالماركسية في أواخر الثلاثينيات، وتحديدًا في الفترة بين 1937-1938. لكن المفارقة تكمن في أن هذا التحول الفكري حدث بينما كان لا يزال يعمل في بنك والده صباحًا، وفي المساء كان يدير مكتبة "الميدان" نسبة إلى ميدان مصطفى كامل، التي أسسها له والده في عمارة كانت ملكًا له.
عند عودة أخيه راؤول إلى القاهرة أسس مجلة "دون كيشوت" في الفترة من 1939 إلى 1940 وهي مجلة شيوعية كانت تصدر أسبوعيًّا، اتسمت بتوجهات تجديدية، انضم هنري إلى مجلس تحريرها مع الكاتب السريالي جورج حنين. في عام 1942 خلال الحرب العالمية الثانية، وصل جيش روميل إلى الحدود المصرية الغربية. ما حثَّ عديدًا من اليهود المصريين على مغادرة مصر إلى فلسطين عبر قطارات خاصة وفَّرتها بريطانيا، فما كان من كورييل إلا أن اختار البقاء في القاهرة وتنظيم مقاومة للاحتلال الألماني المتوقع. تم اعتقاله وإيداعه في معتقل الزيتون، وهو سجن كان مخصصًا للأجانب، هناك أضرب كورييل عن الطعام بعد مشاركته في صيام رمضان مع المعتقلين المسلمين، ما يدل على محاولاته الاندماج في السياق المصري.
تأسيس الحركات الشيوعية في مصر والسودان
يُعتبر كورييل أحد أبرز مؤسسي الحركة الشيوعية في مصر، في عام 1943، أسس "الحركة المصرية للتحرر الوطني" (حمتو) التي تحولت في عام 1947 إلى "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" (حدتو). لعبت حدتو دورًا مهمًّا في المشهد السياسي المصري قبيل ثورة يوليو 1952، حيث شارك بعض أعضائها من الضباط مثل خالد محيي الدين وأحمد حمروش في الثورة.
كورييل لم يقف عند حدود مصر، بل ساهم في تأسيس الحركة الشقيقة في السودان المعروفة باسم "الحركة السودانية للتحرر الوطني" (حستو)، التي تطورت لاحقًا إلى الحزب الشيوعي السوداني. ضمت هذه الحركة أسماء لامعة في السياسة السودانية لاحقًا مثل عبدالخالق محجوب وأحمد سليمان.
لكن قيادة كورييل للحركة الشيوعية في مصر لم تكن خالية من الانتقادات. واجه اتهامات بأنه كان "يسيطر" على الحركة من خلال حلقة ضيقة من الشيوعيين اليهود المصريين، وأنه حاول "وضع اليد" على نضال الماركسيين المصريين الأصليين. كما أن خلفيته البرجوازية ويهوديته جعلته عرضة لانتقادات من القوميين المصريين الذين رأوا في الحركة الشيوعية محض أداة للمصالح الأجنبية.
الهجرة إلى فرنسا: من المنفى القسري إلى النشاط الدولي
في عام 1950، اضطر كورييل إلى مغادرة مصر إلى فرنسا بعد سلسلة من الاعتقالات التي طالت الشيوعيين، رغم أنه كان يحمل الجنسية المصرية التي حصل عليها في 1937 بعد تخليه عن الجنسية الإيطالية. في باريس، أسس كورييل مع مجموعة من الشيوعيين اليهود المصريين ما عُرف باسم "مجموعة روما"، التي حافظت على اتصال وثيق بالحركة الشيوعية في مصر واحتفظت بأكبر أرشيف للحركة الشيوعية المصرية، يوجد الآن في المعهد الدولي للتاريخ الاجتماعي في أمستردام.
في فرنسا، انخرط كورييل في دعم حركات التحرر العالمية، وأصبح شخصية محورية في شبكات التضامن مع الثورات المناهضة للاستعمار. خلال حرب الجزائر (1954-1962)، انضم إلى "شبكة جينسون" وهي مجموعة من المقاتلين الفرنسيين الشيوعيين بقيادة فرانسيس جينسون، كانوا يساعدون جبهة التحرير الوطني الجزائرية في عمليات فدائية في المناطق التي كان يسكنها الفرنسيون في الجزائر وذلك عن طريق توفير الأموال وبعض الأوراق المزورة التي تؤمِّن للمناصلين تنفيذ العمليات الفدائية. ونتيجة لذلك ألقي القبض على كورييل عام 1960 من قِبَل المخابرات الفرنسية وسجن لمدة 18 شهرًا بسبب هذه الأنشطة.
