رؤى
هشام أصلانفى الطريق إلى بيت سعيد الكفراوي
2021.01.01
فى الطريق إلى بيت سعيد الكفراوي
يوم استيقظت على خبر رحيل الكاتب الكبير سعيد الكفراوي، وفي الطريق القصير إلى منزله، مرت في الذهن أحداث كثيرة، على شريط يقترب عمره من أربعين عامًا. ومضات «فلاش باك» سريعة، راحت كل منها تفتح نافذة على مرحلة من مراحل الحياة.
يوم استيقظت على خبر رحيل الكاتب الكبير سعيد الكفراوي، وفي الطريق القصير إلى منزله، مرت في الذهن أحداث كثيرة، على شريط يقترب عمره من أربعين عامًا. ومضات «فلاش باك» سريعة، راحت كل منها تفتح نافذة على مرحلة من مراحل الحياة.
رأيتني طفلاً يلهو عصر يوم شتوي بجانب خيمة ليست كبيرة، جلس عند بوابتها بعض من رجال ونساء مصريين وعرب، وطاولات فوقها أكواب شاي وقهوة. في ذلك الوقت كان المقهى الثقافي في معرض القاهرة للكتاب لا يزال متخذًا الشكل التقليدي للمقهى البسيط، وكان مفهومًا أن تسمى خيمة الندوات التي بجانبه: خيمة المقهى الثقافي، قبل أن تمر السنين ويتحول المقهى إلى كافيتريا ضخمة مزدحمة بالرواد، ثم عدة كافتيريات تحمل أسماء مشهورة، فيما لم يعد معنى لاستمرار تسمية إحدى قاعات الندوات باسم «المقهى الثقافي». سأعرف في وعي لاحق، أنني كنت ألهو وسط مجموعة من أهم كتاب مصر والعالم العربي، تأتي الوجوه في غبش، ربما كان هناك محمد عفيفي مطر، وإبراهيم عبد المجيد، ومحمد برادة، لست متأكدًا أن كان من بينهم محيي الدين اللاذقاني، لكنني أتذكر جيدًا ما كان يرتديه أبي في تلك اللحظة، وأرى سعيد الكفراوي يروح ويأتي؛ يطمئن على أحوال الضيوف العرب، وينبه إلى ندوة صديق ستبدأ بعد قليل في إحدى القاعات بوجه جاد.
«كنا نحمل في وعينا حلم تغيير العالم. كانت هزيمة يونيو 67 قد حدثت. وكان بعض أفراد هذا الجيل قد تنبأوا بواقعها قبل أن تقع. كتب صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» ونشر أمل دنقل قصائد من ديوانه «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»، وأنجز محمد عفيفي مطر قصائد ديوانه «النهر يلبس الأقنعة». وكانت مجلة «جاليري 68» المنبر الذي واكب إبداع هذا الجيل؛ إذ قطعت على نفسها مهمة أن يكون لها شرف وضع لبنة متواضعة في صرح الوطن الاشتراكي الديموقراطي. ولقد أوفى هذا الجيل بالعهد، بإبداعه الذي شارك في خلق ذائقة جديدة واكبت رؤى الإبداع المصري الذي عاش حقب الزعماء وزمن المعتقلات والصلح مع العدو وصعود تيارات الإسلام السياسي ومشاريع الانفتاح الاقتصادي، ثم هجرة المصريين للخارج. وعبر ما حققته نصوص هذا الجيل، وما أبدعه من تخييل، سيظل علامة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية، وأخص بالذات القصة القصيرة، إذ لم يكن للرواية في ذلك الوقت مكان بين أبناء هذا الجيل. كلهم كانوا يكتبون القصة وينشرونها في المساء، وفي مجلة «المجلة» التي كان يتولاها الرائد العظيم يحيى حقي. كانت القصة في أوج ازدهارها. جيل بسماته ومنجزه وكتابه وزمنه، عارض وسجن وعشق الوطن».
نحو العاشرة مساء، إحدى ليالي يناير أوائل التسعينيات. المكان: أمام صالة الوصول في مطار القاهرة. عدد كبير من أفراد العائلة ينتظرون وصول طائرة آتية من لندن تقل أبي وأمي. الطائرة تأخرت، وأفراد العائلة بدأوا يتشككون في كونهم ينتظرون في المكان والموعد الصحيحين. وجد زوج عمتي حيلة؛ أخذ عمي في يده واقتربا من جمع يقف بالقرب، وقال بصوت عال: «يا أخي أنا نفسي في مرة أشوف الجدع اللي اسمه سعيد الكفراوي ده اللي أخوك إبراهيم بيجيب سيرته ليل نهار»، قبل أن يترك أحدهم الجمع ويذهب إليه: «أنا سعيد الكفراوي». وارتاح زوج عمتي إلى أنه وباقي أفراد العائلة يقفون في المكان والموعد المناسبين.
قبل هذه الواقعة بنحو الشهر ونصف الشهر، كانت ناحية من نواحي الحياة الثقافية تقف على أطراف أصابعها، بعدما قال الأطباء لأبي إن عليه تغيير خمسة شرايين، وهو ما يستوجب السفر إلى الخارج، حيث لم تكن الظروف في مصر ذاك الوقت تسمح بتغيير أكثر من شريانين. ذهب سعيد الكفراوي وجاء، ومعه أصدقاء، منهمكًا في تخليص أي إجراءات يستوجبها السفر للعلاج على نفقة الدولة التي وفرت إمكانية سفر مرافق مع المريض. لم توافق أمي قط على اقتراح أبي أن يرافقه صديقه في رحلة الجراحة والعلاج، حاول أبي إقناعها بأن وجود سعيد أكثر عملية من وجودها، ولكن دون جدوى. لم يرافق الكفراوي أبي، لكنه رافقنا، أخي وأنا، بالسؤال اليومي هنا في القاهرة.
