أعداد خاصة

يحيى فكري

عن دينا جميل.. الاشتراكية المناضلة

2020.01.01

عن دينا جميل.. الاشتراكية المناضلة

ليس هناك من مفر، لا بد أن أكتب هنا عنك الآن يا دينا.. أمارس طوال الأيام الماضية كل الحيل مع نفسي لأهرب من المهمة.. بعض الرفاق المقربين إليك اعتذروا عن المشاركة لأنهم غير قادرين على ذلك.. أنا مثلهم، لكن ما بيدي حيلة، وقد ألقيت على عاتقي مهمة إصدار هذا العدد من «مرايا» لأهديه إليك.. أول عدد يخرج من المجلة لا يحمل بصمتك، وإن كان يحمل لك قدرًا كبيرًا من الحب هو بلا شك أقل بكثير جدًا عما تستحقينه..

أول لقاء جَمَعني بك كان اجتماع هيئة تحرير «الشرارة» عام 1996، في كازينو «كروب» على نيل المنيل، وهو مكان اختفى الآن بالطبع. أما «الشرارة» فكانت واحدة من مجلتين تصدران ساعتها عن الحركة الاشتراكية الثورية في مصر، بعدما انقسمت النواة التي أسست الحركة إلى مجموعتين: «تيار الاشتراكيين الثوريين»، و»جماعة تحرير العمل»، وكانت «الشرارة» صوت «تحرير العمل» (المجلة الأخرى هي «الاشتراكية الثورية»). لم تنقطع بعدها مشاركتك في هيئات تحرير الإصدارات السياسية للحركة، ورئاسة تحرير بعضها، لكن ظلت تجربة «الشرارة» أثيرة إلى قلبك، تحملين داخلك حنينًا لا ينفطم لها، ربما لأنه هكذا تكون مشاعرنا تجاه البدايات.. ذكرياتنا مثلاً عن الصبا وسنوات الدراسة، أو تدفق حماستنا ونحن نتقدم بخطواتنا الأولى في مجال لم ندخله من قبل، أو لهفة مشاعرنا ونحن نندفع في قصص حب جديدة، وهكذا. 

ومنذ لقاءنا الأول وحتى يوم رحيلك لم تنفصم علاقتنا، صرتِ واحدة من أقرب الرفاق والأصدقاء إلى قلبي، وظل وجودك في حياتي واحدًا من المسلمات.. تجمعنا صداقة حميمة وآمنة تضفي سلامًا على الحياة وسط ما نعيشه من تقلبات وعواصف، هذا السلام الذي تصنعه شخصيتك الرقيقة السمحة التي تفيض بالمحبة على كل البشر والأشياء المحيطة بها.

***

صرنا نرفع شعار: علينا أن نبني المنظمة وسط المعارك والنضال.. أي علينا أن نضم إلى صفوفنا هؤلاء الذين اختاروا طريق النضال داخل معارك الواقع، عبر التفاعل والارتباط بتلك المعارك، بديلًا عن كسب الأعضاء الجدد من وسط دوائر أصدقائنا وعلاقاتنا الشخصية. وإن كان رفع الشعار سهل، فتطبيقه أمر آخر. فكيف لنا نحن الحفنة المحدودة من الاشتراكيين في تسعينات القرن الماضي أن نتفاعل مع معارك سياسية أو اجتماعية في واقع مجدب تندر فيه المعارك؟! وإذا ما نجحنا في الارتباط بتلك الحوادث النادرة فكيف نفوز بالمناضلين الذين انخرطوا فيها؟! 

إلا أن الأقدار ساقت لنا معركة مهمة وسط جمهور الصحفيين؛ فنقابة الصحفيين كانت ترفض بتعنت أن تقيد في جداولها أعدادًا كبيرة من شباب الصحفيين العاملين فعليًّا داخل صحف قائمة، وهو ما يحرمهم من حقوقهم النقابية، ويدفعهم إلى حالة من التذمر. لذا بادرت «جماعة تحرير العمل» عام 1995 بدعوة بعض من هؤلاء المتذمرين إلى تأسيس مجموعة داخل النقابة باسم «صحفيو الغد»، وإصدار نشرة بالاسم نفسه للنضال من أجل حقوقهم النقابية. وكان ذلك بداية التواصل بين دينا جميل، التي انضمت إلى هيئة تحرير النشرة، وبين الحركة الاشتراكية الثورية.

