مراجعات

محمد خير

فيلم “Soul”.. هل "نضجت" ديزني؟

2021.03.01

فيلم  “Soul”..  هل "نضجت" ديزني؟

بضربة حظ هائلة، وبمساعدة من وراء هذا العالم، يتمكن "جو جاردنر"، مدرس الموسيقى المغمور بإحدى مدارس نيويورك، من أن يعزف بجوار أسطورة الجاز دوروثيا ويليامز، وكان ذلك حلمًا تصوَّر أنه لن يتمكن يومًا من تحقيقه. بعد انتهاء الحفلة، يتوقف "جو" (يقوم بأدائه الصوتي جيمي فوكس)، أمام باب النادي الليلي إلى جوار أسطورته دوروثيا (تقوم بأدائها الصوتي أنجيلا باسيت)، ويسألها: ماذا بعد؟ 

تجيب دوروثيا بأنهم سيأتون غدا للعزف مرة أخرى، في المكان نفسه، الحفلة نفسها، المعزوفات نفسها.

وهنا يكتشف جو - لصدمته - أنه لم يكن بشعر بالسعادة التي توقعها، لم يحلّق به الحلم الذي طارده طول حياته، هل خدعه شغفه؟ وماذا تكون الحياة إذن لو كان شغفنا نفسه مجرد خدعة؟

من الواضح أن تلك الأسئلة، وذلك التناول الذي يشكك في "الشغف" و"الحلم" نغمة غريبة على هوليوود عمومًا، وعلى أفلام ديزني خاصة، لا تبدو تلك الحيرة الوجودية مناسبة للأطفال الذين تتوجه إليهم عادة أفلام الرسوم المتحركة، التي يعد فيلم "روح - Soul" أحدث إنتاجاتها، والمرشح الأقوى لحصد جائزة الأوسكار المقبلة عنها، والتي ستكون الثالثة لمخرجه بيتي دوكتر بعد فيلميه "فوق - UP"( 2009) و"قلبًا وقالبًا - Inside Out"( 2015)، وكلاهما، كما فيلم Soul، إنتاج مشترك بين ستوديوهات ديزني العريقة، و"بيكسار" المختصة بإنتاج الرسوم المحركة حاسوبيًّا.

إن "الحلم الأمريكي"، الذي يمثل "روح" هذا البلد الهائل، لطالما تجسد بآلاف الأشكال عبر إنتاجات ستوديوهات هوليوود بأنواعها، انتصر الحلم مرارًا وانهزم مرارًا لكن لم يكن من محل للتشكيك في وجوده، وفي محوريته، وفي تعبيره عن الشخصية الأمريكية خصوصًا، والإنسانية عمومًا، حتى أشرار هوليوود طالما كان لهم أحلامهم، وبدا أن غياب الحلم أو التخلي عنه كأنه شيء غير إنساني، غير بشري، لا غير "بطولي" فحسب.

هكذا، فإنه حتى حين وقفت ميا دولان "إيما ستون" في الكوميديا الرومانسية الموسيقية "لالا لاند la la land" - التي حازت نصيب الأسد في جوائز أوسكار 2017- أمام حبيبها سباستيان ويلدر" رايان جوسلينج"، لتعلن أنها ستتوقف عن مطاردة حلمها في التمثيل، كان ذلك قرارًا نابعًا من قوة الحلم نفسه، لا رفضًا له، بل رفضًا للألم الذي تعيشه كلما تعرضت للرفض من المنتجين والمخرجين في تجارب الأداء، ومع ذلك فإن ألمها لم يكن نابعًا من عدم اقتناع الآخرين بموهبتها، بل من أن تفقد هي نفسها تلك القناعة، وسط بكاءها، عبَّرت "ميا" عن كابوسها الأكبر: 

"ربما أنا لست جيدة بما يكفي، لست بارعة بما يكفي، ربما أنا من أولئك الأشخاص الذين لطالما أرادوا تحقيق شيء، ولكن سيظل هذا حلمًا يستحيل تحقيقه، ولهذا الأفضل أن تغير أحلامك و"تنضج"، ربما أنا واحدة من أولئك الذين يجب أن ينضجوا، أن أجد شيئًا آخر لأفعله، كأن أعود إلى الجامعة".

