قضايا

بسام مرتضى

فتح الله محروس.. النقابي المشاغب.. المناضل المثال

2021.12.01

 فتح الله محروس..  النقابي المشاغب.. المناضل المثال

 

"أحدق

لكن تلك الملامح ذات العذوبة

لا تنتمي الآن لي

والعيون التي تترقرق بالطيبة

الآن لا تنتمي لي

صرتُ عني غريبًا"

كان فتح الله محروس المناضل العمالي اليساري يحب هذا المقطع من قصيدة الجنوبي للزميل أمل دنقل "على حد وصفه"، ولكن لم يكن فتح الله محروس يملك صورة شخصية له وهو طفل، لا يملك ما يحدق فيه ليساعده على التذكر ونسج قصيدته، فهو لا يتذكر أنه كان طفلاً. كانت طفولته في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وقد بدأت وهو يعمل سايس حمار في مخمرة الطوب، مع والده رئيس العمال في أحد معسكرات الإنجليز الكبرى في "جناكليس" التابعة لمركز أبو المطامير البحيرة. كان فتح الله يتقاضى عشرة قروش كأجر، ويتقاضى الحمار خمسة عشر قرشًا. في العاشرة من عمره انتقل فتح الـله للعمل في حديد التسليح، وظل الحلم يراوده في أن يصبح يومًا عاملاً على "مكنة"، ماكينة في مكان مغلق ليس فيها أمطار وصقيع، بعيدًا عن أوحال الرصيف والمشقة الجسدية والاعتداء البدني. وظل بعدها طوال عمره وفيًّا لحلمه الذي تحقق عندما أصبح عاملاً في مصنع الطويل للغزل والنسيج.

في ٢٠١٤ كنا نجهز في شركتنا المستقلة الناشئة لصناعة الأفلام عددًا من مشاريع الأفلام التسجيلية الشخصية تحت عنوان "سيرة فيلم" تحكي سير ذاتية لشخصيات ظلت على الهامش في الرواية الرسمية رغم أثرها الكبير في المجال العام، كنا نسعى لتوثيق التاريخ البديل، فكان أول الأسماء المطروحة هو النقابي اليساري العامل فتح الله محروس. كلما اقتربنا من بداية صنع الفيلم كنت أزداد ارتباكًا، فكيف تصنع فيلم عن أحد معلمي الطفولة، كيف تداري انبهارك الطفولي به! كانت تجمعني بفتح الله علاقة قديمة منذ طفولتي، كانت زيارتنا العائلية للإسكندرية تعني أن يصحبني عم فتح الله في رحلة مشي عشوائية طويلة ننتقل من باكوس لبحري للحضرة لمحطة الرمل، رحلة طويلة من الحكي عن كل تفصيلة تخص المدينة الساحلية. كل قصة تخص مصانعها وعمالها، وشوارعها ومقاهيها الشعبية. لصناعة الأفلام بعد سلطوي وتراتبي مهما حاولت من مواجهته كما في المصانع، فكيف أستطيع إدارة فتح الله حكاء الطفولة أمام الكاميرا، كيف أوجِّهه وأخطط له. الأفضل لي أن أكتفي بدور الشركة الإنتاجي وأعيد التعرف علي فتح الله من خلال عيون زملائي، الشريكة المؤسسة قسمت السيد هي المنتج الفني والباحث والصحفي مصطفـي محيي سيقوم بالإعداد والبحث والمحاورة، وسيتولى زميلنا المخرج والسيناريست عمر خالد الإخراج.

سيبدأ عمر وباقي فريق التصوير رحلة المشي الطويلة مع فتح الله دون أي تأثيرات سابقة. تفتح الكاميرا داخل مصنع الغزل والنسيج، يتذكر معهم فتح الله الزميل عبد الرحيم عضو طليعة العمال في الأربعينيات، انبهر فتح الله المراهق بعبد الرحيم القادر على شرح علاقة الملك بالإنجليز بالحكومة بالدستور وربطها بعلاقة العمل بين صاحب المصنع وسلطته على العمال، كيف لعامل مثله يقف على الماكينة المجاورة، قليل التعليم مثله يعلم كل هذه المعلومات، عبد الرحيم أول من شرح له وجعله يحلم معه بـ "دولة العمال". لينضم فتح الله لطليعة العمال ويزامل هناك العامل عبد المقصود أبو زيد المشارك في أول إضراب عن الطعام للاعتراف بالنقابات العمالية في عام ١٩٣٩.