كنا ساعتها نتبنى سياسة متشددة تجاه ضم الأعضاء الجدد إلى المنظمة -تجاوزناها فيما بعد- حتى نضمن «تماسك» مرشح العضوية على الخط السياسي الاشتراكي الثوري، عبر توجيهه لقراءة كثير من كلاسيكيات الماركسية، وخوض نقاش سياسي منتظم معه لفترة طويلة. هكذا ظلت دينا لما يقرب من عام تجتهد بمثابرة ودأب في التعرف على الماركسية الثورية داخل حلقة نقاش اشتراكية، بينما هي تناضل في ذات الوقت وسط جمهور الصحفيين من أجل الحق في القيد النقابي. إلى أن قامت الدنيا فجأة وسط جموع الصحفيين في معركة حامية الوطيس ظلت مشتعلة لفترة طويلة. 

فقد خرج علينا النظام ذات صباح في عام 1996 بقانونه المشبوه الشهير، الذي يفرض عقوبة الحبس على الصحفيين في جرائم النشر، ما أدى إلى حالة هياج وسط الصحفيين، وفجر حركة احتجاج واسعة النطاق بينهم. وفي ظل جمعية عمومية طارئة دائمة الانعقاد، وعرائض، واعتصامات، ومفاوضات، وأخذ ورد، لعبت «صحفيو الغد» دورًا بارزًا في التعبئة للاحتجاجات، وحاولت تجذير الحركة وربطها بالنضالات المطلبية للصحفيين.

وفي سياق المعركة قررت «جماعة تحرير العمل» أخيرًا أن تضم إلى عضويتها الرفاق الصحفيين المنخرطين في حلقة النقاش، بعد أن اطمأنت إلى «تماسكهم» و»نضاليتهم»! وأنا أسخر هنا بالطبع من تلك السياسة التنظيمية الهزلية التي كنا نتبناها، وكأننا نملك الحق في الحكم على نضالية أو تماسك الآخرين! لكن هذه قصة أخرى. 

المهم أن دينا جميل أصبحت عضوة في المنظمة وهيئة تحرير «الشرارة». ومن بين كل مجموعة الصحفيين الذين انضموا يومها، بل ومن بين جميع أعضاء الحركة الاشتراكية الثورية في مصر ساعتها (سواء من «تحرير العمل» أو «الاشتراكيين الثوريين») كانت دينا جميل الوحيدة التي لم يصبها يومًا الوهن، لم تبتعد يومًا عن النضال السياسي بسبب ضغوط حياتها الشخصية: العمل، أو الدراسة، أو الارتباط العاطفي، وذلك منذ عام 1995 وحتى عام 2013، عندما اختارت الابتعاد عن العمل الحزبي. مع أنها كانت طوال هذا الوقت صحفية محترفة مستقلة ماديًّا وتكسب قوتها من عملها. وحصلت خلال تلك السنوات على ماجيستير في الصحافة من الجامعة الأمريكية، والعديد من دورات التدريب الصحفية داخل مصر وخارجها. وهذا إضافة إلى خوضها تجربة الزواج والسعي لتكوين أسرة خلال الفترة نفسها. فعلى الرغم من كل ضغوط الحياة ومصاعبها ظل إخلاصها الشديد لمشاعرها وأفكارها، إلى جانب صلابة معدنها وأصالته، محفزًا على مواصلة النضال من أجل ما تؤمن به. 

***

كنا، ومنذ الوهلة الأولى، نرفع شعار التوجه إلى الطبقة العاملة. وهو شعار براق لا شك، لكن تحققه يكاد يكون مستحيلًا. فكيف لمجموعة عددها يقدر بالآحاد، جميعهم مثقفون شباب من أبناء الطبقة الوسطى، الذين أسسوا الحركة الاشتراكية الثورية في مطلع التسعينيات، أن تنجح في مد جذور لها وسط الجماهير العمالية، لمجرد أنها تتبنى هذا التوجه! كان كل ما استطعنا عمله خلال سنواتنا الأولى هو التواصل مع بعض العمال اليساريين المرتبطين بحركة السبعينيات الشيوعية. وهم كانوا في حقيقة الأمر مجرد كوادر سياسية لا يختلفون كثيرًا عنّا في حياتهم الاجتماعية، ولا تختلف نظرتهم إلى الأمور شيئًا عن وجهات نظر اليسار الراديكالي السبعيني عمومًا.