هكذا كان "النضج" بالنسبة لميا، هو التخلي عن أحلامها تجنبًا لمزيد من الألم، ذلك التخلي الذي تسميه "تغيير" أحلامها، وفي الواقع، كانت ميا تستجيب لما اقترحه في وقت سابق من الفيلم، حبيبها سباستيان نفسه، الذي يشترك مع جو جاردنر بطل "Soul" في عزف الجاز والشغف به، لكن على عكس جاردنر في فيلم الرسوم المتحركة، لم يحصل سباستيان في "لالا لاند" على مساعدة خيالية ولم تسعفه ضربات الحظ، فقرر أن "ينضج" أيضًا، وأن يحصل على وظيفة ثابتة بدلاً من مطاردة شغفه، لكن يعرف كل من شاهد "لالا لاند"، الذي حقق إيرادات هائلة عكست شعبيته واتساع مشاهداته، أن تخلّي كل من ميا وسباستيان عن شغفهما كان مؤقتًا، صحيح أن علاقتهما لم تستمر أو لم تنجح، إلا أن هوليوود حافظت على تقاليدها في العنصر الأكثر أهمية عبر تاريخها: مطاردة حلمك هو الأمر الأهمّ، أهم حتى من حبيبك ومن عائلتك.

على العكس من العازف سباستيان في "لالا لاند"، فإن العازف "جو" في "Soul "، كان "خاضعًا" منذ البداية لوظيفته كمدرّس، تحت ضغط من أمه الخيّاطة ليبا جاردنر (أدت صوتها فيليسيا رشاد)، التي كان لها تجربة معيشية صعبة مع والد جو الراحل الذي كان بدوره عازفًا للجاز. كان باستطاعة والده أن "يطارد أحلامه"، لكن الحقيقة، أن محل الخياطة الخاص بالأم هو الذي كان يتكفل بمعظم نفقات الأسرة. بهذه الحقيقة تصدم الأم ابنها حين يكون في سبيله لرفض قرار المدرسة بمنحه وظيفة دائمة، بدوام كامل وتأمين طبي. كان قبوله الوظيفة، يعني البقاء في الفصل الدراسي للأبد. بعيدا عن الحياة الفنية والموسيقية. بينما رأت الأم، بناء على تجربتها القاسية مع الأب، أنها لا تريد لابنها أن يبقى كما هو؛ رجلاً في منتصف العمر لا يزال يمنحها ثيابه لتغسلها، إنها تخشى على مصيره بعد رحيلها.

لكن حينها تبدأ الدراما، فيتلقى "جو" مكالمة هاتفية مفاجئة من أحد تلاميذه السابقين، يخبره فيها بأنه يعمل الآن مع فرقة أسطورة الجاز دوروثيا ويليامز (وهي شخصية خيالية)، يهنئه "جو"، ويخبره أنه "مستعد للموت مقابل العزف مع دوروثيا". وهي عبارة ماكرة في حوار الفيلم (تأليف بيتي دوكتر وكيمب باروز ومايك جونز) سيتضح المكر فيها بعد قليل. فيجيبه التلميذ السابق بأن هذا يوم سعده؛ فالفرقة تحتاج لعازف بسبب غياب طارئ لأحد العازفين. إنها فرصة العمر تصل أخيرًا إلى "جو"، وكما هو طبع الحياة، سيكون عليه الاختيار بين "الحلم الذي يتحقق"، وبين الوظيفة الثابتة، المضمونة، التي عرضتها عليه المدرسة.

بعد حوار مؤثر مع والدته، تتعاطف الأم أخيرًا معه، تخرج له بذلة والده القديمة، تضبطها من أجله بمساعدة موظفات المحل، يرتديها وينطلق إلى بروفة العزف، وكما يمكن أن تتوقع، يتمكن ذلك الرجل "الذي يعيش من أجل الموسيقى" كما وصف نفسه، من إبهار الجميع في الفرقة بعزفه الخلاب، وعلى رأسهم دوروثيا ويليامز نفسها، التي تطلب منه الاستعداد للحفلة في الليل.

