مراجعات

رياض حمّادي

فيلم “أسرار رسمية”: الضمير في مواجهة المؤسسة

2020.01.01

المخرج: جافن هود 
سنة الإنتاج: 2019

فيلم “أسرار رسمية”:  الضمير في مواجهة المؤسسة

قد تظنُ أن لديك ضميرًا حيًّا، لكن الحقيقة أن الحياة لم تضعك أمام اختبار حقيقي للتأكد من ذلك. إن وجدتَ مبلغًا من المال وأنَّبك ضميرك وأعدته إلى صاحبه، فضميرك بلا شك حي. لكن الأمانة، وما إلى ذلك من أمور الحياة اليومية، الاختبار الحقيقي لمعرفة مدى يقظة ضميرك. الامتحان الحقيقي أن يوضع ضميرك بين خيارين: مصلحتك وسلامتك الشخصية أو المصلحة العامة، كأن تصمت عن قول الحقيقة كما يفعل أغلب الناس، أو أن تنشرها فتفقد حريتك وأعصابك ووظيفتك ومصداقيتك، وهذا ما اختبرته كاثرين -بطلة الفيلم الذي نتحدث عنه- خلال عام كامل من المعاناة.

ثمن الحقيقة

فيلم الدراما والسيرة الشخصية "أسرار رسمية" الذي عرض للمرة الأولى في أغسطس 2019، للمخرج جافن هود، مبني. على كتاب مارثيا ميتشيل وتوماس ميتشيل "الجاسوسة التي حاولت إيقاف الحرب: كاثرين جون والمؤامرة السرية لغزو العراق" The spy who tried to stop a war. وتدور أحداثه حول القصة الحقيقية لمُخبرة بريطانية سرَّبت مُذكرة سرية إلى وكالة الأمن القومي؛ تكشف عن تجسس غير قانوني مشترك بين الولايات المتحدة وبريطانيا ضد أعضاء مجلس الأمن، من أجل الضغط على الدول الأعضاء الأصغر حجمًا التي لم تقرر التصويت لصالح الحرب. وهو ما كان سيؤدي إلى دفع مجلس الأمن الدولي إلى المصادقة على غزو العراق عام 2003.

تعمل كاثرين؛ كيرا نايتلي، في وكالة الأمن القومي، وهي مؤسسة مهمتها التجسس على المكالمات والتعاون مع الحكومة بتزويد وزارة الخارجية ووزارة الدفاع وغيرها من الوزارات بكل ما من شأنه أن يهم المصلحة العامة ويحافظ على أمن المواطنين. إن مهمة كاثرين، عند هذه الحدود، تصب في خدمة الناس، لكن عندما تقع في يدها مذكرة بالعملية أعلاه تقع كاثرين في حيرة من أمرها. هل تُسرب المذكرة للصحافة، فتتهم بالخيانة وتُعرض حياتها ووظيفتها وزوجها وزملاءها للخطر؟ أم تصمت فتعيش مع الندم وتأنيب الضمير طول حياتها؟

الجاسوس والصحفي الاستقصائي

ينتصر ضمير كاثرين، فتقرر أخيرًا تسريب المذكرة للصحافة. كان ما فعلته كاثرين هو أنها ألقت بطرف الخيط إلى الصحافة؛ أما إثبات صحة ما سربته فمهمة ستتصدى لها الصحافة الاستقصائية ممثلة في هذه القضية بصحيفة أوبزرفر. والصحفي الاستقصائي ليس لقب سهل يناله المرء وهو جالس خلف شاشة كمبيوتر وينقر على لوحة مفاتيح. إن مهمة الصحفي الاستقصائي كما شاهدناه في قضايا شهيرة لا تختلف عن مهمة الجاسوس. عليه أن يسعى وراء المعلومة مُعرضًا حياته ومستقبل مهنته وصحيفته للخطر.

