دراسات
عماد أبو صالحفيدريكو جارسيا لوركا.. عاشق العرب وصياد "الدويندي"
2019.06.01
فيدريكو جارسيا لوركا.. عاشق العرب وصياد "الدويندي"
"حينما دخلوا زنزانته وأخبروه بتنفيذ حكم الإعدام؛ كان غارقاً في نوم هادئ كطفل. تمطّى طويلاً وهو يتثاءب، شأن القطط والعشّاق”. هكذا يحكي جوزيه لويس دي فيلالونجا في روايته "هيجان" عن جريمة قتل فيدريكو جارسيا لوركا التي ظل النبش فيها محرّماً عقوداً طويلة.
يعتمد الكاتب على الوثائق السريّة وشهادات الشهود الذين عاصروا المأساة، ليقدّم رواية بسيطة وحنونة ومؤلمة، دون فذلكات فنيّة، والأهم من ذلك كله أنه يقدّم لوركا إنساناً يرتعد من الخوف، لا هو مقاوم ولا بطل.
في كلماته القليلة مع الحارس، كان لوركا مهتمّاً بمعرفة مكان إعدامه: «أحب أن لا يحدث ذلك في المقبرة. ليست المقابر ليموت الناس فيها. إنها فقط للصمت والغيوم والأزهار». كان يتمنّى أيضاً أن يعدموه في ليلة مظلمة: «لا أحب الموت على مرأى من القمر. كتبتُ الكثير عنه في قصائدي، وأن أموت على مرأى منه فسأشعر بأن أفضل أصدقائي قد خانني».
منتصف ليلة التاسع من أغسطس سنة 1936 اقتاده القتلة إلى إحدى الخرائب وقالوا له: «اركض». يقول الجنرال منفّذ عملية العار هذه: «استأنف الركض وذراعاه تهتزّان ورأسه يتداعى كأنه تمثال لا حياة فيه.. وأصدرتُ أوامري: نار.. أطلق الرجال في ظهره، فسقط هامداً مثل أرنب».
■ ■ ■
يطلع لوركا من الموت مع كل طلعة شمس. يوماً وراء يوم، تتّسع دائرة قرّائه ونقّاده ومترجميه وأصدقائه ومحبّيه في كل بقاع العالم. ألأنه شاعر؟ لا، لأنه لم يكن أي شاعر. استطاع لوركا في سنوات عمره الخاطفة، أن يتّحد بالحياة، إذ لم يكن مجرّد جسد خرقه الرصاص وتحلّل تحت التراب كأي جثّة في ميتة مجانيّة. كان روحاً تحتشد فيها الأزهار والفراشات والحب والألم والفرح والحزن والغناء والرقص والحيوانات والبشر. كانت هناك مساحة خاصّة في ساحة روحه الرحبة للمنبوذين والمهمّشين وعلى رأسهم السود والغجر، هو ابن العائلة الثريّة الذي لم يُنسه ترف النعمة عضّة الفقر والقهر في أجساد وأرواح آخرين. «الشاعر مع الخاسر»، هذا ما كان يردّده دائماً، للتأكيد على انحيازه للمطرودين من بورصة الحياة.
في حوار أخير أجري معه يوم 9 فبراير 1936، قبل اغتياله بستّة أشهر، يوضّح استراتيجيّته الروحيّة والإبداعيّة كاملة: «أنا صديق الجميع، وكل ما أريده هو أن يكون الجميع قادرين على الأكل والعمل. سأظل دائماً إلى جانب من لا يملكون شيئاً، أولئك الذين ينكرون عليهم حتى سكينة الموت. نحن -وأعني بذلك المثقفّين من الطبقة المتوسّطة الغنيّة- مدعوّون لتقديم تضحيات. اليوم الذي يتم فيه القضاء على الجوع سيكون أكبر انفجار روحي يشهده العالم. لن نكون أبداً قادرين على تصوير البهجة التي ستندلع عندما تأتي الثورة العظمى. فكرة الفن للفن شيء سخيف. لم يعد أي شخص محترم يؤمن بعد الآن بكل هذا الهراء حول الفن النقي؛ الفن من أجل الفن. في هذه المرحلة المثيرة من الزمن، يجب على الفنّان أن يضحك ويبكي مع الناس. يجب أن ندفن أنفسنا حتى الخصر في الوحل لمساعدة أولئك الذين يبحثون عن الزنابق. بالنسبة لي، لديّ حاجة حقيقيّة للتواصل مع الآخرين. هذا هو السبب في أنني طرقت أبواب المسرح، والسبب في تكريس كل ما أملك من مواهب”.
