مراجعات

أحمد عبد الفتاح

عن تاريخ الثورة في صعيد مصر

2018.01.01

عن تاريخ الثورة في صعيد مصر

عرض كتاب إمبراطوريات متخيلة

الكاتب: زينب أبو المجد

المترجم: أحمد زكي عثمان

الناشر: المركز القومي للترجمة، 2018

ترتبط صورة الصعيد في أذهاننا بالنفي والإقصاء؛ فهو مكان بعيد عن القاهرة «الحديثة»، يعجُّ بالأمراض المستوطنة، وتمتلئ رؤوس أهله بالخرافات والتقاليد البالية، ويقضي العُرف الحكومي أن النقل إليه عقابٌ هائل، وأن الخروج منه غنيمة يحوزها الواصلون وأبناء الكبار. تقول زينب أبو المجد مؤلفة كتاب «إمبراطوريات متخيَّلة: تاريخ الثورة في صعيد مصر» إن هذه الصورة نتجت عن تركيز نصوص السردية التاريخية الوطنية -التي كُتبت باستخدام اقترابات نظرية قومية ونخبوية- على مجتمع القاهرة والوجه البحري، وإنها أقصت الصعيد من متونها. وجعلت من حكايات الطبقات الدنيا في مكان مثل قنا، هوامش ليس لذكرها أهمية في الرواية الأكبر للدولة القومية في مصر.

ومن خلال تتبعها لتاريخ صعيد مصر –قنا تحديدًا- خلال خمسة قرون تطرح أبو المجد أسئلة وعلامات استفهام ضخمة حول هذه السردية، وتلك الصورة المرتبطة بالصعيد في أذهاننا، مسلِّطة الضوء على تاريخيتها، وقِصر عمرها حيث لم تكن هذه صورة الصعيد قبل مئتي عام فقط. ومن خلال استخدامها لمقاربات نظرية متعدِّدة مثل «الماركسية»، و«مدرسة التبعية»، و«المنظومة العالمية»، و«ما بعد الكولونيالية» تحاكم أبو المجد رؤى الحداثة والإمبراطورية عن نفسها، وتبيِّن قِصر نظر هذه الرؤى، وتفسِّر أسباب فشل حكم خمسة إمبراطوريات كبرى هبطت قنا خلال خمسة قرون وهي: «الدولة العثمانية (1500 - 1800)، والحملة الفرنسية (1798 - 1801)، ودولة محمد علي باشا (1805 – 1848)، ثم الاحتلال البريطاني غير الرسمي لمصر (1848 - 1882)، وأخيرًا الاحتلال البريطاني المباشر (1882 - 1954)».

إمبراطوريات متخيَّلة أم هويَّات محلية متخيلة

بسهولة وسلاسة يصل لقارئ الكتاب ما يشبه النموذج التفسيري الأساسي لتاريخ الصعيد خلال الخمسة قرون المنقضية الذي يتغيَّا الكتاب تقديمه، وقد أبانت عنه المؤلفة في المقدمة والفصل الأول المعنون بـ:قيام «جمهورية» شيخ العرب همَّام وانهيارها (1500 - 1800). فالصعيد يكون بخير دائمًا طالما حكمه أهله، ونأى بنفسه عن حكم الإمبراطورية سواء كانت إمبراطورية قبل حديثة أو حديثة. فلم تجلب الإمبراطورية معها للصعيد سوى البطش وسوء الإدارة والكوارث البيئية والأوبئة القاتلة. بينما نَعِمَ الصعيد تحت حكم أبنائه من العرب الهوارة بالأمن والاستقرار والثراء الكبير والهدوء السياسي. وإذا كان ذلك هو هيكل الصورة الرئيسية التي يريد الكتاب توصيلها لقارئه، فلا يتبقى بعد ذلك سوى ملئها بالتفاصيل والأحداث التاريخية التي تعضدها وتزيد وضوحها بما لا يدع مجالاً للشك في صحتها.