إن الحصول على المعلومة في حد ذاته قد يكون سهلاً، لكن إثبات صحتها أمر صعب، والأصعب يكمن في قرار النشر؛ فما أن يتم تأكيد صحة المعلومة حتى يبرز ضمير آخر، هو ضمير المحرر. تتحول المعلومة عند هذه النقطة من قصة يمكن أن تحقق النجاح الباهر إلى ورطة حقيقية. إن امتنع عن النشر سيُفوِّت على صحيفته وتاريخه الشخصي سبقًا صحفيًّا، خصوصًا وأن معلومة مثل هذه لن تقف كثيرًا في درج مكتبه وستجد طريقها إلى صحيفة أخرى. إن مستقبل الصحيفة على المحك لكن المصداقية تنتصر لصالح النشر في النهاية. وعلى الناشر والمُدقق اللغوي أن يكونا حذرين؛ فحرف واحد يمكن أن يقضي على سمعة الصحيفة ويدمرها. وهذا ما حدث (حرفيًّا) عندما قامت المراجِعة اللغوية باعتماد التصحيح التلقائي لكلمة أمريكية تعني شيئًا آخر في التهجئة البريطانية. وقد كان من شأن هذا الحرف أن وضع القصة في خانة التزييف، وهو مما دعا كبريات المحطات العالمية، مثل فوكس نيوز Fox News، وسي إن إن CNN، إلى إلغاء لقاءات مزمعة مع الصحفي مارتن برايت الذي كتب تفاصيل العملية.

نماذج من أضابير الصحافة الاستقصائية

تُذكرنا قصة هذا الفيلم بقصص حقيقية مماثلة حولت إلى أفلام؛ مثل فيلم "2015" Truth، وفيه يحاول فريق برنامج "60 دقيقة" على شبكة CBS إثبات صحة وثيقة تشير إلى أن الرئيس بوش الابن حظيَ بمعاملة خاصة في الجيش عندما كان برتبة ملازم في بداية السبعينيات. وفي فيلم "2015" Spotlight، ينجح فريق سبوتلايت في صحيفة بوسطن جلوب Boston Globe -أقدم وحدة صحافة استقصائية في الولايات المتحدة- في الكشف عن أكبر فضيحة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. ينجز الفريق تحقيقًا حول الاعتداءات الجنسية المرتكبة بحق الأطفال من قبل عدة قساوسة كاثوليك في أبرشية بوسطن، وهي الفضيحة التي أدت إلى استقالة الكاردينال برنارد لو. وتدور أحداث فيلم "2017" The Post ، في أوائل السبعينيات حول ما قامت به صحيفة واشنطن بوست من كشف لخداع الحكومة للشعب الأمريكي، حول حقيقة الوضع في فيتنام. ويتناول فيلم "مارك فليت - الرجل الذي أسقط البيت الأبيض" 2017، قصة مارك فليت -المدير المساعد لمكتب التحقيقات الفيدرالي- وتسريبه معلومات للصحفيَين بوب وودوارد وكارل بيرنشتاين، عن تجسس الرئيس ريتشارد نيكسون على الحزب الديموقراطي 1972، وهي المعلومات التي كانت وراء فضيحة "ووترجيت"، وأدت في نهاية الأمر إلى الإطاحة بنيسكون واتهام أكثر من 24 شخصًا في إدارته. 

تسريبات كاثرين جن ستذكرنا بتسريبات "إدوارد سنودن"؛ التي تحولت إلى فيلم يحمل اسمه عام 2016، ويتحدث عن الموظف في وكالة الأمن القومي إدوارد سنودن وتسريبه -لصحيفتي الجارديان وواشنطن بوست عام 2013 - آلاف الوثائق السرية عن تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على مواقع التواصل وعن استعمال الوكالة لبرنامج "بريزم" لجمع بيانات المستخدمين من مايكروسوفت وجوجل وفيسبوك وسكايب، وغيرها من الشركات الكبرى، والتجسس على دول أخرى، وعلى نحو 122 من زعماء العالم.

