صناع الثقافة

دار المرايا

عمر الزهيري: هناك 300 طريقة لصنع فيلم مستقل.. وليس علينا أن نصدق "الخواجة" دائمًا..

2021.08.01

عمر الزهيري: هناك 300 طريقة لصنع فيلم مستقل.. وليس علينا أن نصدق "الخواجة" دائمًا..


كنت أتحدث إلى صديق سينمائي بعد أيام قليلة من حصول فيلم "ريش" على جوائز لم يسبقه إليها فيلم مصري آخر في مهرجان كان الفرنسي المرموق - الجائزة الكبرى لأسبوع النقاد، وجائزة الفيبرسيي (الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين) - حين ضبطت نفسي أكتب له "مبروك فيلم عمر"، قال لي صديقي الذي لم يكن جزءًا من تجربة إنتاج الفيلم "مع إني ما اشتغلتش في الفيلم ده لكن الناس بتبارك لي. اكتشفت إن الناس بتبارك لبعض على فيلم مصري حقق حاجة.. أنا متفائل". انتهت محادثتي مع الصديق، لكن ظلت الفكرة تشغلني. ذلك الشعور بأن نجاح فيلم مصري ينتمي للسينما المستقلة هو انتصار آخر لمسيرة شاقة يخوضها أجيال من السينمائيين بصدر عار ومن دون سند، تستحق التأمل. 

عندما التقيت عمر الزهيري مخرج ومؤلف الفيلم، كان فضولي للتعرف على الرحلة التي خاضها لصناعة "ريش" يغالب رغبتي في مشاركته الاحتفاء والاحتفال. ففي بيئة سينمائية لا زالت تعتمد على التجربة الفردية المدفوعة بالأمل دون أن تخلق آليات راسخة قابلة للتطوير بقدر ما تنتمي لما يشبه المحكوم بصخرة سيزيف، تصبح الذاكرة الشفاهية لصناع الأفلام جزءًا أصيل من الخبرة الجمعية. 

فيلم ريش واحد من تلك الأفلام التي لا تكفيها مشاهدة واحدة، ربما لمحاولة اكتشاف الهدايا السخية المخبأة في ثنايا كل لقطة، أو لمعاودة الاستمتاع بتجربة شاعرية ثرية بعناصر المتعة السينمائية الصافية التي نضجت على مهل في ست سنوات. "أنا عنيد جدًا" يصف المخرج ذو الثلاثة وثلاثين عامًا علاقته بالطريقة التي أنجز بها فيلمه، لكنه يقول إنه محظوظ أيضًا بفريق إنتاج كان جريئًا كفاية لخوض مخاطرات حقيقية في مواجهة كل أنواع الضغوط التي تحيط بمخرج مصري شاب في فيلمه الطويل الأول وسط عالم الإنتاج الدولي المليء بمحاولات القولبة والتأطير تحت لافتة دعم السينما.