توجِّه المؤلفة في الفصل الأول ضربات قوية للسردية الوطنية الحديثة التي تصور مصر «الحالية» بوصفها دولة موحدة من الأزل إلى الأبد، فمن أواخر القرن الرابع عشر (1380) إلى أواخر القرن الثامن عشر (1769) –باستثناء فترات بسيطة سيطر فيها العثمانيون ونوابهم من المماليك في القاهرة على الصعيد سيطرة مباشرة- حُكم الصعيد بصورة شبه مستقلة من قِبل قبيلة الهوَّارة بعد معارك شرسة مع المماليك. وحينما دخل السلطان سليم الأول مصر لم يغزُ الصعيد، ورضي من الهوَّارة بالولاء الاسمي ودفع الخراج السنوي والعطايا الجزيلة التي ترسلها القبيلة للباب العالي في إسطنبول. وفي المقابل عيَّن السلطان بعض فلول المماليك الموالين له ليسيطروا على القاهرة والوجه البحري تحت إشراف باشا تعيِّنه إسطنبول. وهكذا ظلت مصر طوال ما يقرب من أربعة قرون مقسَّمة إلى قسمين: شمالي وتحكمه الإمبراطورية العثمانية عن طريق المماليك، وهو ملتزم في أحواله ومعاملاته بأوامر وفرمانات السلطان، ومحاكمه الشرعية جزء من بيروقراطية الحكم، ومذهبه حنفي كمذهب الدولة الرسمي. وجنوبي تحكمه الهوَّارة ولا تتُلى فيه أوامر السلطان وفرماناته ومحاكمه مستقلة، ومذهبه مالكي. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالصورة التي يقدِّمها الكتاب للصعيد –قنا تحديدًا- في هذا العصر جدُّ مختلفة عما اعتدنا عليه في ثقافتنا المعاصرة، وعمَّا اعتاد نقَّاد الإمبريالية بمختلف مدارسهم تقديمه عن العلاقة بين المراكز الإمبراطورية وهوامشها. وتطرح المؤلِّفة في الفصل الأول فرضية مثيرة مفادها أن الدولة العثمانية كانت إمبراطورية «متخيَّلة» في صعيد مصر، إمبراطوية لم تكن تحكم هامشها، بل كانت علاقة المركز والهامش في جنوب مصر في تلك الحالة معكوسة، حيث اعتمد «المركز» الاستهلاكي على «الهامش» الرأسمالي المنتج. وتدلل عليها من خلال رسم تلك الصورة المغايرة لقنا في عصور ما قبل الحداثة، فهي مدينة حافلة بالأسواق متسعة المرافق كثيرة الخلق لكثرة الصادر والوارد من الحجاج والتجار اليمنيين والهنود وتجار أرض الحبشة. ويعود السبب في ذيوع شهرة منطقة قنا في ذلك الزمن إلى موقعها المحوري في قلب ما أطلق عليه العديد من مؤلِّفي تاريخ العالم اسم: «الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي»، وهو شبكة التجارة الدولية التي ربطت بين موانئ البحر الأحمر والجزيرة العربية، والمحيط الهندي الشاسع من خلفهم، وكانت هي المحرك الديناميكي لتجارة العالم القديم بين آسيا وأفريقيا. حكمت تلك المنطقة الاقتصاد العالمي لقرون، قبل ظهور المنظومة الرأسمالية الأوروبية الحديثة التي أزاحتها وحلَّت محلَّها في القرن التاسعَ عشَر. ويعتمد المركز الإمبراطوري عليها في إمداده بالسلع الأساسية كالقمح والغلال والسكر، بل يعتمد عليها كذلك في الحفاظ على صورته وهيبته كخليفة للمسلمين من خلال إرسالها للحبوب والغلال إلى حجَّاج بيت الله الحرام في الأراضي المقدسة على الجانب الآخر من البحر الأحمر.

وقد بلغ حكم الهوَّارة في الصعيد ذروته مع شيخ العرب همَّام، ذلك الأمير الذي أسَّس حكمًا عادلاً يشبه «الجمهورية» في صعيد مصر خلال أربعين عامًا في منتصف القرن الثامن عشر، حتى خانه ذكاؤه وتحالف مع الأمير المملوك علي بك الكبير في سبيل الاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية، فلما تحقَّق لعلي بك الكبير ما أراد في أول الأمر انقلب على حليفه همَّام، ورشى أحد أبناء عمومته لينسحب من صفوف جيشه ويقاتل ضمن صفوف المماليك، فهُزم جيش همَّام ومات مكمودًا مقهورًا عام 1769. وكانت تلك آخر مرة حُكم فيها الصعيد بأبنائه شبه مستقل عن القاهرة، حيث حكمه المماليك ثم العثمانيون مباشرة بعدما هزموا علي بك الكبير ثم جاءت الحملة الفرنسية.

