مراجعات

هاني مصطفى

عن فيلم دانكيرك

2017.09.12

تصوير آخرون

عن فيلم دانكيرك

فيلم «دنكيرك»، كتابة وإخراج كريستوفر نولان، موسيقى هانز زيمر، مدير تصوير هويتيه ڤان هويتيما، مونتاج لي سميث، تمثيل فيون وايتهيد وباري كيوغان ومارك رايلانس، 2017.

تتطلب صناعة أفلام الحركة أموالاً طائلة، وتحمل وراءها أهدافًا مركّبة، وتحقق شركات إنتاجها أرباحًا ضخمة، وذلك لأن عشاق سينما التوتر والإيقاع السريع هم الأكبر عددًا على مستوى العالم. وتعتبر أفلام الحروب فرعًا من فروع سينما الحركة، حيث أنها تعتمد في إيقاعها أيضًا على العنف والتوتر.

فيلم «دنكيرك»، كتابة وإخراج كريستوفر نولان، موسيقى هانز زيمر، مدير تصوير هويتيه ڤان هويتيما، مونتاج لي سميث، تمثيل فيون وايتهيد وباري كيوغان ومارك رايلانس، 2017.

لعل التوظيف السياسي لأفلام الحروب بدأ في زمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، فور انتهاءهما من القضاء على «الرايخ الثالث» النازي في الحرب العالمية الثانية. فقد أنفقت هوليوود في هذا الزمان ملايين الدولارات على أفلام حربية تروّج للإنجازات «البطولية» التي حققها الجيش الأمريكي في الحرب العالمية، وذلك دعمًا للحرب الأمريكية الجديدة ضد «الشيوعيين». وقد اعتمدت تلك النوعية من الأفلام على الإبهار الإخراجي، بينما استندت بنيتها الدرامية على مفهوم البطولة التقليدي، ومن أمثلة ذلك الفيلم الشهير «أطول يوم» الذي أخرجه أندرو مارتون وكن أناكين وبرنارد ويكي وجيرد أوزولد ووديريل ف زانك.

لكن فيلم «دنكيرك» للمخرج البريطاني كريستوفر نولان ليس من الأفلام التي تتناول الحرب العالمية الثانية بالمنظور البطولي التقليدي. هذا فيلم يكسر حالة فيلم الحرب التقليدية. فهو ينطلق من رؤية أوسع؛ رؤية تلتقط وتحلل المخاوف التي تواجه الفرد إن وُضعت حياته على المحك، وأصبح الموت يحلّق فوق رأسه مباشرة.

نولان مخرج متميز، تحمل معظم أفلامه، حتى تلك الموغلة في الجماهيرية مثل سلسلة أفلام «الرجل الوطواط» («بات مان بيجينز»/ 2005، و»دارك نايت»/ 2008، و»دارك نايت رايزيس»/ 2012)، قيمًا فنية بديعة. فتلك أفلام لا يمكن مقارنتها من الناحية الفنية بمثيلاتها التي تناولت الموضوع نفسه (الرجل الوطواط).

لكن قيمة نولان تظهر فعليًّا في ثلاثة أفلام مدهشة من ناحية الفكرة والبناء: «ميمنتو»/ 2001 حيث يعتمد على بنية سردية غير تقليدية؛ «إنسيبشن»/ 2010 حيث يمزج الحلم بالواقع بطريقة مذهلة؛ «إنترستيلر»/ 2014 حيث يخلط الواقع بالنظريات الفيزيائية والفلكية الحديثة في إطار خيالي-كابوسي (بوست أبوكاليبتيك).

في فيلمه الجديد، «دنكيرك»، يصدمك نولان من اللقطة الأولى. تنظر الكاميرا من الخلف إلى مجموعة من الجنود الإنجليز، الذين يسيرون بهدوء في شارع خاوٍ إلا من أوراق منشورات متساقطة، في لقطة تذكرك بحالة الهدوء والتأمل لدى تاركوفسكي، لكنها لا تستمر سوى للحظات. المنشورات عبارة عن رسم بالأسهم، ومكتوب عليها «أنت محاصر». ثم فجأة يتبدد الهدوء بصوت كثيف لإطلاق النار يخلق حالة من الذعر، يركض الجنود ويتساقطون قتلى، واحدًا تلو الآخر، على إثرها. جندي واحد فقط يمكنه الهرب، قفزًا من منزل إلى آخر، حتى يصل إلى حاجز للجنود الفرنسيين. تتحرك الكاميرا مع هذا الجندي، متسللًا في الشوارع والممرات الداخلية الهادئة، حتى يصل إلى شاطئ دنكيرك، ليكتشف أن عددًا ضخمًا من الجنود الإنجليز والفرنسيين يتم إجلاؤهم عن هذا الشاطئ.