أحد أبرز وأعظم وجوه عبقريّة لوركا، هو أنه لم يعش الحياة بمعزل عن الموت. كان الاثنان ضفيرة واحدة يستحيل فكّها طوال سيرته الحياتيّة ومسيرته الشعريّة. الموت حاضر حتى في أقصى حالات البهجة. كأنّ الحياة والموت لا يكتمل أحدهما بدون الآخر.
في كتابه «يوميّات عبقري» يقول سلفادور دالي: «إن لوركا كان يتكلم عن موته خمس مرّات في اليوم على الأقل. كان لا يستطيع الذهاب إلى النوم ليلاً إلا إذا وضعته مجموعة منّا في السرير، وحتى في السرير كان يطيل الحديث عن الشعر الذي ينتهي غالباً بمناقشة الموت، خاصّة موته. كان يغنّي ويمثّل بحركاته كل ما يتحدّث عنه، وبشكل خاص حديثه عن موته. كان يقول: انظر، هكذا سأبدو حين أموت، ثم يرقص رقصة أفقيّة يعرض فيها حركة جسده أثناء الدفن، وانزلاق تابوته إلى القبر». رؤية كهذه عصمت لوركا من عيش الحياة كأنها فرصة واحدة لاقتناص الفرح أو اللذّة كما يتبدّى في أعمال شعراء آخرين، وجعلت من الموت كائناً «أليفاً» وصاحب بيت مقيم، لا مجرّد زائر غامض يخطف الأرواح في أوقات مباغتة.
■ ■ ■
لماذا نحب لوركا؟
أو، على الأصحّ، لماذا يتوجّب علينا -نحن العرب تحديداً- أن نحب لوركا؟
الجواب، ببساطة: لأنه يحبّنا. نعم يحبنا، والحب عزيز، خاصة في هذا الزمن الذي تستفحل فيه الكراهية، حتى لكأننا أنفسنا أصبحنا نكره أنفسنا أكثر مما يكرهنا غيرنا.
كان شديد الهوس بالثقافة العربيّة، رغم التاريخ الأسباني الطويل في محوها فور سقوط غرناطة. في كتابها «ذكرياتي» تقول شقيقته إيزابيل: «كان فيدريكو يرتدي ملابس عربيّة ويتنقّل بين السطوح مما يتسبّب في ذهول الجارات وخوفهنّ. إن ارتداء الملابس العربيّة كان يثير عدم الارتياح بين الجيران، وكان العبور بين البيوت في إقليم الأندلس سهلاً، كما هو الحال أيضاً بين البيوت العربيّة، وكان فيدريكو يرتدي العمامة ويضع شارباً، ويتظاهر بأنه يتكلم العربيّة، ويقفز بين سطوح الجيران، فيتسبّب في ذهول جاراتنا ويصبن بالخوف، إلا أنه سرعان ما كان ينزع الزي العربي. في إحدى المرات أغمي على إحداهنّ وتم نقلها إلى المستشفى، ولا أزال أتذكّر الانتقادات التي كان يتلقّاها فيدريكو جرّاء هذه المُزحة، وكانت أمي وخالتي إيزابيل تضحكان حتى الموت عندما تتذكّران ما حدث».
ما ترويه إيزابيل لم يكن مجرد لعب طفولة ولا «شقاوة صبيان». كان إحساساً باكراً بتأثير الثقافة العربيّة الإسلاميّة في الوجدان الإسباني. يستمر هذا الولع بالحضارة الأندلسيّة منذ طفولة لوركا وحتى آخر حياته. هناك صورة نادرة يرتدي فيها جلباباً أبيض وعمامة عربيّة بيضاء، أهداها سنة 1925 إلى بيبين بيلو زميله في «بيت الطلبة» في مدريد، وكان في ذلك الوقت يبلغ 27 عاماً من عمره. في كتابه «غرناطة لوركا»، يقول إيان جيبسون إن لوركا زار منطقة «البشرات» جنوب غرناطة سنة 1926، ووجد هناك مجموعة من العرب، استطاعت الصمود في مواجهة الإبادة بعد سقوط الأندلس، واحتفظت بعاداتها ونقائها العرقي. كتب رسالة لشقيقه يقول له بفرح: «رأيت امرأة تشبه ملكة سبأ، تغربل الحنطة عن الذرة».
