دراسات

شريف إمام

السنهوري وأزمة مارس – الجزء الأول

2024.08.23

مصدر الصورة : ويكيبيديا

عندما ضُرِب السنهوري في ساحة العدالة

 

لعلنا لا نؤيد من يُبرز أزمة مارس 1954 على كونها صراعًا بين الديمقراطية والديكتاتورية، فثورة يوليو على حد تفسير بيكر Baker، ثورةٌ مِن أعلى لم تتعدَّ مجموعة الضباط الأحرار كممثلين للصفوة العسكرية الواعية، ولم تكن ثورة من أسفل، نظرًا إلى غياب القاعدة الشعبية عن الإسهام فيها فى أول الأمر([1])، ونظرًا إلى غياب الإيديولوجية لدى الثوار فقد نزعوا إلى تربيتهم العسكرية، التى استلهموا منها المركزية الشديدة والنزعة الفردية فى الحكم. ولم يكَد يمضى نصف عام على الثورة، حتى أُلغي الدستور وحُلت الأحزاب، بل إن الثوار لم يرضوا بأى معارضة حتى ولو كان مصدرها عساكر أمثالهم، فسُجن ضباط المدفعية بعد 24 ساعة من فوزهم فى انتخابات نادى الضباط 15 يناير 1953 لا لشيء أكثر من معارضتهم تصرفات مجلس قيادة الثورة([2])، فى هذا الإطار يمكن النظر إلى الأزمة على أنها أزمة سلطة بين العسكر أنفسهم، لا سيما أن المثقفين المصريين ركنوا إلى موقف الاستسلام السلطوى تجاه تلك الأحداث، وإنْ كنا لا ننكر أن هناك حالات فردية كان فيها لبعض المثقفين المصريين دور، وإن كان محدودًا لا يرقى إلى كونه ظاهرة([3]).

بدأت بشائر أزمة مارس 1954 مبكرًا فى أواخر عام 1953، عندما أحس نجيب بأنه أشبه بفوزي سلو الرئيس الصوري الذى جاء به أديب الشيشكلي بعد انقلابه فى سوريا سنة 1951، وأن ستار الثورة ينزاح ليكشف عن أن عبد الناصر هو صاحب هذه الثورة، ومنظم جنودها وراسم خططها وخطوطها([4]). يقول محمد نجيب في مذكراته شارحًا لهذه الحالة: "لاحظت أن المجلس كان ينعقد أحيانًا بدون حضوري، وإذا حضرت مصادفة توقف الحديث الدائر واتجهوا إليَّ متسائلين عمَّا يجب مناقشته([5]).

وكانت أولى خطوات عبد الناصر هي سحب قيادة الجيش من يد نجيب، وإعطاءها لأخلص أصدقائه وهو عبد الحكيم عامر بترقية عجيبة من رتبة الرائد إلى اللواء، وبدأ عبد الناصر الذى ربط قضيته ليس بشخصه ولكن بمجلس قيادة الثورة كهيئة، فكسب جميع أعضائها، وبدأ هو وصحبه فى البحث عن جماهيرية كافية لموازنة جماهيرية نجيب([6]). ومع مطلع عام 1954 تعقدت الأمور وشعر نجيب بعد مساجلات مع عبد الناصر وجمال سالم بضرورة الاستقالة، فقدم استقالته فى 22 فبراير 1954، وفى 25 فبراير أصدر مجلس قيادة الثورة بيان إقالته وجاء فيه أنه طالب بسلطات أكبر من سلطات أعضاء المجلس.