يستند الفيلم إلى معركة شهيرة حدثت في فرنسا، في مايو عام 1940، تحديدًا في مدينة دنكيرك الساحلية غرب فرنسا. كانت قوات الحلفاء قد تلقت هزائم شديدة، ودام حصار المدينة طويلاً، ما اضطر قيادة قوات الحلفاء إلى إجلاء 400 ألف جندي من على ساحلها عبر القنال الإنجليزية. استمر الإجلاء عدة أيام، وكانت نتيجته مقتل 40 ألف جندي. وفي 10 مايو أصبح ونستون تشرشل رئيسًا لوزراء بريطانيا، وبقوة خطاباته ولباقته، استطاع أن يجعل الصيادين وأصحاب المراكب الصغيرة ينتقلون من الساحل الشرقي لبريطانيا، عبر القنال الإنجليزية، باتجاه المعركة، للمشاركة في عملية الإجلاء من دنكيرك.

يتحرك سيناريو الفيلم في ثلاثة خطوط درامية، راصدًا مجموعة متنوعة من حالات الرُهاب أصابت بعض الجنود من أهوال الحرب. أولاً: على البر؛ الجندي الإنجليزي الذي ظهر في المشهد الأول بعد أن انتقل إلى الشاطئ، في محاولة مستميتة للوصول إلى إحدى المدمرات التي تنقل الجنود إلى الضفة الشرقية للقنال الإنجليزية. ثانيًا: في الجو؛ تظهر ثلاثة مقاتلات «سبتيفاير» إنجليزية تحاول التصدي للطائرات الألمانية التي تقصف المدمرات والمركبات المائية قبل وفي أثناء وصولها للجسور الخشبية على شاطئ دنكيرك لنقل الجنود الإنجليز والفرنسيين وإجلاؤهم. أحد المشاهد المهمة في هذا الخط: عندما تصاب إحدى الطائرات، فيضطر قائدها إلى الهبوط على الماء، وفي محاولته الخروج من كابينته لا يستطيع فتحها، فتبدأ المياه تدريجيًّا في الدخول إليه. هنا رصد دقيق لحالة الرهاب من الأماكن المغلقة في أسوأ أشكالها. ثالثًا: في البحر؛ في مركب مدنيٍّ صغير خرج من أحد موانئ إنجلترا تجاه الساحل الفرنسي لنقل عدد من الجنود الإنجليز؛ رجل كبير وابنه وصديق ابنه يتحركون تجاه الساحل الفرنسي، وفي الطريق ينتشلون ضابطًا إنجليزيًّا من الماء، وهو في حالة نفسية سيئة، إذ ينفجر ثائرًا عندما يكتشف أنهم عائدون ثانية إلى أرض المعركة. قام بهذا الدور الممثل الأيرلندي سيليان ميرفي، الذي قام بالعديد من الأدوار في أفلام هوليودية، منها فيلم نولان «الرجل الوطواط»، لكن دوره الأكثر تميزًا كان في فيلم المخرج البريطاني الشهير كين لوتش «الريح التي تهز الشعير» الذي حصل به لوتش على السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2006.

الفيلم فيه القليل جدًا من الحوار. لم يهدف نولان، وهو كاتب السيناريو أيضًا، إلى خلق دراما من النوع التقليدي تعتمد على بناء الشخصيات وتحولاتها، بل حاول إعطاء صورة متكاملة وعميقة عن الحالة العامة المصاحبة لتلك العملية العسكرية الشهيرة، وذلك لتحقيق كشف أعمق حول ما يحدث للإنسان عمومًا وهو يواجه خطر الموت، في أجواء انهزامية، في حرب وحشية.

يبدو من الفيلم أن الإعداد للإخراج صادف الكثير من البحث للحصول على صورة متكاملة للإجلاء، لجعل الفيلم يتطابق بصريًّا بما رصدته كاميرا المصورين الصحفيين وقت الحرب، خصوصًا اللقطات البعيدة التي رصدت اصطفاف المجندين بعرض شاطئ المدينة الفرنسية، منتظرين وصول المدمرات والمراكب التي ستقلهم إلى الوطن.

ومن العناصر الأساسية في جماليات الفيلم بالإضافة إلى التصوير هو قيمة شريط الصوت الفنية من حيث خلط المؤثرات، مثل التفجيرات وإطلاق النار وهي أصوات قوية ومزعجة، بمؤثرات داخلية مثل نبضات القلب المتسارعة وصوت التنفس. وقد خلط مصمم شريط الصوت كل هذا بموسيقى خلفية لا تظهر كثيرًا. حتى يحتار المتفرج هل هذه مؤثرات انفجار بعيدة أم صوت داخلي للبطل أم أنها طبول. هذه الحالة دعمت الصورة فجعلت الكثير من المشاهد تتعدد فيها الأبعاد وتصبح الحالة أكثر عمقًا وإيحاءً.

 الأكثر أهمية أن الفيلم مدهش وصادم ولا يمكن توقعه؛ إنه الحالة التقنية الأبدع لنولان مخرجًا. من ناحية الفكرة لا يختلف أو يتفوق على الأفلام التي أخرجها سابقًا، في مساحات مختلفة بين الواقع والخيال العلمي. في المشهد الختامي يظهر الجندي الذي ظهر في بداية الفيلم، بعد عودته إلى إنجلترا وهو يقرأ خطابًا منشورًا في إحدى الصحف لتشرشل، يتحدث فيه عن الصمود والتصدي. لم يكن الفيلم يحتاج إلى هذه المباشرة، فالرسالة الأساسية التي ظهرت بوضوح داخل الفيلم كانت «البقاء حيًّا هو حالة الصمود المثلى».