كما تذكرنا بتسريبات جوليان أسانج، عبر موقع ويكيليكس، وقصته التي تناولتها عدة أفلام، منها فيلمين وثائقيين: 2013-Mediastan، الذي يتحدث عن إرهاصات التسريبات، وفيلم2016-Risk ، الذي يتناول حياة أسانج من منظور مخرجة الأفلام الوثائقية لورا بويتراس. بالإضافة إلى أفلام دراما وثائقية، مثلUnderground: The Julian Assange Story ، ويدور حول حياة جوليان أسانج المبكرة، وفيلم The Fifth Estate ، الذي يستند إلى أحداث حقيقية تكشف خداع وفساد السلطة.

نزاع المصلحة الشخصية والمصلحة العامة

تتحول محاكمة كاثرين إلى محاكمة للحرب برمتها. وما فعلته كاثرين هنا، وما فعله آخرون في قضايا تسريب مماثلة، أمر لا علاقة له بالبطولة أو بالشجاعة أو بنيل الشهرة أو بتحقيق مكاسب شخصية، بل له علاقة بالضمير الحي وبالمصلحة العامة والإنسانية. كانت كاثرين تحاول إنقاذ مليون قتيل عراقي سيسقطون خلال أربعة أعوام من الحرب، وأعداد لا تحصى من الجرحى والمشردين، كانت تحاول إنقاذ أكثر من أربعة آلاف وستمئة جندي أمريكي وبريطاني لقوا مصرعهم في الحرب وأكثر من 37700 جريح. فشلت كاثرين في منع اندلاع الحرب، مثلما فشل عشرات آلاف المتظاهرين ضد الحرب، لكنها لم تفشل أمام ضميرها الذي سيصبح مثالاً يُحتذى.

يفتتح فيلم "أسرار رسمية" بمشهد قد يُعده البعض حرقًا للأحداث؛ إذ يبدأ القصة من نهايتها، وكاثرين تقف أمام القاضي بينما يتلو عليها تهمتها. ومع أن المُشاهد يعرف ما سيحدث إلا أنه لن يفقد شغف المتابعة بقلق وتوتر وشد أعصاب وهو أمر يصاحب كل ما ذكرته من أفلام أعلاه. ومع أن الفيلم بدأ بتقنية الاسترجاع وانتهى بمشهد الافتتاحية نفسه إلا أن نهاية الأحداث تحمل مفاجأة غير متوقعة لمن لا يعرف القصة مسبقًا من الصحافة.

محور قصة الفيلم وعمودها الفقري هو حرية الصحافة والضغوط التي تواجه عمل الصحفي الاستقصائي والصراعات التي يخوضها في سبيل نشر الحقيقة. ففي سياق هذه القضية كانت صحيفة الأوبزرفر موالية لحكومة توني بلير وتقف مع الحرب وبنشرها للمذكرة السرية تحرم نفسها من مصدر معلومات كان يخصها بها مكتب بلير.

ويشدد الفيلم، مثلما هو واضح، في الأفيش، على أنه "لا يوجد ما هو أخطر من الحقيقة!". ولا تكمن خطورة الحقيقة في أن نعرفها، ولكن فيما نفعله بها وتفعله بنا. 

"إن صوتًا واحدًا لا يكفي لوقف الحرب لكنه يكفي لإيقاظ الضمائر".

ظهر النجم ماثيو جود في الفيلم بدور قصير، وقام بدور زوج كاثرين، يسار جون -وهو من أصول كردية- الممثل من أصل فلسطيني آدم بكري. 

ويظهر في الأفيش وراء كيرا نايتلي المحامي بِن إمرسون «رالف فينس»، الذي سيتولى الدفاع عنها، والصحفي مارتن برايت «مات سميث»، الذي لن تنتهي مهمته بنشر المذكرة وسيتابع مجريات القضية ليحُول دون سجن كاثرين. نرى على أفيش الفيلم عينيّ كييرا نايتلي تُحدقان في المُشاهد بثبات وشجاعة. وهي شجاعة تعكس تمامًا ما قالته كاثرين الحقيقية بعد المحاكمة حين سألها أحد الصحفيين «هل أنت نادمة؟» فأجابت بالنفي، ولا تشعر بالندم ولو عاد بها الزمن إلى الوراء ستعيد الكَرَّة.