 كيف تنتقي فريق إنتاجك؟

 يحدثني عمر عن لقاء جمعه بمسؤولين في مهرجان روتردام فبراير الماضي لمناقشة المخرجين الذين حصلت أفلامهم على دعم المهرجان عن انطباعهم حول آليات الدعم وكيفية تطويرها. "قلت لهم أنا أعرف مخرجين موهوبين جدًا وأفلامهم رهيبة لكنهم لا يعرفون كيف يعبرون عن أفلامهم أمام لجان تحكيم دعم الأفلام، ما عندهمش مهارات تسويق ترضي شروطكم المعقدة. ومن ثَم فإن آليات الدعم تظلم صناع الأفلام ولا تخدم السينما". لا يستثني عمر نفسه من التعرض لتلك المقاييس التي يصفها بـ"الظالمة" في إطار علاقتها برؤية صناع الأفلام، ولعل تجربة عمر مثال جيد من زاوية نظر أن فيلمه ولد في بيئة الإنتاج الأوروبي قبل أن يشارك منتجًا مصريًا جانبًا من إنتاج الفيلم. فبعد أن حقق فيلمه القصير الثاني ٢٠١٤ "ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو٣٥٧" قفزة استثنائية وغير مسبوقة لمخرج مصري بمشاركته في مسابقة أفلام الطلبة Cinefondation بمهرجان كان، انفتحت أمام المخرج الشاب فرص واسعة ليعمل على مشروع فيلمه الطويل الأول بمساندة شركات إنتاج أوروبية مرموقة من خلال برنامج للإقامة مهمته الدفع بالمخرجين الجدد. وهناك التقى عمر الزهيري بالمنتجة جولييت ليبوتري المعروفة بإنتاج أفلام مهمة من بينها حصان تورينو لبيلا تار، كما أنها شريكة في تأسيس شركة الإنتاج الفرنسية المرموقة Still Moving المتخصصة في إنتاج "أفلام فنية غير تقليدية" لمخرجين ناشئين أو راسخين في المشهد السينمائي. يشعر عمر بامتنان خاص تجاه جولييت لأنها آمنت به من البداية وعلى طول الخط "قابلتها قبل ست سنوات، كنت صغير جدًا وكان عندي سيناريو زي الزفت عن واحد بيتحول لفرخة في عيد ميلاد ابنه، وما بيرجعش.. وبينما كان الجميع يتوقعون أن ينتج عن هذه الفكرة فيلم كوميدي، صدقت جولييت رؤيته للحكاية وطريقة التنفيذ، ثم خاضت معه كمًا لا نهائيًا من المخاطرات مليء بضغوط جهات الإنتاج.. اعترضوا على أنه فيلم قاتم وطالبوا بتغييرات تعجب المشاهد الأوروبي، لكنها ساندت وجهة نظري حتى النهاية في مواجهة متطلبات النظرة الأوروبية الاستشراقية لنا ولأفلامنا".

لاحقًا ستخوض جولييت مع فريق الإنتاج المزيد من المخاطرات لصالح رؤية المخرج. ضم فريق إنتاج الفيلم فيما بعد شركة Kepler الهولندية منتجة "جراد البحر" ٢٠١٥، و"مقتل الغزال المقدس" ٢٠١٧ ليورجوس لانثيموس، بالإضافة إلى شركة Heretic اليونانية، قبل أن ينضم لفريق الإنتاج فيلم كلينك لمؤسسها السيناريست والمنتج محمد حفظي.

"كل هؤلاء المنتجين الكبار جدًا في أول فيلم لمخرج مصري شاب" يقول عمر وقد استعادت ملامحه دهشة الموقف الذي كان غريبًا عليه آنذاك. لكنه تعامل مع الأمر بخبرة أكسبه إياها تمرسه في سوق الإنتاج السينمائي المصري منذ كان طالبًا في معهد السينما ٢٠٠٦. كان عمر يسعى لإيجاد مساحة تسمح له إنجاز فيلمه المكلف بالطريقة التي يريدها دون أن يتعرض لضغوط تجبره على التنازل عن رؤيته "بعد مشاركة فيلمي القصير في (كان) ٢٠١٤ انهالت عروض إنتاجية أوروبية مغرية لإنتاج فيلم طويل لم أجدها مناسبة لمشروعي.. لكن بالتعاون مع جولييت تمكن من اختيار جهات الإنتاج بتأني وحرص يناسب هدفه، وحسب تعبيره "منتجين فنانين وغير استشراقيين".