في ١٩٥٠ اشترك فتح الله للمرة الأولى وهو ابن الرابعة عشرة عام في إضراب احتجاجي للتضامن مع عمال الشركة العربية المفصولين، أجبرت الإدارة العمال على إعادة الماكينات للعمل، ودارت كل الماكينات ولكن فتح الله أصر على إغلاق ماكينته، فانطلق المصنع كله صفيرًا تضامنا مع القيادة العمالية الصغيرة التي ولدت في هذه اللحظة. "تعامل معي زملائي اليساريون على أني بطل ولكنني لم أكن أفهم ذلك وقتها" ولكنه أدرك أنها لحظة مفصلية في حياته، بعد أن وُصم بأنه عامل يساري. ولم يمض وقت طويل قبل أن يفصل للمرة الأولى من شركة الطويل بسبب الاشتراك وتنظيم الإضرابات التي تنادي بظروف عمل أفضل. فانتقل سرًّا للعمل في مصنع جديد بهوية جديدة، لا يخبر أحدًا فيها أنه كان عامل نسيج في شركة الطويل. عامل/طفل جديد منزوع من تاريخه قبل أن تتغير مصر كلها في يوليو ١٩٥٢. حينها شعر فتح الله وطليعة العمال، أنها حركة تغيير ضد الملك وضد الاستعمار وضد الفساد، وأصدروا بيانهم الأول، ولكنهم أنهوا البيان بالتحذير من أن تتحول الحركة إلى حكم ديكتاتوري. أيام قليلة مضت وفي أغسطس ١٩٥٢ انفجرت أحداث إضراب مصنع كفر الدوار. كان فتح الله يذهب لمصنعه صباحًا بشرق الإسكندرية، فيقابل عمال كفر الدوار قبل الانتقال للمصنع. ويتابع معهم يوميًّا في حواراتهم الصباحية ماذا يحدث، حتى حكى له العمال أن المحكمة العسكرية اجتمعت في حوش المصنع، وجمعت جميع العمال، وأصدرت حكمها بإعدام العاملين محمد مصطفى خميس "١٩ عامًا" ومحمد عبد الرحمن البقري "١٧ عامًا". تلاه إصدار قرارات من مجلس قيادة الثورة بإسناد مجلس عسكري يدير كل مصنع ومنع الإضرابات العمالية وتشكيل لجنة من عبد المنعم أمين رئيسًا، وعضوية سيد قطب لتطهير النقابات والمصانع من الشيوعية والشيوعيين.

في الذكرى الثانية لإعدام خميس والبقرى، لف فتح شوارع الإسكندرية بالدراجة يوزع منشور طليعة العمال، يذكر الناس بالحادثة ويصف للمرة الأولى نظام يوليو بالفاشية العسكرية. ليعتقل فتح الله للمرة الأولى في عمر ١٧ عامًا. وفقدت أسرة فتح الله كل الدخل المالي، أم وأربعة اخوة، وأسرة تعاني الجوع. وفي السجن اكتشف وضع الطبقة العالمة أكثر، وأن وضع السجين أفضل بكثير من وضع معيشة أغلب العمال خارج أسواره، فالطبقة العاملة غالبيتها شديدة الفقر، وأدركت معها الدولة هذا الشعور بالراحة الذي تسرب لقلوب الفقراء في السجن، فذاق فتح الله وزملاؤه للمرة الأولى التعذيب الممنهج والإذلال والحرمان من الطعام والزيارات. وبعد سنتين خرج فتح الله في السجن، فُصل من المصنع ومنع من العمل في غيره، فاضطر إلى العودة للعمالة غير المثبتة في وظائف أقل شأنًا وأكثر خطرًا أثرت بشكل كبير على صحته.. فقرر الانسحاب والانضمام للتجنيد. ثم عاد بعد نهاية مدة تجنيده عاملاً في شركة النيل للغزل والنسيج، عاد بوعد جديد أن يمنع نفسه هذه المرة عن السياسة وحقوق العمال، ولكنه لم يستطع أن يفي بوعده؛ ليشارك العمال في الاحتجاج على عمليات التخريب المتعمد من الإدارة للشركة وإهدار حقوق العمال، فنُقل للقاهرة للتأديب، وهناك استُدعي لحرب اليمن، وفي أثناء الحرب وبينما هو على الجبهة علم فتح الله بفصله من المصنع.