لم يتعامل لوركا مع الثقافة العربيّة الإسلاميّة في الأندلس على أنها فولكلور من زمن بائد. كان دائم النبش في جذورها وفكّ شيفراتها والفخر بها، باعتبارها شرطاً أساسيّاً لاكتمال أصالة روحه. ديوانه «ديوان التماريت» Diván del Tamarit الذي كتبه بين عامي 1931-1935 ونشر بعد رحيله بأربعة أعوام، لا يكتفي باستلهام روح الشعر العربي، وإنما يحتشد بالألفاظ العربيّة بدءاً من العنوان «ديوان» Diván ونهاية بتقسيم المحتوى إلى جزئين هما: «غزليّة» gacelas و«قصائد» casidas بنفس لفظها ومعناها في لغة العرب. كان يعتبر نفسه شاعراً أندلسيّاً. اعترف بانتمائه للشعر الأندلسي الكلاسيكي خلال محاضرة بعنوان «الأهميّة التراثيّة والفنيّة للأغنية الأندلسيّة»، ألقاها في غرناطة يوم 19 فبراير 1922: «عندما تصل أغانينا إلى أقصى درجات الألم والحب، فإنها تقترب جداً من القصائد الرائعة للشعراء العرب. الحقيقة أن السمات والملامح العربيّة لا تزال باقية في هواء قرطبة وغرناطة».
تؤكد فيليسيا هارديسون لوندري في كتابها عن حياة وشعر لوركا، أنه كان يؤمن بأن الروح العربيّة الحسيّة والصوفيّة التي ساهمت في ازدهار الثقافة الإسبانيّة، تم قمعها بسبب القيود الصارمة للكنيسة الكاثوليكيّة.
وتورد لوندري نصّ إجابته الصريحة والمباشرة عن سؤال في حواره الأخير حول رأيه في سقوط الحكم العربي في غرناطة عام 1492، قائلاً: «كان يوماً أسود، رغم أنهم يعلّموننا عكس ذلك في المدرسة. لقد فقدنا حضارة رائعة بما فيها من شعر وفلك وعمارة ورقّة لا مثيل لها في العالم، لتحلّ محلّها مدينة فقيرة قاحلة تزدحم بطالبي الصدقات، وتهيمن عليها أسوأ برجوازيّة في إسبانيا».
لا أشتطُّ مع من يشتطّون ويردّون لوركا إلى أصول عربيّة، مستشهدين بملامح وجهه التي تشبه ملامحنا، أو باسم قريته “فوينتي باكيروس» Fuente Vaqueros التي يعتبرها البعض تحريفاً لأصل عربي هو «بحر البقر» على غرار اسم قرى كثيرة عربيّة أو مصريّة. بالعكس، أروع له ولنا أن يكون ابن لسان غريب وبلد غريب، ويحب أرواحنا، إذ ما أكثر شعرائنا الذين يتلذّذون بالجلد فينا.
■ ■ ■
لو كنت ترى أن لوركا مجرّد «شاعر غنائي»، فإنه يتوجّب عليك أن تراجع نفسك، لأنك تظلمه وتظلم نفسك. غنائيّته التي تخدعك في قطفة «أذن» أولى و«سماع» سطحي سريع، تخفي تحتها طبقات شعريّة مركبّة ومعقّدة وعميقة. لو كان صديق القمر في قصيدة، فستجده صديق الثور في أخرى، ولو كان ملتهماً للحياة في وقت، فستجده فريسة للموت في وقت آخر. إنه ليس «فتى غرناطة المدلل» ولا الرومانسي الهشّ، مثلما يحاول البعض «أرشفته» في خزانة صغيرة. محاضراته الفكريّة القليلة تضعنا أمام مثقف من عيار ثقيل، وتكشف عن انفتاح مدهش على الثقافة العالميّة الكلاسيكيّة والمعاصرة بشعرائها وفلاسفتها وفنّانيها وشهدائها وقدّيسيها، حتى أنك تحار لإحاطته بكل هذا الإرث الفكري الإنساني رغم عمره القصير.