اختصارًا؛ ظل شعار التوجه للطبقة العاملة مجرد رطانة يسارية، لا توجد له ترجمة من أي نوع في الممارسة الفعلية. واستمر ذلك الوضع حتى نجحنا في تشكيل مجموعة في شبرا الخيمة تتمتع بقدر كبير من الصلابة والتحدي، وقررنا من خلالها أن نتوقف عن محاولات التواصل عن بعد، وأن نقطع الطريق ونتفاعل بشكل مباشر مع الجمهور العمالي. وانضمت دينا إلى مجموعة شبرا، وصارت تلعب الدور المحوري في التفاعل المباشر، وحققت سبقًا أدى إلى تغيير طريقة تفكيرنا عن أحوال العمال المصريين في التسعينيات.

مارست تلك المجموعة نشاطها من خلال مقر حزب التجمع في شبرا الخيمة، وأصدرت نشرة محلية باسم «أهالي شبرا الخيمة». وانقلبت حياة دينا رأسًا على عقب؛ صارت تقضي معظم ساعات يومها وهي تتجول وسط المواقع الصناعية هناك، بصفتها محررة في نشرة أهالي شبرا، تتنقل أمام أبواب المصانع وقت دخول العمال في بداية الورديات، ثم إلى الكافيتريات التي يقضون فيها فترات راحتهم، وأخيرًا إلى الأتوبيسات التي تنقلهم ساعة عودتهم إلى منازلهم، تحمل معها آخر عدد من النشرة لتبيعه لهم، وهي تقوم في ذات الوقت بإجراء تحقيقات وحوارات صحفية معهم عن أحوال العمل وأوضاع حياتهم لنشرها في العدد المقبل. 

هذا التفاعل المباشر الذي أدارته دينا بكفاءة ونجاح، كصحفية مناضلة وسط المواقع العمالية، صار هو التكتيك الرئيسي الذي اعتمده الاشتراكيون الثوريون بعد ذلك في كل نشاطهم العمالي. وخلال سنوات نشاطها في شبرا الخيمة نجحت دينا في بناء صلات سياسية مهمة مع عمال من مشارب مختلفة، كان أهمهم عاملات مصانع الملابس الجاهزة، وهن قطاع عمالي حديث له سمات خاصة. ونجحت أيضًا في التفاعل مع عدد من الإضرابات والنضالات العمالية، وطرح سياسة اشتراكية داخلها، ساهمت في تطوير وعي قسم من الجمهور، وفي كسب عدد من العاملات والعمال إلى الاشتراكية. ونجحت كذلك في إعادة بناء معرفتنا كاشتراكيين بوضع الطبقة العاملة المصرية في التسعينات: كيف تعي عاملات مصانع الملابس وضعهن كطبقة عاملة؟ ما هموم العمال الساعين إلى الخروج على المعاش المبكر، في مصانع كانت تحتضر في ذلك الوقت؟ ما مطالب العمال الملحة الآن وحدود وعيهم، وكيف يمكن تعبئتهم على معارك مطلبية؟ وهكذا.

***

لا شك أن هشام فؤاد أجدر مني بالكتابة عن تجربة «صحفيو الغد»، وفي شرح قصتها وتأثيرها على مسار الأحداث داخل نقابة الصحفيين. لا شك أيضًا أن أيمن عبد المعطي أجدر مني بالكتابة عن تجربة «أهالي شبرا الخيمة»، وفي استعراض تفاصيلها والخبرات المكتسبة منها في العمل العمالي. فكَ الله أسر الاثنين. ربما يأتي يوم تسمح لنا فيه الظروف أن نسجل خبرة ما جرى كله. أما المشترك في التجربتين، وفي غيرهما، هو حقيقة أن دينا جميل هي سيدة المهام الصعبة. تلك المهام التي تحتاج إلى المخاطرة، والالتزام الحديدي، والقدرة على إدارة الأمور بانضباط وحكمة. وفي كل مرة كنا نقف أمام مهمة تحتاج إلى كفاءة نوعية خاصة كان اختيارنا يقع عليها.. دينا جميل.