إمبراطوريتان أجنبيتان، و«استعمار» محلي

إذا كان سقوط دولة شيخ العرب همَّام إيذانًا بغروب شمس الصعيد شبه المستقل، فقد تضافرت عدة عوامل على إفقاد الصعيد مكانته المتميزة التي اكتسبها طيلة الحقبة العثمانية، منها ماهو داخلي مثل عودة الإمبراطورية لحكمه مباشرة من القاهرة سواء كان الحكام ضباطًا مماليك أو فرنسيين أو موظفين في دولة محمد علي البازغة. وكان خسوف نظام «الاقتصاد العالمي للمحيط الهندي» -الذي كانت قنا أحد مراكزه البارزة- وتحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي من المحيط الهندي إلى البحر المتوسط خدمة للرأسماليات الصاعدة في غرب أوروبا كارثة أخرى حلَّت بالصعيد. لكن أكبر أذى لحق به جاء مع غزو محمد علي له واحتكاره لثرواته.

تروي الفصول من الثاني إلى الخامس قصة مأساوية حزينة للصعيد تحت حكم الفرنسيين ودولة محمد علي ثم الإنجليز. وتقدم هذه الفصول سردية بديلة للسردية القومية التقليدية التي تجعل من قدوم الحملة الفرنسية بداية لما تسميه «عصر النهضة»، وتصف محمد علي باشا بباني مصر الحديثة وصاحب الفضل في نهضتها.

تستعرض المؤلفة في الفصل الثاني أشكال العلاقة بين الفرنسيين وفئات المجتمع الصعيدي من فلاحين وأقباط وعربان، وهم من تعاونوا مع الفرنسيين بعض الوقت وقاتلوهم أكثر الوقت. ويلاحظ قارئ الكتاب بسهولة أنه شتَّان بين وضع أهالي الصعيد إبان الحملة الفرنسية، وبين وضعهم مع قدوم الإمبراطورية البريطانية. فقد تعاملوا مع الحملة الفرنسية كندٍّ غالبًا، وخادعوا الفرنسيين وحاولوا استغلالهم للتخلص من مظالم حكم المماليك، ولكنهم لم يسمحوا لهم بالتدخل في شئون الحكم الفعلية. وتعتمد أبو المجد على ثروتها من الوثائق والمصادر الأصلية لتسليط الضوء في هذه السردية البديلة على أشكال المقاومة التي أبداها الصعيد لمظالم دولة محمد علي وخلفاءه وكانت محطَّاتها الرئيسية ثورتين قام بهما الصعيد عامي 1824، و1864 وقمعتهما -بضراوة- ما تسميه المؤلفة «الإمبريالية» الوطنية. ولم  تتوقف أشكال المقاومة على الثورة المباشرة والتمردات الصغيرة، بل تعدَّتها إلى الهروب من القرى، والتسحُّب من أداء الخدمة العسكرية وأعمال السخرة، وصولاً إلى تشكيل العصابات التي اختصت بالاعتداء على التجار الأجانب وموظفي الحكومة وسلبهم أموالهم وثرواتهم.

وتستعرض أبو المجد في هذا الفصل قصة الثورة الأولى ضد حكم محمد علي التي انطلقت من قنا بقيادة رجل اسمه أحمد الطيب ادَّعى الولاية وقاد جموع الفلاحين للثورة ضد جلاديهم. وفي الفصل الرابع حاولت أبو المجد إظهار الهوة الكبيرة بين مثُل الخطاب الليبرالي للإمبراطورية البريطانية ونتائج تدخلها على أرض الواقع، من خلال رصدها لبدايات الوجود البريطاني غير الرسمي في صعيد مصر. ويعجُّ الفصل بسرد مظاهر ذلك التدخل والآثار التي خلَّفها «تحرير التجارة» على أهالي قنا، ومنها أن التوسع في تصدير الغلال إلى أوروبا أدى إلى تحمل الأهالي عواقب وخيمة كحدوث نقص حاد في الغذاء وارتفاع أسعاره بشكل جنوني، ومنها كذلك أن نشأة الملكية الخاصة في مصر لم تعنِ نشوء طبقة برجوازية وطنية بقدر ما خدمت مصالح النخبة الحاكمة وسهَّلت احتكارها لموارد الثروة والسلطة. وتستكمل أبو المجد في الفصل الخامس استعراض نتائج التدخل الإمبريالي البريطاني في الصعيد مستخدمة الإطار النظري الذي قدَّمه بندكت أندرسون حول تلاقي المصالح بين الإمبريالية الرأسمالية والنخب المحلية لخلق هوية وطنية موحدة عن طريق توحيد الأسواق المحلية. وتركز أبو المجد في هذا الفصل على الفوارق التي ظهرت في تعامل الإمبراطورية البريطانية والنخب المحلية مع الدلتا والقاهرة وبين تعاملها مع الصعيد النائي. فقد شكَّل تركز زراعة القطن في الدلتا طبقة حاكمة جديدة من المصريين والأتراك، وهو ما لم يحدث في الجنوب. وتدلل أبو المجد على هذه الفوارق من خلال تشكيل مجلس شورى النواب والقضايا التي ناقشها وتركيزه على المشاريع والخدمات في القاهرة والوجه البحري وتجاهله للصعيد.