زيارة لوركا إلى نيويورك سنة 1929 مثّلت علامة فارقة في رؤيته الشعريّة والفكريّة، ووضعت روحه أمام امتحانات قاسية. أهدتنا هذه الزيارة هدايا ثمينة، منها ديوانه «شاعر في نيويورك»، ومحاضرته الجارحة الفاضحة عن نيويورك ذاتها، ودُرّته الفاتنة «لعبة ونظريّة الدويندي» التي أرى أنها لا تحظى بقدر كاف من الاهتمام في الثقافة العربيّة، وفي أوساط الشعراء العرب على نحو خاص. ألقى لوركا محاضرة الدويندي لأوّل مرّة في بوينس أيرس بالأرجنتين سنة 1933، وصدرت ترجمات لها في لغات عديدة، إضافة إلى كتب كثيرة خصّصها أصحابها لمناقشتها، ومقالات ودراسات لا تزال تتوالى إلى اليوم، وتحاول فكّ أسرار جمالها الشرس والغامض والصعب.
ما هو الدويندي؟
الإجابة شبه مستحيلة. لوركا نفسه يقول إنه «قوّة غامضة يشعر بها الجميع ولا يفسّرها أي فيلسوف».
لكن باختصار مخلّ، يمكن أن نقول إن الدويندي هو جماليّة طوّرها لوركا لمكافحة التشديد المفرط على القيم الفنية التقليديّة؛ من خلال تقويض الأساليب التي بالغت في تقدير البراعة والشكل والبنية الكلاسيكيّة، بهدف جذب انتباه المتلقي إلى العاطفي والجسدي والحسّي في الأعمال الفنيّة.
تشير كلمة دويندي duende إلى روح الفولكلور في شبه الجزيرة الأيبيريّة، ومعناها الحرفي «شبح» أو«عفريت» في اللغة الإسبانيّة. كما يمكن فهمها على أنها «الكاريزما»، و«الروح»، و«الشيطان»، و«السحر». إنها طاقة يستحيل شرحها، تبثّ الروح في شيء عادي ليصبح شديد الخصوصيّة، وتتيح لأي شخص في أي مكان وزمان أن يفهمه. تُستخدم الكلمة بكثرة في موسيقى الفلامنكو، لكن يمكن أن نجدها في بقيّة الفنون للإشارة إلى قدرة الفنان الغامضة على جذب المتلقّي. إنها «الإثارة» التي تندلع من الداخل كاستجابة عاطفيّة، وتتجلّى في قشعريرة أو ضحك أو بكاء كردّ فعل جسدي لأداء فنّي فريد وخلّاق.
يأتي تطوير لوركا لمفهوم الدويندي ضمن اهتمامه بالفولكلور الإسباني وخاصة في الأندلس. لم يكن يكتفي بمجرد تجميع الأغاني والحكايات، أو الكتابة عن التقاليد المحليّة، وإنما كان يحفر في معناها العميق بغية دفعها للتواصل والاشتباك مع الاتجاهات الثقافيّة والفنيّة الحديثة، كحائط دفاع عن الروح ضد حمّى التصنيع والتسليع.
ويستلهم لوركا مفهوم الدويندي من مطربي الغجر الأندلسييّن الذين يتحدّون مقاييس البراعة بأصواتهم المتوتّرة في أغاني الفلامنكو. إنهم يسحبون روح الوحي إلى أماكنهم، ويخوضون صراعاً شرساً لانتزاع الدويندي من عرينه. كأنه ليس غناء بقدر ما هو كفاح من أجل البقاء، ومقاومة التذويب في ثقافة أكبر وأكثر قوّة.
يتألق الدويندي بكامل عنفوانه في الفلامنكو، لأنه فن مليء بالعاطفة والإشراق والاندفاع، ويتيح للموسيقى أن تتعانق مع الثقافة واللغة في اشتباك وثيق، من خلال العزف على الجيتار والغناء والهتاف والرقص والتصفيق بالأيدي. إنه نتاج أصيل للتفاعل الفريد بين الثقافات الأندلسيّة والإسلاميّة والغجريّة في جنوب إسبانيا قبل حوالي 800 عام.