هكذا، وفي ظل الزخم الناتج عن انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحركة التضامن معها تم إعادة توحيد المجموعتين («الاشتراكيين الثوريين»، و«تحرير العمل») في منظمة واحدة. وصدرت عن المنظمة الموحدة مجلة جديدة، علنية هذه المرة، هي «أوراق اشتراكية». ومع تصاعد التجذير السياسي خلال السنوات الأولى من الألفية، واستجابة للزخم الحادث، تقرر إصدار صحيفة تابلويد كل أسبوعين هي «الاشتراكي». وكانت تلك مهمة غاية في الصعوبة.

فكيف لمجموعة يقوم نشاطها بنسبة 100 % على العمل التطوعي، ولا تملك أي تمويل أو امكانيات مؤسسية مستقرة، إصدار صحيفة توزع بشكل منفتح وبانتظام حديدي مرة كل أسبوعين؟ هي مهمة تحتاج إلى رجل/ سيدة المهام المستحيلة، لذا وقع الاختيار على دينا جميل، التي بذلت أقصى ما يمكن من تضحيات وجهد في سبيل إنجاح المهمة. 

هكذا أيضًا، ومع انفتاح المجال السياسي خلال العقد الأول من الألفية اندفع آلاف الشباب الجدد إلى صفوف معركة التغيير والحركات التي تولدت عنها («كفاية» وأخواتها). وبالطبع نجح الاشتراكيون الثوريون في ضم قسم منهم، صغير العدد بالنسبة لحركة التغيير لكن كبير بالنسبة للاشتراكيين، ما شكل طفرة في حجم المنظمة. معظم هؤلاء الشباب الجدد كانوا طلاب في الجامعات، تدور أعمارهم حول العشرين من العمر، وبقدر ما كانوا يشكلون إضافة وطاقة رفع جديدة وملهمة للحركة الاشتراكية الثورية، بقدر ما كانت صعوبة إدارة عملهم الجماعي بسبب مشاكل صغر السن ونقص الخبرة، وما يصاحبها من جموح وفردية. ساعتها وقع الاختيار أيضًا على دينا جميل لإدارة العمل الطلابي، وهي ذات خبرة سابقة فيه، وربما كانت الوحيدة في تلك اللحظة القادرة على التعامل مع هذه المهمة، بما تحتاجه من مرونة وحسم. 

ويحق لي الآن أن أقول بثقة، وبعد مرور وقت طويل، أنه لولا وجودك في هذه المهمة يا دينا لانفرط عقد هؤلاء الشباب وتبعثروا.. فاستقامتك، وشخصيتك الودودة السمحة، وما تملكينه من حكمة وانضباط وقدرة على الاحتواء، هو ما سمح بالحفاظ على وحدة هؤلاء الشباب وتماسكهم السياسي وضبط توجهاتهم وعملهم الجماعي. هؤلاء الذين شكلوا فيما بعد أحد الروافد الأساسية التي لعبت دورًا في التحضير والتعبئة لثورة يناير المجيدة. وأنا أعلم عن يقين أن هذه الجماعة من الشباب، وحتى بعد أن تفرقت بهم السبل، لا يزالون جميعًا يكنون لك معزة وحبًا لا حدود لهما.

***

عزيزتي دينا جميل، أكتب لك الآن وقد مرت عدة أسابيع على رحيلك، ولا أزال أشعر بقدر هائل من الوحشة والفقد، وأعلم أن هذا الشعور سيظل معي ما بقى لي من عُمر.. أفتقد ابتسامتك وضحكاتك.. أفتقد حوارتنا ونقاشاتنا.. أفتقد وجودك في «المرايا».. أفتقد جلسات السمر والسهر معكِ.. أفتقد مشاعرك الفياضة ووجهك المشرق وروحك العذبة!

عزيزتي دينا جميل.. ابقِ معنا لا ترحلي.. احفظي روحك الملائكية بيننا لتغمرنا بالحب.. دعيها تملأ عالمنا الموحش بالبهجة.. ساعديها أن تفيض علينا من نورك لتقينا ظلمات المسالك والدروب وعثرات الطريق..