وعقب إعلان استقالة نجيب، أعلن 40 من ضباط سلاح الفرسان تمردهم، وتزايد القلق فى أوساط الرأى العام. وأرسلت الحكومة السودانية وفدًا رسميًّا إلى القاهرة، وخرجت كل القوى فى مسيرة تأييدًا لنجيب، وطالبوا -من الإخوان إلى الشيوعيين ومن البرجوازية إلى العمال ومن قدامى الوفديين إلى الطلبة- بعودة نجيب([7]). وكان مجلس قيادة الثورة قد أعلن بالإجماع قبول الاستقالة وأصدر بيانًا شديد العنف ضد نجيب يحوى عددًا من الحقائق التى كانت جديدة تمامًا وأهمها أن محمد نجيب كان بعيدًا عن صفوف مجموعة الضباط الأحرار([8]). وكرد فعل طبيعي للمظاهرات التي عمت البلاد على إثر إعلان استقالة نجيب، أعلن مجلس قيادة الثورة فى 27 فبراير 1954 عودة نجيب، وبذلك انتصر نجيب فى تلك الجولة، واستقبلته الجماهير بالترحاب. كانت تلك الأحداث قد جعلت عبد الناصر يدرك ضرورة مسايرة تلك القوى والعمل على استقطاب بعضها، وكان البيان الذى أعلن فيه عن عودة نجيب قد تضمن لفظة الجمهورية البرلمانية المصرية، وهى أول مرة يصدر بيان بهذه الصيغة([9]).

وهنا دخل رئيس مجلس الدولة وقتها عبد الرزاق السنهوري على الخط حيث نصح عبـد الناصر بعدم إعادة دستور سنة 1923 الساقط([10])، واقترح عليه هو وعلي ماهر صياغة خرجت على الشعب فيما عرف بقرارات 5 مارس 1954 والتي نصت على اتخاذ الإجراءات فورًا لانتخاب جمعية تأسيسية بطريق الاقتراع العام المباشر تجتمع فى 23 يوليو التالي لمناقشة مشروع الدستور الذي أعدته اللجنة السابق تشكيلها فى أوائل سنة 1953 وإقراره([11])، والقيام بمهمة البرلمان الجديد إلى حين قيام برلمان فى ظل الدستور الجديد، مع إلغاء الرقابة على الصحافة والنشر، فيما عدا شؤون الدفاع الوطني ابتداء من اليوم التالي، وإلغاء الأحكام العرفية قبل موعد انتخابات الجمعية التأسيسية، لكن تلك التسوية التى أنهت الخصومة كانت غامضة، وهو ما كان يوحي بتجدد الصراع مرة أخرى([12]). توالت التصريحات التى تؤكد أن الاتجاه نحو إقرار حياة ديمقراطية سليمة، وأن الاجتماعات المطولة التي حضرها الطرفان المتخاصمان وبحضور علي ماهر وعبد الرزاق السنهوري وسليمان حافظ قد انتهى إلى تشكيل جمعية تأسيسية بالانتخاب المباشر، وفى الغالب سيكون ذلك في شهر يوليو والمقصود من تلك الجمعية التأسيس لعودة الحياة النيابية إلى مجراها الطبيعي، وعرض مشروع الدستور على اللجنة، وستقوم بمهمة البرلمان كاملة حتى التصديق على الدستور الجديد، وتنتهي مهمتها بانتخاب البرلمان الجديد. وتم الاتفاق على إلغاء الأحكام العرفية([13]). لكن رغم كل ما يبدو على السطح من انتهاء الأزمة، فإن المشكلة ما زالت قائمة، وأن كل ما تم التوصل إليه من تسوية سيتم إهماله([14]).

كان عبد الرزاق السنهوري في خضم تلك الأحداث يقف على مسافة واحدة من المتنازعين، فهو يُعارض فكرة عودة الدستور القديم، ويؤكد أن لجنة الدستور قد فرغت من إعداد مشروعه أو كادت، وأنه من الميسور مع تقصير مواعيد الإجراءات أن تقام انتخابات الجمعية التأسيسية خلال المدة التي تستغرقها الانتخابات للبرلمان القديم، كما أن هذه الجمعية يمكن أن تباشر سلطات البرلمان حتى يجتمع. وظل السنهوري يمارس وساطته بين أطراف النزاع، فذهب إلى نجيب وخاطبه بكل حزم قائلًا: إن مصلحة البلاد تتطلب تصفية الموقف فى السر قبل الجهر([15])، وكان السنهوري قد اشترك مع سليمان حافظ وعبد الجليل العمري في إعداد صيغة توافقية يتولى فيها عبد الناصر رئاسة مجلس الوزراء، وتحجم صلاحيات مجلس قيادة الثورة وأن توجد هيئة تحكيم فيما يقع من خلافات بين الرئيس ومجلس قيادة الثورة، وإلغاء الأحكام العرفية، وأن تجرى انتخابات الجمعية التأسيسية على غير أساس حزبي ونحوها من الإجراءات([16]).

