مراجعات
هاني مصطفىعن الحب وأشياء أخرى
2018.01.01
عن الحب وأشياء أخرى
عرض فيلم Phantom Thread بطولة: دانيال دي لويس إخراج: بول توماس أندرسون إنتاج 2017 المخرج الأمريكي بول توماس أندرسون، مخرج فيلم Phantom Thread، واحد من أهم مخرجي جيل الوسط في السينما العالمية. حصلت أفلامه على أكثر من 60 جائزة في مهرجانات عالمية، ومنها حصول فيلمه Magnolia على جائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي عام 2000، وحصوله هو شخصيًا على جائزة أفضل مخرج عن فيلم Punch-Drunk Love في مهرجان كان عام 2002، وكذلك على جائزة أفضل إخراج في مهرجان برلين عام 2008 عن فيلم There will Be Blood. أما فيلمه The Master فقد حصل على جائزة الأسد الفضي في مهرجان فينسيا عام 2012. هذا إلى جانب أن أفلام أندرسون كان لها نصيب كبير في ترشيحات وجوائز الأوسكار، ومن أمثلة ذلك حصول الممثل دانيال داي لويس، بطل Phantom Thread، على جائزة أوسكار أفضل ممثل عن دوره في فيلم There will Be Blood.
كان داي لويس قد أعلن العام الماضي عن اعتزامه التقاعد بعد Phantom Thread، ولذلك فربما كانت لهذا الفيلم أهميته الخاصة. داي لويس من الممثلين القلائل الذين تمتلئ جعبتهم بجوائز التمثيل من مسابقات عالمية، منها 3 جوائز أوسكار أحسن ممثل في أعوام 1990 عن فيلم My Left Foot: The Story of Christy Brown للمخرج جيم شيريدان، و2007 عن فيلم There will Be Blood، و2012 عن فيلم Lincoln للمخرج ستيڤن سبيلبرج. ربما كانت حالة التخمة بالإنجازات هي التي دفعت داي لويس إلى اتخاذ قرار بالتقاعد عن التمثيل، لكنه كذلك ألمح في أحد الحوارات إلى أن دوره الأخير كان له عاملاً كبيرًا في قراره بالتقاعد؛ لعله شعر أنه حقق سقف طموحاته بأدائه لهذا الدور.
يشعر المتفرج على فيلم Phantom Thread، المنتج في 2017، أنه أمام نص سينمائي برائحة كلاسيكيات السينما العالمية؛ فكأن الفيلم من صناعة مخرج من أمثال الإيطالي لوكينو فيسكونتي أو الأمريكي مارتن سكورسيزي. هنا يسعى المخرج بول توماس أندرسون إلى تناول معان متقابلة، الحب والضعف والكرامة والتفاني والتقدير والاستهتار، وذلك عبر استكشاف العلاقات الإنسانية المحيطة بشخصية الفيلم الرئيسية التي يلعبها داي لويس، وهي شخصية مصمم أزياء إنجليزي يدعى رينولدز وودكوك، يعيش في لندن في خمسينات القرن العشرين، حيث يمارس مهنته/شغفه بحب واتقان، مما يجعل «وودكوك» واحدًا من بيوت الأزياء المفضلة لدى الطبقة العليا الأوروبية.
«تستطيعين أن تدسي أي شيء داخل بطانة الملابس. من الممكن تحميلها بالأسرار. أنا أضع شعرة أمي في بطانة السترة»، هذا ما قاله رينولدز لألما (ڤيكي كريبس، بطلة الفيلم) عندما دعاها على العشاء لأول مرة. هذه التفصيلة المهمة توضح جوانب هامة من شخصية بطل الفيلم، جوانب تخص علاقته بمهنته/فنه وبأمه.