ينطلق "جو" سعيدًا في شوارع نيويورك، ها هي الحياة تبتسم له أخيرًا؛ لقد وجده حلمه، لقد أٌقنع أمه، وسيجعل والده فخورا به، وهنا، بالطبع، كما تقضي قواعد الدراما، ينشأ العائق أمام "البطل": يسقط "جو" في بالوعة مفتوحة، ويجد نفسه في العالم الآخر.

وجود سوريالي.. وعدمي

للوهلة الأولى، يبدو العالم الآخر أقرب إلى الصورة الدينية، فثمة كائنات شفافة هي الأرواح، تمشي على طريق طويل ممتد في الفراغ الكوني، يصل في نهايته إلى بقعة ضوء تقود إلى ما يسمى "ما بعد الحياة".

يبدو "جو" وسط تلك الكائنات النورانية الشفافة ذاهلاً، ثم مصدومًا حين يدرك أنه على طريق الأموات، إنه يرفض الموت؛ لا ليس الآن، ليس هكذا، ليس بعد أن حقق حلمه أو كاد. فيبدأ محاولة الفرار باحثًا عن طريق للعودة إلى الحياة، والأمر -بالطبع - ليس بهذه السهولة.

في محاولته للفرار، يصل "جو" إلى ما يسمى "ما قبل الحياة". إنه مكان، كما يبدو من اسمه، مخصص للبشر قبل أن يولدوا، للوهلة الأولى يبدو أشبه بملاعب للأطفال، حيث تمرح "الأرواح" الصغيرة هنا وهناك في مساحات شاسعة ومشرقة.

لكن هنا يبدأ العالم الآخر في الابتعاد عن اللمحة الدينية التي بدا عليها أولا، ويقترب من صورة شبه سريالية، فثمة كائنات لها أشكال هندسية غريبة "ترعى" تلك الأرواح الصغيرة التي لم تولد بعد، تلك الكائنات الراعية لها جميعا الاسم نفسه "جيري"، لكنها تستطيع تمييز بعضها البعض، وهي في رعايتها للأطفال تمنحهم "شخصياتهم" من قبل أن يولدوا!

يبدو ذلك عدميا بعض الشيء، جبريًّا، وقد يكون ملمحا آخر من "نضج" فيلم Soul. إن شخصياتنا، ذكائنا وطباعنا، عصبيتنا ومرحنا، تتحدد قبل أن نولد، في ذلك المكان المسمى "ما قبل الحياة". ربما كانت تلك إشارة فنية إلى جيناتنا. ولكن إذا كانت الكائنات "جيري" تتولى "تعبئة" شخصياتنا، فإننا على الأقل، في ذلك المكان "الما قبليّ" الغريب، نختار ما سيكون "شغفنا"، كلنا نختاره، عدا "الروح 22".

من بين مليارات الأرواح التي "غادرت إلى الأرض" عبر الزمن، يبدو واضحا من الرقم البسيط شبه الأولى "22" لتلك الروح ( تؤدي صوتها تينا فاي) ، أنها من أوائل الأرواح التي وُجدت في "ما قبل الحياة"، لقد بقيت هنا منذ آلاف السنين لأنها لا تستطيع بعد العثور على شغفها، "لا شيء يعجبها" إذا أردنا استعارة قصيدة محمود درويش الشهيرة، ومن ثم فهي محتجزة هناك، ولا يبدو أنها متحمسة جدًا للنزول إلى الأرض، لكنها ليست بتلك الكآبة التي يوحي بها ما سبق، في الواقع، إنها تتمتع بخفة ظل و"روح" سخرية حقيقية، و"شقاوة" غير عادية.

لكن محاولات هروب "جو" من الطريق المؤدي إلى "ما بعد الحياة"، تؤدي إلى سلسلة من الأخطاء، ومن تلك الأخطاء، أنه قد عُيِّن، بشكل ما، مرشدا للروح رقم 22، التي يعترف لها بحقيقته، وسرعان ما يصلان إلى اتفاق: سوف يساعدها في إنهاء "تعليمها" هنا والحصول على الشارة التي تؤهلها للنزول إلى الأرض لبدء الحياة، على أن تمنحه تلك الشارة لينزل بدلاً منها عائدًا إلى حياته، وتبقى هي في عالمها تمارس شقاوتها، بعيدًا عن الأرض التي لا تشعر بأي "شغف" نحوها.