ورغم أن الدويندي هو امتياز إسباني خاص، إلا أننا يمكن أن نعثر في بعض قرى أمريكا اللاتينيّة على حكايات عنه تشبه أساطير «الندّاهة» في القرى المصريّة، ويتركّز مغزاها حول السحر الذي يمارسه هذا الكائن الشرّير ضد البشر. تؤكّد الحكايات أن الدويندي لا يظهر إلا للنساء غير المتزوّجات؛ إمّا على الطرق الريفيّة النائية، أو عندما تكون المرأة وحدها في منزلها. هو شخص مستهتر ذو بشرة داكنة وقامة قصيرة جدّاً، يرتدي دائماً بذلة خضراء أنيقة وقبّعة كبيرة، ويغوي ضحاياه بالهدايا والمال لإقناعهنّ بالذهاب معه. لا يكفّ عن مطاردة الفتيات اللاتي يرفض إغواءاته، ويلقي الحجارة الصغيرة على نوافذ منازلهنّ في الليل. إذا لم تتعرّف الفتاة على دويندي وقبلت أي شيء يقدّمه لها، فسوف تقع في فخّ سحره الأسود، وتصبح صامتة معظم الوقت، مسلوبة العقل، وفي حالة ذهول. وتنصح الحكايات كل بنت يظهر لها دويندي، بأن تتصرّف بهدوء ولطف، وعندما يقدّم لها أموالاً أو هدايا، يجب عليها أن تطالبه بإحضار شيء مستحيل بهدف تعجيزه عن ملاحقتها، كأن تطلب سلّة مليئة بالماء من النهر. ولأنه من المستحيل ملء سلّة بالماء، فإن دويندي سيختفي بسبب الإحباط ولن يعود أبداً لإزعاجها.
■ ■ ■
في 21 أكتوبر سنة 2000 ألقى الفنان الأسترالي نيك كايف محاضرة حول طبيعة أغنية الحب، قال فيها: «حاول فيدريكو جارسيا لوركا في محاضرته الرائعة لعبة ونظريّة الدويندي، إلقاء بعض الضوء على الحزن الغريب وغير المبرّر الذي يعيش في قلب بعض الأعمال الفنيّة. موسيقى الروك المعاصرة، وهي المنطقة التي أعمل فيها، تبدو أقل ميلاً للشعور بالحزن الذي تحدّث عنه لوركا. بها إثارة غالباً، غضب أحياناً، لكن الحزن الحقيقي نادر. بوب ديلان عانى منه دائماً. ليونارد كوهين تميّز في التعامل معه. توم وايتس ونيل يانج يحاولان استدعاءه. يلاحق فان موريسون ككلب أسود دون أن يستطيع الهروب منه، ولا يكفّ عن مطاردة بولي هارفي. لكن بشكل عام يبدو أن الدويندي هشّ للغاية بحيث لا يستطيع الصمود أمام وحشيّة التكنولوجيا والسرعة المتزايدة لصناعة الموسيقى. لا يوجد مال في الحزن، ولا دولارات في الدويندي. يحتاج الحزن أو الدويندي إلى مساحة للتنفّس. الحزن يكره التسرّع».
ويضيف كايف: «لابد أن تحتوي جميع أغاني الحب على دويندي لأن أغنية الحب ليست سعيدة فعلاً. يجب عليها أن تعانق الألم. الأغاني التي تتحدّث عن الحب دون وجود ألم أو تنهّدات ليست أغنيات حب على الإطلاق، وإنما أغاني كراهية متنكّرة في صورة أغاني حب، ولا فائدة منها. هذه الأغاني تحرمنا من إنسانيتنا، من حقّنا الذي منحه الله لنا في أن نكون حزانى. أغنية الحب يجب أن يتردّد صداها مع الحزن. الكاتب الذي يرفض استكشاف المناطق القاتمة في القلب لن يكون قادراً على الكتابة بشكل مقنع عن الدهشة والسحر والفرح بالحب».