في كل الأحوال كانت فكرة تبني منتجين غربيين مهمة إنتاج الفيلم أكثر واقعية من غيرها، فالفيلم عالي التكلفة بكل المقاييس، فضلاً عن أنه ينتمي للسينما الفنية التي لا تضع الربح ضمن أولوياتها. معظم مشاهد الفيلم تجري في مواقع مبنية بالكامل، كما تطلب البحث عن ممثلين مغمورين بمواصفات خاصة عبر محافظات القاهرة وقتًا وجهدًا وميزانية، فضلاً عن المتطلبات الاحترافية للصوت والصورة عالية الجودة التي تميز بها الفيلم، وحقوق الملكية لعشرات المقطوعات الموسيقية والأغنيات التي استعاض بها المخرج عن الموسيقى التصويرية، وهو ما يجعل تحمل منتج مصري لمهمة الإنتاج أمر غير منطقي "كنت فاهم كويس إني لو لجأت لمنتج مصري من البداية وقلت له لو سمحت هات لي الممثلين دول عشان نعمل الفيلم الغالي ده من بابه ويللا نفشل سوا، هكون مجنون"، لكن النسبة اللي شاركت بها "فيلم كلينك" كمنتج مصري في مرحلة من مراحل الفيلم كانت مرضية للجميع. وفي النهاية يقول عمر "نفذ الفيلم بطريقة ممتازة.. كان عندي كل الصلاحيات. لم تكن هناك صراعات غير اللي جوة دماغي عن اختياراتي الفنية.. قضينا سنين نمول الفيلم لكنها تجربة أي مخرج عاوز يعمل فيلمه بالطريقة دي".

ماذا تفعل بنصيحة الخواجة؟

طريق الزهيري للوصول لهذه القناعة بطريقة تنفيذ فيلمه، مر بالكثير من المؤرقات التي تبدو في ظاهرها جزءًا من نظام عالمي لدعم السينمائيين وتسهيل إنتاج أفلامهم لكنها تمثل على جانب آخر عبئًا من الصعب مقاومته على كاهل الصناع.

أسأله عن أصعب المراحل في إنتاج فيلم مكلف هو الأول لمخرجه، لا يعتمد القوالب الجاهزة في أسلوبه، فيقول بلا تردد "مرحلة الشكوك في اللي أنا عاوز أعمله". وبتعبير آخر هي فترة المرور عبر ما يعرف بمعامل تطوير السيناريو script development labs وهي ورش عمل يتعرض صانع الفيلم خلالها لعملية طويلة ومعقدة من المناقشات والمراجعات غرضها مساعدته في الوصول إلى معالجة محكمة للفيلم بإشراف خبراء دوليين في صناعة الأفلام.

كان لدى عمر من البداية فكرة أساسية عن حكاية الفيلم وتصور عام لأسلوب تنفيذه، وفي حين تطلع لتطوير أفكاره، فقد كان متيقنًا مما لا يريده في فيلمه. غير أن هذا اليقين اهتز تدريجيًا خلال ورش التطوير. تطلب الأمر استدعاء كاتب محترف للمشاركة في عملية كتابة السيناريو بشكل احترافي ومنضبط وفق رؤية الخبراء وقوالب معامل التطوير الجاهزة للأفلام. واحد من المزايا الجوهرية للمشاركة في معامل التطوير أنها تساعد في التعريف بالمشروع في الدوائر الإنتاجية الدولية "حصلنا على بعض المنح الإنتاجية بالفعل بفضل معامل التطوير" يقول عمر " لكنها سلاح ذو حدين. الحد الآخر هو أن تدخلات الخبراء أدت إلى الخروج بسيناريو لا يشبه فيلمي. ناس كتير أوي بتتدخل في السيناريو بمسمى التطوير، لكن الحقيقة إنهم بيدجنوه ويخلوه مظبوط على مقاس محدد مع إن حلاوته في اختلافه". وبعد عامين استغرقهما كتابة السيناريو المطور، اضطر عمر إلى خوض مخاطرة إعادة كتابة فيلمه من جديد وهي العملية التي استغرقت عامين آخرين لتخرج للنور نسخة السيناريو التي استخدمت في تصوير الفيلم. يصر عمر على أنه لن يكرر تجربة المشاركة في معامل تطوير السيناريو في المستقبل لأنها لا تناسب سينماه "هما عملوا حاجة بروفيشنال جدًا، بس ده مش الشيء المميز عندي، أنا يميزني التعبير عن إحساسي" والدرس المستفاد، حسب عمر، هو أن صانع الفيلم "مش لازم يصدق النصائح لمجرد إنها جاية من خواجة مهم.. صدق اللي أنت حاسة واعمله بس المهم اتحمل مسؤوليته وتبعاته". جزء من هذه التبعات القلق والمخاوف التي ساورت فريق الإنتاج ومحاولات المخرج إقناعهم بالمخاطرة، "قلقوا شوية في الأول لكنهم ساندوا وجهة نظري في النهاية لأنهم شعروا مثلي بأن الفيلم كان يبتعد عن مساره".