الجمل الحوارية الأولى في الفيلم تصف مكانة الأم عند هذا الرجل. هو يقول لشقيقته سيريل (ليزلي مانفيل) إنه يشعر أن روح والدته تتحرك في المكان، ويشير لألما كي ترى صورة زفاف الأم بفستانها الذي صممه لها وهو في السابعة عشرة عندما تزوجت للمرة الثانية بعد وفاة والده.
ملأت سيريل، التي لم تتزوج، الفراغ الذي أحدثته وفاة الأم، فأصبحت هي من يدير تفاصيل البيت والعمل (بيت وودكوك للأزياء)، في حين تفرغ رينولدز لتصميماته وعمله الفني.
يتمحور الفيلم حول شخصية رينولدز؛ شخصية صعبة تتسم بالأنانية والدقة، تحب أن تكون تفاصيل حياتها كما تريد تمامًا، يتعكر مزاجها لأهون سبب، كأن يُقدم له طعام على خلاف ما يريد بالضبط؛ رينولدز طفل مدلل، تمامًا كما ذكرت ألما في المشهد الافتتاحي للفيلم.
تصور المشاهد الأولى للفيلم دقة رينولدز واهتمامه بالتفاصيل. تتابعه الكاميرا وهو يستعد ليوم جديد؛ يحلق ويصفف شعره ويلمع حذاءه في الصباح الباكر، قبل أن تتجمع السيدات اللواتي يعملن في بيت الأزياء.
البشر المحيطون برينولدز محض أدوات ينبغي أن ترضخ لإرادته. في بدايات الفيلم نرى رينولدز يجلس على مائدة الإفطار مع شقيقته ومعهما صاحبته الأولى «جوانا». جوانا تتذمر، بهدوء، من عدم اهتمامه بها. يرد رينولدز بقسوة باردة وحسم قائلًا إنه لا يقبل أن يبدأ يومه بمثل تلك المواجهة التي تعكر المزاج. وتنتهي المسألة في مشهد تال بأن تخبره شقيقته أنه ربما قد حان الوقت كي تترك جوانا المنزل، ثم تطلب منه الذهاب إلى البيت الريفي للاستجمام والراحة، وهو ما حدث بالفعل!
في الريف يتعرف رينولدز على ألما؛ فتاة ليست إنجليزية تعمل في مطعم يتناول فيه الإفطار.
ينسج المخرج/المؤلف بهدوء العلاقة الثلاثية بين رينولدز وسيريل وألما. في البداية تبدو ألما كامرأة تابعة هادئة لا تثير مشاكل. في أول أيام التعارف يدعوها رينولدز إلى منزله، وبدلًا من تبادل العواطف، يطلب منها رينولدز أن تخلع ملابسها لترتدي ثوبًا من تصميمه لم ينته بعد، ويقوم هو بتعديل الثوب، وفي أثناء ذلك، وبينما هي بملابسها الداخلية، تدخل شقيقته إلى المكان وتتفحصها وتشمها، فيتحول مشهد كان من المتوقع أن يكون عاطفيًا إلى جلسة عمل جافة يعلق فيها رينولدز على مقاييس جسمها وصغر حجم ثدييها، كما لو أنها مجرد موديل لا قيمة له إلا مقاييسه المناسبة لعرض أزياء بيت وودكوك.
لكن سرعان ما تبدأ ألما في التأكيد على استقلالية شخصيتها بعدد من الملاحظات المتحدية لأفكار وقرارات رينولدز؛ عندئذ نكتشف أننا لسنا أمام فيلم تقليدي عن مركزية الرجل وتبعية المرأة المحبة، وإنما أمام قصة حب تتطور على خلفية اكتشاف الرجل لاحتياجه وضعفه.