■ ■ ■
لا يقتصر الدويندي على الفنون التقليديّة، ويمكن أن يتجلّى في المباريات الرياضيّة مثلما يتألّق في حلبات مصارعة الثيران. يستشهد الكاتب دانيال فيداليس في مقالة بعنوان: «في البحث عن دويندي: قُبلة النار»، باللاعب كوبي براينت نجم فريق لوس أنجلوس ليكرز لكرة السلّة، والذي استيقظ «دوينديه» أو شيطانه فجأة في مباراة شهيرة عام 2016 لينقذ فريقه من هزيمة ثقيلة ويسجّل 60 نقطة في توقيت قاتل. كما يستشهد بمقولة لاعب كرة القدم الأسطوري راي لويس، الذي يبدو أنه كان يشير إلى دوينديه الخاص حين قال ذات مرّة: «هدفي أثناء التمرين هو الشعور بالألم، وهو نفس الشيء الذي أذيقه لخصومي».
ويرى أن الأعمال الفنيّة التي تعتمد على التجريب والصدمات استفادت من مزايا فنيّة كثيرة، يرجع معظمها إلى ظاهرة ما بعد الحداثة، لكن أصحابها يتوهّمون أن الدويندي يحضر في كل قطعة فن تجريبي، أو في معرض يعلن عن شيء غريب وبذيء. ويعتبر أن هذا النوع من الأعمال الفنيّة قصير النظر، و»دويندي خفيف»، مهووس بتحقيق السخرية الفوريّة أو الرضا الوقتي.
ويقول فيداليس إنه بحلول السبعينيّات، بدأت فرقة الروك الإنجليزية The Who بناء تراثها الفني مع أعمال مثل TommYوQuadrophenia، لكن أعضاءها ظلوا متمسّكين بنفس القوة الغاشمة ومصرّين على موقفهم الذي أقنعهم بتحطيم الآلات في كل حفل، موضّحاً أن بيتهوفن ظلّ طوال حياته المهنيّة متناغماً مع أسلافه الموسيقيّين، لكنه أظهر نقلة سامية صدمت وأثارت معاصريه. ويشدّد على أن الدويندي متجذّر في الإرادة، وأبعد من الأساطير. إنه يتعلّق بما حدث قبل الفنّ، ويبدأ بنفسه. هو شيء لديك أو ليس لديك، حتى لو ضربت رأسك في الحائط.
ووفقاُ لكريستوفر مورير، محرّر كتاب «في البحث عن دويندي»، يمكن فرز ما لا يقل عن أربعة عناصر في رؤية لوركا للدويندي: اللاعقلانيّة، والأرضيّة، والوعي بالموت، والاندفاع الشيطاني. الدويندي يجبر الفنّان على تجاوز حدود العقل، ويجرّه وجهاً لوجه أمام الموت من أجل فنّ لا يُنسى وتقشعرّ له الأبدان. إنه بديل للأسلوب، للبراعة، وللمعايير الكلاسيكيّة. وحين يحضر الدويندي في الصوت، فإن المغنّي لا يغنّي. الموت هو الذي يغنّي، بحيث نشعر مع الأغنية ببريق السكيّن، ونشمّ الدم.
■ ■ ■
على عكس ربّة الشعر أو الملاك، الذي يوجد كل منهما خلف أو فوق الشاعر، ينام الدويندي في الأعماق، منتظراً من الشاعر أن يوقظه ليبدأ المصارعة، وغالباً ما تكون المعركة على الحافّة، وباهظة التكاليف. القصائد الممسوسة بالدويندي ليست كلمات يقوم الشاعر بإنشائها حتى يكون القارئ سعيداً أو معجباً أو راضياً. إنها انخراط في نضال محفوف بالمخاطر حتى نعيش أنفسنا الحقيقيّة. هذا الكفاح لا يقتصر فقط على كتابة قصائد رائعة الصياغة ومثيرة للدهشة، بقدر ما تبقى على قيد الحياة في عالمين في وقت واحد: العالم الذي نراه ونعيشه، وعالم الحقيقة القاسية وخيبة الأمل. العالم الأخير هو الذي يهمّ أكثر. إنه العالم الذي يتغلّب فيه الجنون على المنطق، ويتفوّق التهوّر على المهارة.
■ ■ ■
قل لي أيّها الشاعر، هل زارك دويندي؟
لو زارك مرّة، هنيئاً لك
لو أنك لا تزال تنتظره، فحاول أن تبقيه أطول مدّة ممكنة، حين يدقّ باب روحك بكل جبروته وإجرامه.
إنه مثل الموت، لا يكرّر زيارته مرّتين لجسد واحد.