قبل "ريش" أخرج عمر خريج المعهد العالي للسينما فيلمين قصيرين في العام ٢٠١١، والعام ٢٠١٤، لكن جزءًا من قدرته على التمسك بخياراته الفنية اكتسبه من خلال العمل بجد طوال ١٥ عامًا مع مخرجين بارزين في السينما والإعلانات "ما أقدرش أقول إني محظوظ لأني بشتغل طول الوقت زي المجنون" يقول عمر الذي التحق بمعهد السينما عام ٢٠٠٦، وكانت السينما في ذلك الوقت حسب تعبيره لا زالت تعتمد على الأنالوج، وعلى درجة عالية من الالتزام التقني. بعد عام واحد من التحاقه بالمعهد كان أول موقع تصوير يشارك به كمتدرب في فيلم "هي فوضى" ٢٠٠٧ إخراج يوسف شاهين، وخالد يوسف "لم يخرج شاهين الفيلم كله لكنها كانت فرصة عظيمة إني أشوف صناعة فيلم بإنتاج ضخم". لاحقًا عمل عمر كمساعد لمخرجين على وزن شريف عرفة وساندرا نشأت وكاملة أبو ذكري، لكن تجربته السينمائية الأهم بالنسبة له هي عمله كمساعد مخرج في أفلام يسري نصر الله، وهي التجربة التي استمرت ٧ سنوات بداية من العام ٢٠٠٧. في الوقت نفسه عمل الزهيري مع مخرجين ينتمون للسينما المستقلة ومن بينهم أحمد عبد الله بداية من تجربة فيلم "فرش وغطا" (٢٠١٣) التي عمل فيها مساعد أول، وفيلم "آخر أيام المدينة" للمخرج تامر السعيد. ثم عمل منتجًا ومساعد مخرج في مجال الإعلانات لسنوات طويلة مع نجوم الصناعة بداية من المخرج الراحل أحمد المهدي وصولاً إلى المخرج علي علي. وهي الخبرة العملية التي مكنته من هضم تقنيات صناعة السينما بشكل احترافي، والاطلاع على أساليب إنتاجية متنوعة "فهمت كويس الفوارق ودور المخرج في كل مجال. وفهمت كويس نوع السينما اللي أحب أعمله".

 سؤال الرجل الأبيض عن القضية!

ينتمي عمر بالتأكيد للمشهد السينمائي المستقل حسب ما تشير إليه خياراته الفنية في فيلمه الأخير، وأفلامه القصيرة السابقة. مع ذلك يغرد الفيلم خارج سرب السمات الغالبة على أفلام السينما المستقلة، فهو لا يعتمد الإيقاع البطيء المعتاد، كما أن الارتجال على لسان أبطاله الذين يقف معظمهم أمام الكاميرا للمرة الأولى يبدو أقل تكلفًا وأقرب إلى الواقع دون بروفات أو حوار مكتوب بشكل مسبق. تدور أحداث الفيلم في أجواء أشبه بالغرائبية التي لا يمكنك من خلالها تمييز الزمان والمكان، مع ذلك تظهر في كل لقطة علامات منثورة بعناية لتثير بداخل المشاهد علاقة مبهمة بمكان أو زمان ما دون التأكد من أنه يعرفه بالفعل. وهو جزء من لعبة ممتعة من الاكتشاف المتواصل التي يدعو الفيلم مشاهده إليها دون أن يضمن الوصول، لا لأن المتعة في الرحلة ولكن لأن الفيلم مبني حسب عمر على طريقة الأبواب المفتوحة، يأخذك واحد إلى الآخر لتبني قصتك الخاصة على مهل لكنها في النهاية قصتك أنت من زاوية نظرك. وبينما ينسج المشاهد حكايته، لن يعدم وسيلة في العثور على قضية تعنيه أو قضايا تأخذه إليها العلامات في صمت سوريالي. فالفيلم لا يكتفي بالإشارات والرموز بل يعتمد نماذج كاريكاتورية مضخمة ربما لإرشاد أو لتضليل المشاهد نحو قضية ما. فهو لا يكتفي مثلاً بالإشارة إلى عمل الأب في مصنع وإنما يزرع مداخن المصنع داخل الشقة ويغمر هوائها بدخانه في كل المشاهد الداخلية في البيت. وعندما تذهب الأم للعمل كخادمة لدى الأغنياء أنت لا ترى بيتًا أو حتى فيلا في كمبوند، بل قصرًا منيفًا مليئًا بالخدم والحشم الملونين بمريول الخدمة الكاريكاتوري الأنيق، بينما ترى في علاقتهم وعلاقة أصحاب القصر بالقادمة الجديدة نموذج مباشر وفج للطبقية. وأنت لا تدرك أن الزوجة والأم -التي سيقدر لها أن تفقد زوجها بعد قليل في صورة دجاجة- مقهورة ومكبوتة وغير قادرة على التعبير من خلال جملة أو كلمة أو حتى إشارة جسدية بل من خلال الصمت المطبق والمريب والمثير للتوتر، صمت كاريكاتوري.