ملاحظات واستدراكات

يستمد كتاب إمبراطوريات متخيلة أهميته من ندرة ما كُتب في موضوعه، ومن جدية مؤلفته وحماستها لموضوع دراستها، ولا شك أن إعادة سرد التاريخ بما يمكِّنه من تمثيل أصوات أكبر عدد من فئاته وصانعيه يعدُّ هدفًا جليلاً. لكن لا يمكننا ونحن في ختام هذه المراجعة ألا نلفت النظر إلى بعض المشاكل التي قد تواجه قارئ هذا الكتاب. وأولها عدم ضبط دلالة مصطلح "الإمبراطورية/الإمبريالية". فالمؤلفة تستعمل هذين المصطلحين بدلالتين متقاربتين، وهي تؤكد استلهامها للإطار النظري الذي قدمته مدرستي التبعية والمنظومة العالمية الذي ينظر إلى المركز الإمبريالي كمحتكر للإنتاج الرأسمالي، بينما يحول الأطراف إلى مجرد منتجين للمواد الخام ومستهلكين لمنتجاته. وتظهر المشكلة حينما تحاول استعمال هذا الإطار في حالة الصعيد في مصر العثمانية، وتصف إسطنبول بالمركز الإمبريالي، مع تأكيدها على انعكاس العلاقة بين الطرفين عما هي في الإطار النظري الذي تستخدمه، واختلاف طرق الحكم والسيطرة في إمبراطوريات ما قبل الحداثة عنها في الإمبراطوريات الحديثة. ويحار القارئ حين يصل إلى هذه النتيجة، فما هي دلالة «الإمبريالية» بالضبط في هذه الحالة؟

من الأمور اللافتة في الكتاب التأكيد المبالغ فيه على اختلاف الأحوال بين فلاحي الدلتا وفلاحي الصعيد في الحقبة الاستعمارية البريطانية الرسمية وغير الرسمية، وهو ما يخالف ما ورد في مصادر أخرى، حيث يؤكد كينيث كونو، على سبيل المثال، أن فلاحي الدلتا عانوا مما عانى منه فلاحو الصعيد بداية من 1817 من أعمال السخرة في حفر الترع والمصارف، والتجنيد الإجباري. كما أن بعض الثورات قد قامت في الدلتا –المنوفية تحديدًا- بالتوازي مع الثورة الصعيدية الأولى ضد السخرة والتجنيد الإجباري. وغاية ما يمكن قوله في هذا الإطار إن من سوء حظ الصعيد أنه لم يكن لديه ما يقدمه في أواخر القرن التاسع عشر لخدمة الدور الذي ارتأته الإمبريالية البريطانية لمصر كمزرعة للقطن ومستهلكة لمنتجاتها فتم تهميشه لحساب الشمال. ولكن هذا التفضيل النسبي للشمال لم ينعكس على أحوال فلاحيه بقدر ما انعكس على أحوال نخبته.

ومن الملاحظات اللافتة كذلك، التماس المؤلفة الأدلة لإثبات وجود انفصال تام بين القاهرة والصعيد على مستوى القناعة بالسردية الوطنية «البرجوازية»، إلى درجة ذكرها لمعلومة خاطئة وهي تمثيل مكرم عبيد باشا للوفد في أثناء زيارة انتخابية لقنا عام 1949، وهجوم الأهالي عليه لحساب مرشح آخر. ومن المعلوم أن مكرم عبيد قد انشق عن الوفد منذ عام 1942 في أثناء خلافه الشهير مع مصطفى النحاس باشا. ولعل هذا يعني أنه يمكن تفسير تلك الحادثة –من حيث المبدأ- لصالح قناعة أهالي قنا بالوفد وما يمثَّله من قيمة وطنية؛ وبالتالي هاجموا مكرم عبيد المنشق عليه.

وفي الجملة فإن كتاب إمبراطوريات متخيَّلة كتابٌ جيد يطرح أسئلة مهمة وشائكة عن تاريخ الدولة الحديثة في مصر، وتاريخ علاقتها بأطرافها، ولعله يكون سببًا في إعادة النظر في هذه العلاقة.