النقلة النوعية تأتي على مرحلتين؛ الأولى عندما ينتهي رينولدز من عرض أزياء كبير فيصيبه الإعياء، لتجلس ألما بجانبه تمرّضه وتتابعه وتحنو عليه. أما الثانية عندما يحيك رينولدز فستان عرس لسيدة ثرية تدعى باربرا، ثم تطلب سيريل منه أن يحضر العرس لأن بربارا تدفع الكثير لبيت وودكوك. في الحفل تشرب باربرا وتفقد وعيها و«تهين فستان وودكوك»، فتقترح ألما سحب الفستان منها لأنها لا تستحق أن ترتدي شيئًا من تصميمه، وهو ما يحدث بالفعل، فيشعر رينولدز بالسعادة لأن ألما تقدر قيمة إبداعه.
لكن الأمور لا تسير بهذه السهولة. فحين تقرر ألما أن تطهو لحبيبها عشاءً رومانسيًا وتطلب من سيريل أن تتركهما وحدهما في المنزل، ينقلب الأمر إلى مواجهة سخيفة بسبب تذمر رينولدز من تغيير نظام حياته، وتنفجر الأزمة بين الاثنين.
تقرر ألما بعد ذلك أن تطحن بعضًا من عش الغراب السام وتضعه في الشاي الذي يحتسيه رينولدز في الصباح، فيصاب رينولدز بالإعياء وتمرّضه ألما، فيكون ضعفه هذا -المصنوع عمدًا بيد ألما- هو نقطة البداية لتحول نوعي في مشاعره.
يقرر رينولدز أن يتزوج ألما. ونراه يتحول إلى رجل غيور، يصل به الأمر في يوم أن يشتكي لسيريل أن وجود ألما دمر سلامه الداخلي وأن عليها أن ترحل. لكن فات الأوان. فألما نفدت إلى القلب وتمكنت.
يسعى أندرسون لأن يقدم أسلوبًا كلاسيكيًّا في الإخراج باستخدامه لتفاصيل مكانية دقيقة بصريًّا تحاكي فترة الخمسينات عند الطبقة العليا اللندنية التي ينتمي إليها بطل الفيلم. ولعل اختيار أماكن التصوير أيضًا كان عاملاً أساسيًّا داعمًا لبنية الشخصيات والدراما. فمعظم مشاهد الفيلم كانت تدور في بيت وودكوك وهو بيت مكون من عدة طوابق: الأخير منها هو مكان ورشة العمل التي تقوم فيها سيدات بتنفيذ الفساتين لسيدات المجتمع الأوروبيات.
ربما كان هذا التصور العام للمناخ المحيط بأحداث الدراما هو الذي جعل المخرج يختار الموسيقى التصويرية التي ألفها الموسيقار جوني جرين وود، والتي غلب عليها البيانو والآلات الوترية في أحيان قليلة؛ هذه النوعية من الموسيقى القريبة من الموسيقي الأوركسترالية لم تضف فقط للدراما، ولكنها، بشكل أكثر جمالاً، تكاملت مع طبيعة الطبقة الاجتماعية لشخصيات ومكان الفيلم. ولعل كل تلك التفاصيل في الفيلم تتكامل مع تصميم الملابس الذي قام به مارك بريدجيس وشكلت عنصرًا أساسيًّا في الحالة البصرية للفيلم، باعتباره قصة عن مصمم أزياء.
من الأشياء البديعة في الفيلم الجمل الحوارية التي لها دلالتها في صوغ العلاقة الإنسانية المركبة بين الثنائي ألما ورينولدز:«إذا كنت تريد مبارزة في التحديق فسوف تخسر»، هذا ما قالته ألما لرينولدز في أول عشاء بينهما، عندما بدأت علاقة الحب بالتكون، وكان لها صدىً عميقًا عندما وضعت عش الغراب المسمم في إفطاره في نهاية الفيلم، إذ أخذت تنظر إليه بحب، بينما هو يبادلها النظرات، ثم قالت له بحنان «أريدك أن تكون ضعيفًا وأن أرعاك»، فرد عليها بعد أن قضم قطعة من البيض المسمم: «قبِّليني قبل أن أمرض» إذ كان يعرف أنها وضعت له السم مرة ثانية في الطعام.