يعتمد عمر في فيلمه السوريالي على حضور كاريكاتوري للمعاني والإشارات وعلامات الزمان والمكان التي تغري المشاهد على الانتقاء والمزج بحرية وترضي نزوعه نحو التأويل والتفسير لكن الأهم أنها تورطه في علاقة عاطفية مباشرة مع ما يشاهده. يصر عمر على أن فيلمه لا يتحدث قضية وإنما عن بشر وعلاقاتهم بما يدور بداخلهم وبعالمهم الخارجي. هو يقول إنه من الصعب على المخرج أن يختزل فيلمه في موضوع أو قضية "دي دايمًا كانت خناقتي مع الأوروبيين. الأوروبي دايمًا يسألك: فيلمك بيحكي أنهي keywords؟ إجابتي إن الفيلم بيحكي عن بني آدمين ماكنتش دايمًا مرضية. إنما أنا فيلمي فعلاً بيحكي عن بني آدمين والبني آدمين مليانين مشاعر وتفاعلات وطبقات وأبعاد وقضايا. يبقى فيلمي بيحكي عن ٣٠٠ قضية مش القضية الواحدة اللي عاوزين يحصروا فيها الفيلم". لكن ما يعني عمر في الحقيقة ليس العثور على القضايا المختبئة خلف عوالم الشخصيًّات، وإنما عنصر المفاجئة والتشويق الذي يساوي السينما بالنسبة له "أنا في الفيلم ده مهتم بالسينما، بالحاجات الممتعة أوي في السينما بإن المشاهد وهو بيتفرج يتفاجئ. في كل مشهد بحاول أعمل مفاجأة بالصوت أو الصورة أو المزيكا. أنا بحب أقتل التوقعات وده شيء مسلي لصانع الفيلم والمشاهد. ده السينما ودي الطريقة اللي اكتشفت بها علاقتي بالسينما خلال صنع الفيلم".

ما بين "الحريف" و"فرش وغطا"

لكن جزءًا من الطريقة التي نفذ عمر فيلمه بها مرتبط أيضًا بخياراته النابعة من ارتباطه بتراث السينما المصرية ولاسيما المستقلة. حاول أن يتمثل منها ما يحب وأن يقدم ما يشبه ردة الفعل على ما لا يحب. بشكل عام يحب عمر في كل لقاءاته الإعلامية الإشارة إلى علاقته المتجذرة بتراث السينما المصرية، وجزء من الإصرار على إبراز هذا الجانب الواضح في فيلمه الأخير مرتبط بعلاقته بمنظومة الدعم الأوروبي "بصراحة في التعامل مع الأوروبيين اللي بيبصوا لينا والسينما بتاعتنا على طريقة المواطن الأبيض مش عاوزهم يحسوا إني لقيط. لا أنا جاي من سينما كبيرة. لكن أنت اللي ما تعرفش السينما بتاعتنا فيها إيه، مع إنك لو شفت جنة الشياطين لأسامة فوزي هتفهم إننا جامدين وإن الفيلم ده كان ممكن يغير العالم. أنا دايما تجيلي أسئلة مستفزة معناها إننا ناس أقل بس احنا مش أقل.. وحتى على المستوى التقني الفوارق بيننا وبينهم مش كبيرة، لكن احنا بنتكسف".