وحسب رواية عبد الجليل العمري لتلك الجهود التي بذلها هو وصديقه قال: "قد تبين أن لا سبيل إلى حل النزاع في ظل الأوضاع القائمة، وكيف السبيل إلى حل نزاع يقوم على أن رئيس الجمهورية يطالب بسلطاته كاملة وأعضاء مجلس قيادة الثورة الآخرين بزعامة عبد الناصر يطالبون بأن تصدر قرارات رئيس الجمهورية وفقًا لما تقره أغلبية مجلس قيادة الثورة([17])". وفى 20 مارس شهدت القاهرة عديدًا من الانفجارات منها ما وقع فى جامعة القاهرة، ومحطة السكك الحديدية ومحل جروبي، وفى 23 مارس 1954 أذاع الرئيس محمد نجيب تصريحات جديدة أكد فيها تمسكه القوي بإعادة الحياة النيابية وإقامة جمعية تأسيسية وأن الأحكام العرفية ستلغى([18]). وتبع ذلك قرارات 25 مارس والتي نصت على السماح بقيام الأحزاب، وأن مجلس الثورة لا يؤلف حزبًا، وعدم الحرمان من الحقوق السياسية حتى لا يكون هناك تأثير في الانتخابات، وانتخاب الجمعية التأسيسية انتخابًا مباشرًا من دون تعيين أي فرد، ويكون لها السيادة والسلطة الكاملة، وحل مجلس قيادة الثورة فى 24 يوليو باعتبار الثورة قد انتهت، وتسليم البلاد لممثلي الأمة، على أن تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها([19]). كانت تلك القرارات تكتيكًا من عبد الناصر ورفاقه بهدف إلغاء قرارات عودة الحياة النيابية التى أقروها فى مارس عن طريق المزايدة فيها وتضخيمها بغرض تفجير الموقف([20]) كانت تلك القرارات توحي بأن القنبلة على وشك الانفجار([21]).

وبالفعل قامت عاصفة من الاضطرابات التى قام بها العمال وهيئة التحرير، وبلغ الأمر ذروته بالهتاف بسقوط حزب زينب الوكيل والصحافة الفاجرة([22]). وفى صبيحة 29 مارس توجهت مظاهرات إلى مجلس الدولة تهتف ضد رئيسه السنهوري، حيث طلعت جريدة الأخبار والتى كان يرأس تحريرها "الأخَوان" على أمين ومصطفى أمين بخبر فى عددها الصادر فى 29 مارس 1954 بأن السنهوري دعا الجمعية العمومية للمجلس إلى أمر هام اليوم، وحسب رواية وكيل المجلس علي بغدادي فإن الاجتماع لم يكن لإصدار أي قرار وإنما كان بدعوة إلى ترشيح مستشار لمحكمة القضاء الإداري بدلًا من آخر، كما أن الجمعية العمومية لم تكن قد انعقدت بعد، ولم يكن الموعد المحدد لانعقادها قد حان، وإنما كان السنهوري فى ذلك الوقت يرأس مداولة الدائرة الأولى لمحكمة القضاء الإدارى([23]). ومن ثم لم يكن الخبر صحيحًا، وكان "الأخَوان" أمين يعلمان وقع الخبر فى تلك الظروف الملتهبة، وانتهى الأمر باقتحام المظاهرت مجلس الدولة والاعتداء على رئيس مجلس الدولة وإصابته بإصابات كادت تودي بحياته. لكن كيف حدث ذلك، هذا ما سنتناوله في المقال القادم.