«أنا ابن قرية قديمة، لم يعد موجودًا منها شيء إلا ما تحتفظ به الذاكرة، وأنا أستعين بتلك الذاكرة للكتابة عما فات. غايتي استعادة زمن تلك الحوادث وناس تلك الأيام. أنا وبعض من كتبوا عن القرية المصرية، مثل عبد الحكيم قاسم وخيري شلبي ومحمد مستجاب، حاولنا استنطاق تلك الذاكرة، كمن يريد الحفاظ عليها. ثمة صوت دائم أسمعه في الصحو والمنام، مثل صوت منشد في ذكر. صوت موغل في الزمن، لا يكفُّ عن ترديد ذلك النداء الخفي، وأنا لا أكف عن الإصغاء له، والغاية تثبيت زمن يضيع. أنا أكتب عبر عالم مثل هذا، يزخر ببشر لا يعرفون الغناء، يعيشون بين مساجد وأضرحة وأزمنة لا تنقضي. مكان مثل هذا، وزمان مثل هذا، وبشر مثل هؤلاء، في سعيهم لعيش حياة المصادفة، يحتاجون لكي تكتب عنهم، غرابة وفانتازيا وموروثًا شعبيًّا بطقوسه وسحره إلى كتابة ولغة تعتمد التركيز والشطح وجدة الإيقاع، إذ يتجسد إيقاع النص من غرابة عالمه».
كنت اقتربت من منزل سعيد الكفراوي عندما انتبهت إلى ناصية كان يجلس عندها أشهر بائع صحف في حي المقطم. منذ فترة لم أره يجلس مكانه بفرشته. قابلت عم سعيد آتيًا من ناحيته في ظهيرة من يناير 2012، قال إنه خرج ليشتري عدد أخبار الأدب الذي خصصته هيئة التحرير عن أبي عقب رحيله، وحكى أنه شارك فيه بحكاية الكرسي الهزاز الذي كان أبي يجلس عليه عندما أغمض عينه للمرة الأخيرة: «فضل يشتكي لي إن الكرسي بعد ما جابه وحطه في الأوضة الضيقة، ماكانش فيه مساحة تسمح بإنه يتمرجح، وإنه بقى زي أي كرسي عادي، وكان مبسوط أوي لما عزل وراح شقة أوسع تسمح بمساحة لإن الكرسي يتهز وهو قاعد عليه. ماكملش أسبوعين، ومشي من الدنيا وهو قاعد عليه بيتفرج على التليفزيون».
عند مدخل بيت عم سعيد استدعيت، دُفعة واحدة، تفاصيل يوم رحيل أبي، حيث مداخل العمارات في المقطم تتشابه، وكنا نسكن الدور الأرضي المرتفع مثل سعيد الكفراوي، حيث السلالم القليلة إلى بوابة البيت تشهد حالة من التوتر، ومقاعد مرصوصة في المدخل للمعزين، وسعيد الذي يرقد في إحدى غرف الشقة، كان أول من دخل على أبي يوم رحيله، وساعد حارس العقار، رغم تقدمه في العمر، في نقل أبي من صالة الشقة إلى غرفة داخلية. ثم راح يأتي إلى البيت كل يومين أو ثلاث، ويحكي عن العلاقة الممتدة منذ الستينيات. ربما أنه كان الوحيد الذي يقص حكايات لم أعرفها عن أبي، حكايات الشباب والسفر المتكرر في رفقته وكوميديا مشتركة مع أغلب أدباء الجيل، من مصر أو من خارجها.
أخذتني السنتمتالية، وذهبت السطور في حكي أغلبه ذاتي، غير أن سعيد الكفراوي ليس فقط صديق الأسرة الموجود على خلفية أحداث حياتي، لكنه قطعًا واحد من كتاب الستينيات البارزين، ذلك الجيل الأدبي الأكثر أثرًا في الكتابة المصرية، بوصفه جيلاً حمل الهموم نفسها، فنيًّا وسياسيًّا، والإحباطات ذاتها. ويعني اسمه عددًا من الأعمال القصصية المعروفة، منها: «مدينة الموت الجميل» و»ستر العورة» و»دوائر من حنين» و»كُشك الموسيقى» و»يا قلب مين يشتريك» و»حكايات عن ناس طيبين»، فضلا عن مشروع أدبي شفاهي يعرفه كل من التقاه، من المحيط للخليج، يتمثل في حكايات شفاهية كان يقصها في اللقاءات والفاعليات والجلسات الخاصة، حتى بات لها مكان لافت في شوارع الثقافة العربية، ومقاهيها وحاناتها وقاعات ندواتها، يستدعيها الجميع بمجرد أن تأتي سيرة صاحبها، يتذكرونها ويتلونها على بعضهم البعض، محاولين تقليد صوته وتقمص أدائه، المرتبط به سحر الحكايات.
برحيل سعيد الكفراوي، انقطعت آخر شعرة حيّة ربطتنا بالذين رحلوا من صُناع أيامنا. كان وجوده يُشعرنا بأننا على صلة مع أحباء انتقلوا إلى العالم الآخر. كان حارس سيرتهم، وآخر روائحهم في الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) «الفقرتان اللتان جاءتا على لسان الكاتب الكبير سعيد الكفراوي، من حوار قديم أجراه معه كاتب المقال».