 مع ذلك يعتبر عمر أن نموذجه الأهم في السينما المصرية مجموعة المخرجين الذين شكلوا ما يعرف بالواقعية الجديدة؛ محمد خان، خيري بشارة، وعاطف الطيب لأنهم برأيه نجحوا في تحقيق معادلة السينما المستقلة بالكامل، وهي الاستقلال الفكري وتقديم سينما بجودة عالية غير معنية بإثبات أي شيء لأي سينما أخرى فضلاً عن حفاظهم على التواصل والاتصال فيما بينهم وكذلك مع تراث السينما المصرية ومع المجتمع "كانوا بيستخدمو نجوم لأن ده العرف وقتها لكن استقلالهم الحقيقي كان في نوع الفكر. فيلم الحريف لمحمد خان مثلاً شئنا أم أبينا هو فيلم مستقل مع أنه فيلم معمول كويس بمعايير السينما وفيه عادل إمام لكنه ينتمي فكريًّا لسينما مختلفة عن السائد، مش لأن فيه مشكلات تقنية ولا لأنه معمول وحش ولا لأن دمه تقيل أو إيقاعه بطيء". 

يدرك عمر أن الظروف الإنتاجية للسينما المستقلة في مصر صعبة، لكن الأصعب حسب تعبيره هو الظروف الفكرية التي أعاقت حركة هذه السينما إلى الأمام في الكثير من مراحلها. فاعتماد خطاب المظلومية والمؤامرة التي تحاك ضد السينما المستقلة حسب تعبيره، والانشغال الدائم بالعلامة التجارية "إحنا مستقلين إذن إحنا مختلفين" أدى لفترة طويلة إلى إنتاج أفلام بلا هوية "لا هي رايحة للأمام ولا راجعة للخلف" لكنها كانت تحترم نقديًا في إطار كونها تجارب مختلفة بينما لم يتقبلها الجمهور لأسباب كثيرة ليس من بينها المؤامرة على السينما المستقلة، بل في عدم جرأة هذه السينما في تقديم شيء مختلف، بل الاختباء خلف ما اعتاده الجمهور كمحاولة خجولة لتمرير السينما المستقلة مثلاً من خلال الاعتماد على ممثلين مشاهير. ويشير عمر إلى تجربة عمله كمساعد مخرج أول في فيلم "فرش وغطا" للمخرج أحمد عبد الله "مشكلة الجمهور مع الفيلم هي ظهور آسر ياسين بطريقة عكس اللي هما متعودين عليها. كنت أسأل نفسي لو ماكنش في آسر ولو كان في ممثل غير مشهور مش كان ربما يفرق؟ مش باقول ان المشكلة في آسر وإنما في طريقة التفكير".