بعد خروجه من السجن، أسس كورييل منظمة "تضامن" (Solidarité) التي دعمت حركات التحرر في العالم الثالث، خاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، بما في ذلك المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا (ANC)، كما أسس "الحركة الفرنسية المضادة للاستعمار" (M.A.F)، التي موَّلتها الجزائر بعد استقلالها.
كورييل والقضية الفلسطينية: بين الماركسية والصراع العربي-الإسرائيلي
في وقتٍ كانت فيه المنطقة العربية تشهد ولادة واحدة من أعقد الصراعات في القرن العشرين: الصراع العربي-الإسرائيلي، تطور موقف كورييل من القضية الفلسطينية والحركة الصهيونية على مدار حياته السياسية الحافلة، منذ تأسيسه للحركة الشيوعية المصرية إلى دوره في "لقاءات باريس" بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
في الأربعينيات، كانت مواقف الحركات الشيوعية المصرية من الصهيونية متباينة، لكن حدتو تحت قيادة كورييل اتخذت موقفًا واضحًا بمعاداة الصهيونية في البداية، معتبرة إياها حركة استعمارية عنصرية.
لكن هذا الموقف لم يكن خاليًا من التناقضات. فمن ناحية، كان كورييل يهوديًّا ينتمي إلى أسرة ثرية مرتبطة بالغرب، ومن ناحية أخرى كان يقود حركة شيوعية تتبنى خطابًا مناهضًا للاستعمار. هذا التناقض ظهر جليًّا في تعامل حدتو مع قضية الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حيث رأى كورييل أن المسألة الفلسطينية صَرفٌ للأنظار عن الاستعمار الذي هو بريطاني فقط.
حدث التحول الأبرز في موقف كورييل مع قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، والذي أيدته موسكو. فبينما كانت حدتو واضحة في مناهضتها للحركة الصهيونية قبل القرار، تغير موقفها تمامًا بعد تأييد الاتحاد السوڨييتي للتقسيم. كما يوضح جيل بيرو في كتابه "هنري كورييل رجل من طراز فريد": "لم يكن هذا الخيار نتيجة سَبْق إدراك خاص بهنري كورييل، بل نتيجة الموقف الذي اتخذه الاتحاد السوڨييتي وليس من شك في أنه لو اختار الكرملين الموقف المعاكس لانحازت "حدتو" إلى هذا الموقف".
هذا التحول خلق انقسامًا حادًّا داخل الحركة الشيوعية المصرية، حيث رأى كثيرون أن كورييل ضحَّى بالمبادئ الأممية لصالح التبعية للخط السوڨييتي. ولكن كورييل يقول في هذا الشأن: "في 27 نوفمبر جاء قرار التقسيم، وأذكر أن تطورات الأحداث كانت سريعة ومتلاحقة ولست أعتقد أننا فهمنا قرار التقسيم أو مبرارته في بداية الأمر فهمًا كاملًا، لكن مجموع الحركة الثورية العالمية كان يسير في اتجاه تأييد هذا القرار، ترددنا في البداية، ثم قررنا تأييده."
يكمل كورييل: "قامت حرب 1948 وانهزم العرب، منذ الأسابيع السابقة للحرب بدأنا نشعر بأصبع الاستعمار الإنجليزي، فإنجلترا انسحبت بشكل غير منظم أو منتظم من فلسطين، ودون تنفيذ مسؤولياتها كدولة انتداب بتسليم المسؤوليات لسلطة ما، ولم تعترف بقرار التقسيم. وجاءت حرب 48 فإذا بنتيجتها الأولى هي المعتقلات والإرهاب لكل القوى الوطنية في الدول العربية، ليس فقط للشيوعيين الذين أيدوا قرار التقسيم وإنما لكل وطني أو عدو للاستعمار، وهنا بدأت تتضح أهداف الرجعية العربية من الحرب."
يضيف كورييل: "تخيل خريطة العالم والشرق الأوسط لو أن العرب قبلوا في ذلك الحين قرار التقسيم، لا شك أن الموقف كان سيتغير كثيرًا، ولا شك في أن إسرائيل كانت ستصبح أضعف وأقل تأثيرًا، وإذا عدنا إلى موقف الأعداء، فنرى أن الصهاينة قبلوا قرار التقسيم على مضض وعندما رفضه العرب ابتهجوا ووجدوا الفرصة السانحة للتخلص من هذا القرار، أننا قبلنا قرار التقسيم على أساس أنه الحل الوحيد المتاح وليس على أساس أنه أفضل الحلول".