[1] Raymond Baker, Egypt's uncertain Revolution Under Nasser and Sadat, Cambridge. 1978, P.17.

([2]) عادل حمودة، نهاية ثورة يوليو، مكتبة مدبولي، 1983، ص240.

([3]) عاطف أحمد فؤاد، الزعامة السياسية في مصر، دار المعارف، القاهرة، 1980 ص217.

([4]) حلمي سلام، أنا وثوار يوليو، دار ثابت، القاهرة، 1986 ص50.

([5] ) محمد نجيب، كلمتي للتاريخ، ص 92.

[6] Sonia Dabous, Nasser and The Egyptian Press, Search in "contemporary Egypt. Thorough Egyptian Eye", Charles Tripp editor, New York, 1993,p. 102.

([7]) أليعازر بعيري، ضباط الجيش في السياسة والمجتمع العربي، ترجمة بدر الرفاعي، سينا للنشر، القاهرة 1990 ص115.

([8]) جريدة الجمهورية، 25 فبراير 1954.

[9] F.o 371/ 168327 Sir Stevenson To Foreign office, 28 February 1954, p.4.

([10]) لا أتفق مع ما ذكره أحمد أبو الفتح في كتابه جمال عبدالناصر، ص285 من أن السنهوري هو الذي عرض على جمال عبدالناصر عودة دستور 1923 وأن الأخير هو الذي رفض، فكما ورد في جريدة الجمهورية في حديثها عن خفايا وأسرار حوادث مارس 1954، أن السنهوري هو الذي عارض فكرة عودة دستور 1923 وأكد أن الدستور الجديد على وشك الانتهاء منه. جريدة الجمهورية 26 مارس 1954.

([11]) وثائق مجلس الوزراء، مرسوم بأعضاء لجنة الدستور 13 يناير 1953، محفظة 1273. وشملت القائمة التي ضمت خمسين عضوًا رجال قانون ورجال أحزاب من الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والوطني، ورجال جيش وأساتذة جامعة.

[12] F. o 371/108327 Sir Stevenson to Foreign office, 7, March 1954, P.1

 ([13]) F.o 371/108327 Sir Stevenson to Foreign office, 9 March 1954, P. 2

([14]) F.o 371/108327 Sir Stevenson to Foreign office, 10 March 1954, Pp.1.2

([15]) سليمان حافظ، ذكرياتي عن الثورة، ص119.

([16]) بشير فتحي رضوان في كتابة 72 شهرًا مع عبدالناصر، كتاب الحرية، القاهرة، 1986 ص45 أن الهيئة كانت من اقتراح السنهوري وأنها كانت من ستة أعضاء، اثنين يعينهما الرئيس ومثلهما لمجلس قيادة الثورة وآخر تعينه الجمعية العمومية لمحكمة النقض ومثله تعينه الجمعية العمومية لمجلس الدولة وأن الاقتراح رفض، ويشير سليمان حافظ إلى أن السنهوري عدَّل صيغة تلك الهيئة من دون جدوى. سليمان حافظ، نفس المرجع ، ص127.

([17]) عبدالجليل العمري، ذكريات اقتصادية، دار الشروق، القاهرة، 1986، ص38.

([18]) أحمد أبو الفتح، جمال عبدالناصر، ص291.

([19]) كرم شلبي، عشرون يومًا هزت مصر، دراسة وثائق في أزمة مارس، القاهرة، 1984 ص249.

([20]) وحيد رأفت، فصول من ثورة يوليو، ص182.

([21]) محمد نجيب، كنت رئيسًا لمصر، ص249.

([22]) كرم شلبي، عشرون يومًا هـزت مصر، ص ص، 40-41.

([23]) شهادة علي بغدادي وكيل مجلس الدولة السابق، جريدة الأخبار 10 سبتمبر 1975.