ربما لهذا السبب اختار عمر لفيلمه مجموعة من الوجوه التي لم تظهر على الشاشة من قبل للعب كل الأدوار بما فيها الرئيسية، ثم إنه اعتمد أسلوبًا غير قائم على تدريب الممثل أو البروفات أو الحوار المكتوب سلفًا وإنما على ضبط بيئة المشهد بشكل دقيق ومفصل ثم دعوة الممثلين للتفاعل الحر دون تدخل ودون إعادة. وهو الأسلوب الذي اتبعته زميلته المخرجة أيتن أمين في فيلمها الأخير "سعاد" الذي يصفه بأفضل نتائج تجربة السينما المستقلة "سعاد يحكى قصة بممثلين مناسبين في مكان مناسب للقصة. مكنش ينفع يتعمل بممثلين مشهورين ولا كان ينفع يتصور في القاهرة فاتصور في مكانه الطبيعي في الزقازيق بناس من هناك، والنتيجة فيلم مبهر. لازم السينما المستقلة تعمل ده. أن يكون عندنا شيء مختلف فعلاً نقوله للجمهور. هنقول دا فيلم مفهوش ممثلين أنتو تعرفوهم ولا مكان أنتو عارفينه لكن فيه حكاية حلوة ما بتشوفوهاش في السينما التانية اتفضلوا". ويستدل عمر أيضًا بتجربة سامح علاء في فيلم ١٦ الحائز على السعفة الذهبية للفيلم القصير بمهرجان كان ٢٠٢٠، فالمستوى التقني المرتفع في الفيلم يواجه المفهوم السائد عن أن السينما المستقلة هي السينما الرخيصة، الفقيرة في الشكل والتقنيات. وهو الأمر نفسه بالنسبة لفيلم ريش. فمن حق المشاهد حسب عمر أن يستمتع بجودة الصوت والصورة لأن الاختلاف الحقيقي هو في فكرة الفيلم وفي أسلوب تعامله مع العالم. "السينما المستقلة المصرية حاليًا مش فقيرة ولا ضعيفة. سينما مفتوحة على العالم وعلى فرص الإنتاج المشترك وصناديق الدعم، وصناع أفلام أكثر قدرة في التعبير عن أنفسهم والدفاع عن رؤيتهم وتقنيات صناعة تتطور كل يوم لتقديم جودة عالية بسعر رخيص.. لكن مع وجود كل هذه العوامل يصبح العامل الأهم هو وجود هوية فكرية لدى صناع السينما تعتمد على فكرة أننا نقدم سينما أخرى لا تتعارض مع السينما التجارية لكنها تقول أشياء مختلفة بأساليب مختلفة. لماذا يقبل المشاهد العربي على الفيلم الأجنبي؟ يتساءل عمر، لأنه يرى فيه شيء مختلف عن السينما المحدودة المتاحة أمامه. فالفيلم العربي إما كوميدي أو رومانسي أو أكشن بينما يقدم له الفيلم الأجنبي شيئَا مختلفًا يجذبه لمتابعته. " أنا بقول للجمهور في فيلم مستقل من بلدك بيقدم لك أفكار مختلفة وسينما مختلفة. ربما ده يكون مدخل لعلاقة معاه وده محتاج وقت كبير لأن لازم احنا كصناع أفلام نبذل مجهود عشان نفهم إحنا بنعمل الأفلام دي ليه؟ أنت بتعبر عن نفسك عن جيلك عن افكارك بالسينما بتاعتك والسينما دي معمولة عشان الزمن. مش علشان تثبت شيء لحد أو تدخل في منافسة وهمية مع سينما أخرى".

300 طريقة لعمل فيلم

 أما الحديث عن غياب دعم الدولة كواحد من العقبات أمام السينما المستقلة بالنسبة لعمر، فهو أمر غير مجدي رغم الاعتراف به "لو قعدنا نعيط جنب المشكلة دي مش هنوصل لحل لأنها بالنسبة لي مشكلات وجودية. في الآخر اللي عاوز يعمل فيلم بيعمله. ومفيش فيلم في الدنيا سهل ولا فيلم هيبقى سهل حتى في وجود دعم الدولة. أنا بتعامل مع الأوروبيين ومع ذلك طلع عنينا في جمع فلوس الفيلم لمدة ٦ سنين، رغم أنهم في دول بتدعم السينما" مع ذلك يقول عمر أن هناك ٣٠٠ طريقة لعمل فيلم "لما أنا أعمل فيلم وينجح وأيتن أمين تعمل فيلم وينجح وسامح علاء وقبلنا أبو بكر شوقي وغيرهم وغيرهم مش ده دعم لأي مخرج مصري بعد كده؟ أي إنسان عنده فيلم وكتب الفيلم وعمل ملف وقدم على دعم للفيلم هيعرف يجيب دعم لكن الموضوع عمره ما هيبقى سهل لأن السينما شغلانة صعبة وشغلانة غالية". لكن الأهم من دعم الأفلام حسب عمر أن يكتشف صناع الأفلام هويتهم وأسلوبهم وخصوصيتهم من خلال صنع الأفلام "كل واحد فينا عاوز يعمل من أول فيلم أحسن فيلم ويروح مهرجان كان ويكسب أكبر جائزة.. كلنا عندنا الطموح دا وهو طموح صح. بس لو قعدنا نفكر بالطريقة دي مش هنعمل حاجة.. لأن في ناس بتكسر الدنيا بأفلام بالموبايل رغم إن بلادها بتدعم السينما".