وعن موقفه من الحركة الصهيونية يقول كورييل: "إنني أدين الصهيونية وأعتبرها جزءًا لا يتجزأ من معسكر الأعداء. كيهودي مصري عربي ركزت جهودي في عزل الصهيونية عن المجتمع اليهودي في مصر، وقاومت في نفس الوقت الدعاوى العنصرية التي حاولت صرف الكفاح، من كفاح سياسي ضد الاستعمار وضد الصهيونية كحركة استعمارية، إلى كفاح عنصري ضد اليهود، إن العنصرية التي كان الإخوان المسلمون دعامتها كانت خير معين للصهيونية لأنها كانت تدفع بالإنسان اليهودي العادي الى أحضان الصهيونية ومن هنا فإننا كما قاومنا الصهيونية كحركة استعمارية، قاومنا أيضًا دعاوى الإخوان المسلمين العنصرية باعتبارها خطرًا يؤدي إلى انتشار الفكر الصهيوني وسط اليهود المصريين والعرب".
حرب 1967 وتحولات الموقف
كانت هزيمة مصر والعرب في حرب 1967 لحظة فارقة في تطور فكر كورييل تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي. في أعقاب الحرب، بدأ يطرح فكرة أن الحل العسكري لم يعد ممكنًا، وأن على كل جانب الاعتراف بحقوق الجانب الآخر. هذا الموقف جعله عرضة لانتقادات من كلا الجانبين: من العرب الذين رأوا فيه تنازلًا عن الحقوق الفلسطينية، ومن اليهود الذين اعتبروه خائنًا لدولة إسرائيل. إلا أن هذا لم يؤثر في قناعاته التي اتضحت عندما اقترح كورييل عام 1976، إجراء اتصالات بين ممثلين فلسطينيين وإسرائيليين، ما أدى إلى سلسلة من اللقاءات السرية عُرفت باسم "لقاءات باريس". شارك في هذه اللقاءات شخصيات، مثل: عصام السرطاوي (مستشار ياسر عرفات) ويوري أفنيري (الناشط الإسرائيلي من أجل السلام). هذه المبادرة كانت ثمرة لتطور فكر كورييل الذي رأى أن "الاعتراف المتبادل هو الطريق الوحيد للحل".
لكن هذه الخطوة زادت من عزلة كورييل السياسية، حيث اتهمه البعض بالعمالة للإسرائيليين، بينما رأى فيه آخرون خائنًا لليهود. الصحفي جورج سوفير وصفه في مجلة "Le Point" الفرنسية بأنه "زعيم منظمة تدعم الإرهاب" مرتبطة بالكي جي بي جهاز المخابرات السوڨييتي.
الإرث الفكري والسياسي لهنري كورييل
ترك هنري كورييل إرثًا فكريًّا وسياسيًّا ثريًّا ومتنوعًا، رغم الجدل الذي أحاط به. يمكن تلخيص أهم مكونات هذا الإرث في النقاط التالية:
- الماركسية المصرية: حيث طور كورييل رؤية خاصة للماركسية في السياق المصري، حاول من خلالها التوفيق بين المادية التاريخية والواقع الاجتماعي المصري. أصرَّ على أن الطبقة العاملة المصرية يجب أن تكون في قلب المشروع الثوري، رغم أن الحركة الشيوعية في مصر كانت تضم عددًا كبيرًا من المثقفين البرجوازيين.
- القومية والطبقة: قدم كورييل تحليلًا خاصًّا للعلاقة بين الصراع الطبقي والقومية في مصر، معتبرًا أن النضال ضد الاستعمار يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع النضال من أجل العدالة الاجتماعية. هذا الموقف جعله في خلاف مع بعض القوميين الذين رأوا في التركيز في الصراع الطبقي تشتيتًا للنضال الوطني.
- اليهود واليسار العربي: شكلت تجربة كورييل كيهودي في الحركة الشيوعية المصرية نموذجًا فريدًا للتفاعل بين الهوية اليهودية والانتماء إلى اليسار العربي. رغم أن عديدًا من اليهود المصريين انخرطوا في الحركة الشيوعية، فإن قيادة كورييل للحركة جعلت منه حالة استثنائية.