في السبعينيات، ومع ضرب الحرس القديم ومراكز القوى، نجح فتح الله في خوض معركة نقابية ليصبح عضوًا بنقابة شركة سباهي للغزل، لكنه حوصر برجال الدولة الجديدة في النقابة، "كان مجلس النقابة مكون من ٣ مستقلين و٨ مباحث". وقرر فتح الله التصعيد خارج المصنع، وأسس حركة عمال الغزل والنسيج في الإسكندرية، ليُعتقل من جديد في ١٩٧٣، ثم خرج وظل عضوًا فاعلاً في الحركة النقابية والعمالية والتنظيمات اليسارية في مصر حتى ما بعد ثورة يناير ٢٠١١، وصولاً لاشتراكه في تأسيس النقابات المستقلة.

 تاريخ طويل من معاودة المشاغبة والرفض والتنظيم والفصل والاعتقال والنضال والحلم. وكلما قرر فتح الله الانصياع التام للأوامر، والانعزال عن العمل العام ومحاولة البحث في الشخصي، وجد نفسه من جديد يرتمي في العام على أمل أن يحل له كل أسئلته وهواجسه الشخصية، وكلما قرر أن يبتعد عن المشاغبة، وجد أنه يبتعد أكثر عن نفسه كما عرفها، وعن هويته عن تاريخه. فظل رافضًا ومشاغبًا. فكيف يمكن لهذا المشاغب أن يستسلم لصناعة فيلم عنه.

تكشف لنا اللقطات الخام غير الممنتجة للفيلم، أن فتح الله كان مطيعًا، ملتزمًا بكل تعليمات عمر خالد مخرج الفيلم، يلتزم بالاتفاق على حركته عند نقطة بداية محددة ونقطة نهاية محددة. عن مدى نظرة عينيه، عن توجيه وجهه تجاه لمبة الإضاءة بشكل مائل. بدا فتح الله مستسلمًا ومستمتعًا. وفي عرض محدود بغرفة المونتاج للنسخة الأولية للفيلم حضر وبعض أصدقائه القدامى ورفاقه من أجيال مختلفة ليشاهدوا النسخة. وانزعج رفاق فتح الله الأصغر سنًّا منه والأكبر سنًّا من مخرج العمل من مشهد النهاية، الذي يقول فيها فتح الله بأنه يشعر بأنه صار غريبًا على هذا الزمن.. صار غريبًا! يبحث في وجوه العابرين في الشارع عن وجوه قديمة مألوفة فلا يجد. انزعج المشاهدون مما شعروا أنه مسحة اكتئابية أو انهزامية في حديث فتح اللـه الذي لم يعتادوا منه على ذلك، فليست تلك "حقيقة" فتح الله محروس، المناضل المثال. الذي لا ييأس، ولا يحزن، ولا يتوه. ليكشف لنا فتح اللـه أن ما ظنناه نحن استسلامًا في التصوير كان تمردًا جديدًا ومشاغبة جديدة عن صورته النمطية في عيون من عاصروه، مشاغبة أخيرة قبل رحيله، يعبر فيها بحرية عن حزنه وعن وحدته الشخصية.