ورغم جائزتين مرموقتين، وإشادة نقدية واسعة، ورغم حرصه على التحرر مما يرى أنه عوائق كبلت السينما المستقلة وأفسدت علاقتها بالجمهور، لا يبدو عمر الزهيري مطمئنًا كفاية لرد فعل الجمهور المصري خلال عرض الفيلم الأول في مصر بعد أسابيع قليلة من خلال مهرجان الجونة ثم من خلال دور العرض "في فيلم ريش أنا مشيت ورا إحساسي دون خجل وفاجأتني النتيجة وردود الأفعال. أنا دايمًا بقول إني عملت الفيلم ده كأب وزوج وابن عن حاجة مش عاوزها تحصل لأي حد بحبه. علشان كده انبسطت قوي إن الناس وصلها اللي جوة الفيلم". لكنه يحسب حسابًا مختلفًا للجمهور في قاعات العرض المصرية، فربما أدت سيرة الجائزتين برأيه إلى رد فعل عكسي من الجمهور "خايف الجوايز تخلي الناس متحفزة جدًا ناحية الفيلم"، لكنه يراهن على جمهور معين "اللي بيحب السينما هيقف شوية عند الفيلم. في شوية عناصر هتخليه يهتم، زي الأسلوب اللي هو سينمائي جدًا ومختلف تمامًا عن المعتاد في السينما المستقلة، بإيقاع سريع ومفاجئات مستمرة وإيفيهات وضحك. لكن أهم حاجة في الفيلم إنه فيلم بسيط ومش معقد ولا بيتفذلك. أنا فيلمي مش غبي إنما لعبي.. مش هايكسر الدنيا لكن ليه جمهوره".

لكن يبدو أن رهان عمر الزهيري على الزمن أكبر من رهانه على علاقة الجمهور بفيلمه في اللحظة الحالية "أنا بعمل اللي أنا حاسه وبعد كده نشوف. بس تعالي نروح للاكستريم، لو الفيلم ده مانجحش عرضه في مصر هل ده هيأثر على الفيلم؟ لأ. أنا لا أملك شيء كل اللي أملكه إني أعمل فيلم كويس. لكن بالنسبة للجمهور فأنا كمان جمهور، وبحب اللمبي ومش فاهم ليه السينما التجارية وجودها يتنافى مع السينما اللي مش تجارية. ما أكيد واحنا عالبحر بنسمع عمرو دياب.. وفي عيد الميلاد بنرقص على حمو بيكا. ومن ثَم مقدرش أقول إن فيلم زي ده مطالب إنه يكون فيلم Pop". 

أسأله عن كيف يرى الخطوة القادمة خاصة مع جوائز مرموقة قد تجعل التفكير في المشروع القادم أصعب، فيخبرني أنه تجاوز الصدمة منذ مشاركة فيلمه القصير في مهرجان كان ٢٠١٤، أما الآن فهو يشعر أنه أكثر استقرارًا. صحيح أن المخاوف تساوره بشأن الخطوة القادمة لكنه سيتغلب عليها بمواصلة الانغماس في العمل في الإعلانات كاستراحة من التفكير في السينما، قبل التفرغ لمشروعين جديدين بدأت أفكارهما في النمو. لكن واحد من الدروس المستفادة في تجربة "ريش" بالنسبة لعمر الزهيري هو رغبته في مواصلة العمل مع نفس فريق الإنتاج "رفضت عروض كتير بعد ريش من شركات إنتاج كبرى.. أنا عاوز أكمل شغل بنفس الطريقة، إني أعمل السينما اللي بحبها بطريقتي، ومع نفس فريق الإنتاج اللي خاطر معايا في مواجهة كل الضغوط".