الجدل حول هويته وولاءاته
ظلت هوية كورييل وولاءاته موضع جدل كبير، فقد واجه كورييل اتهامات بأنه كان يقدم ولاءه لليهودية على حساب المبادئ الشيوعية، خاصة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي. لكن مؤيديه أشاروا إلى أنه ظل متمسكًا بمواقفه المبدئية حتى عندما تعارضت مع مصالح اليهود. وقد انتقد البعض كورييل لكونه "منفصلًا" عن الواقع المصري بسبب خلفيته الفرانكفونية وعدم إتقانه الجيد للعربية. لكن آخرين رأوا في نشاطه الدولي امتدادًا طبيعيًّا لالتزامه بالقضايا التحررية. كما ظلت الشكوك حول علاقات كورييل بأجهزة الاستخبارات (خاصة الكي جي بي) مصدرًا للتكهنات. وبينما نفى مؤيدوه هذه الاتهامات، أشار منتقدوه إلى أن بعض أنشطته كانت تتم بتنسيق مع القوى الكبرى.
الإرث المتناقض: ثوري أم عميل؟
في 4 مايو 1978، عُثر على هنري كورييل مضرجًا بدمائه في مصعد منزله في الدائرة الخامسة بباريس. تبنت جماعة يمينية متطرفة مسؤولية الاغتيال، لكن القضية ظلت غامضة مع وجود شبهات حول عدة جهات تعكس تعقيد مواقف كورييل وتقاطعه مع عديد من الأجندات المتناقضة. قبل اغتياله بفترة قصيرة، كتب كورييل في أوراقه الشخصية ملاحظات تشير إلى تطور جديد في تفكيره، حيث بدأ يطرح فكرة "الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة" كحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وهو الموقف الذي كان تبناه التيار الشيوعي العربي الرافض للصهيونية.
بعد أكثر من أربعة عقود على اغتياله، لا يزال هنري كورييل شخصية غامضة مثيرة للجدل. بين من يراه بطلًا ثوريًّا ضحَّى بكل شيء من أجل مبادئه، ومن يتهمه بأنه كان أداة في أيدي القوى الكبرى، وتظل الحقيقة عن هذا الرجل بعيدة المنال. ما لا شك فيه أن كورييل كان شخصية استثنائية، جمعت بين تناقضات عصرها: يهودي في حركة شيوعية عربية، مصري فرانكفوني، ثوري من خلفية برجوازية، مناهض للاستعمار يعيش في قلب أوروبا. هذه التناقضات نفسها هي ما جعلت منه شخصية تستحق الدراسة والتأمل.
ترك هنري كورييل إرثًا سياسيًّا معقدًا يثير الجدل حتى اليوم. من ناحية، يُعتبر رمزًا للنضال من أجل العدالة الاجتماعية وضد الاستعمار، كرَّس حياته للقضايا التحررية في العالم الثالث. ومن ناحية أخرى، ظلت هويته المزدوجة كيهودي مصري وعلاقاته الدولية مصدرًا للشكوك حول ولاءاته الحقيقية.
ربما تكمن أهمية كورييل اليوم في كونه نموذجًا للتعقيدات التي واجهها المثقفون في العالم الثالث خلال القرن العشرين، حيث كانت الهويات المتعددة والولاءات المتضاربة جزءًا من تجاربهم. قصة حياته تذكرنا بأن التاريخ نادرًا ما يكون أبيض أو أسود، بل هو مليء بالظلال الرمادية التي تتحدى التصنيفات البسيطة.
في النهاية، يبقى هنري كورييل لغزًا سياسيًّا وفكريًّا، شاهدًا على عصر مضطرب من تاريخ مصر والعالم العربي، حيث كانت الأفكار الكبرى تصطدم بالواقع المعقد، وحيث كان الأفراد يحاولون -رغم كل التناقضات- أن يجدوا معنى وهدفًا في خضم العواصف التاريخية التي شكَّلت عالمنا المعاصر. كثير من الغموض لا يزال يحيط بحياة كورييل وموته، ما جعله شخصية "من طراز فريد" كما وصفه الكاتب جيل بيرو في كتابه الذي يحمل هذا العنوان. سواء كان مثقفًا ثوريًّا مخلصًا أو لاعبًا في شبكات الاستخبارات الدولية، فإن قصة هنري كورييل تظل شاهدة على تعقيدات القرن العشرين بكل تناقضاته الأيديولوجية والهوياتية.