الإنسان "العادي"

يصعب عدم ملاحظة أن "الروح 22" تمثل هنا ملايين البشر، إنها قد تكون إشارة إلى الإنسان "العادي"، ذلك الذي لم يولد وبداخله ذلك الشغف الحلمي الهائل تجاه شيء ما، لا يحمل على كتفيه "عبء" الحلم الكبير، إنه يريد أن يحيا "ببساطة"، ولا يريد أن تكون حياته "العادية" تلك شيئًا يدينه أو يشعره بالنقصان، إن الحياة تجربة تستحق أن تعاش، تستحق في حد ذاتها، من دون ربطها بفرسان الأفلام وأميرات ديزني.

هكذا يبدأ التأثير المتبادل بين "جو"، و"الروح "22. إنها تساعده بقوة وإخلاص على العودة إلى الأرض، مما يثير دهشته من إصرارها ذاك وهي التي تبدو غير مكترثة بشيء حتى بـ "حياتها" الخاصة التي لم تبدأ بعد. يسألها فتجيبه: إن حياتك على الأرض، كما حكيتها لي، بائسة جدًا ومثيرة للشفقة، فأريد أن أعرف ما الذي يدفعك إلى التمسك بها إلى هذا الحد؟

يرمي السيناريو/ الحوار هنا بذرة ستنمو حتى تصل إلى ذروتها في نهاية الفيلم؛ إن حياة "جو" (حياتنا) مهما كانت متواضعة، صعبة، مسكينة، إلا أنها تحمل قيمتها في ذاتها، في مجرد عيشها، في النهار والليل والنسيم والقمر والشوارع المزدحمة والأصدقاء والعائلة، إن في "قوة الحياة" ما يستطيع أن يثير فضول حتى "الروح 22" التي ترفض منذ آلاف السنين بدء مشوارها على الأرض.

ويسدد السيناريو ضربة أخرى إلى "الشغف" حين يصل كل من "جو" و"الروح "22 إلى "المنطقة"، وهي مكان يتوسط عالمي الأرض والأرواح، ويهيم فيه الفنانون والمتأملون في لحظة ممارسة فنونهم وتأملاتهم وجميع أشكال "شغفهم"، لكن فيها بقعة مظلمة، تسير فيها على غير هدى الأرواح التي تحول شغفها إلى "هوس"، فبقيت تطوف بلا جدوى محاولة إرضاء ما لن يشبع أبدًا.

تنجح مساعي "جو" في النزول إلى الأرض، وتقفز خلفه "الروح 22"، وبسبب التسرع نفسه تحلّ الروح الصغيرة الشقية في جسده المستلقي في غيبوبة بالمستشفى، بينما تحلّ روحه في جسد قطّة. هكذا سيكون علي "الروح 22" أن تحيا حياته، وأن يوجهها هو - عبر جسد القطة - إلى أن يجد حلا لمشكلته، وبينما تبدو الروح الشقية منبهرة بالعالم الجديد، مستمتعة بالملذات الصغيرة التي طالما تجاهلها "جو" في سبيل "حلمه" الكبير. يدفع السيناريو بـ تيري، المسؤول عن عدّ الأرواح في عالميّ "قبل وبعد الحياة"، إلى مطاردة "جو" و"الروح 22 " لاستعادتهما وإصلاح أخطاء هروبهما واختلاطهما، أو منعهما من "خداع الكون" على حد وصفه.

الشغف ليس شرطًا للعيش

في لوحات بصرية مدهشة، وعبر مطاردات خفيفة الظل، نرى نيويورك عبر عينيّ "جو" الذي تسكن جسده الآن "الروح 22"، نرى مرح المشاة، العائلات، الأوراق المتساقطة من أشجار الخريف تتخذ شكل الفراشات، الموسيقى والسيارات والباعة، تشعر الروح الصغيرة في جسد "جو" بحب لا تستطيع تفسيره تجاه كل ذلك، تقول إنها كانت تظن نفسها "ليست جيدة بما يكفي - يذكرنا ذلك مجددا بحوار إيما تومسون في لالا لاند - للوجود على الأرض، لكنها الآن تحب عيش كل ذلك"، تتذوق الأطعمة، تجمع التذكارات، توجه النصائح العاطفية إلى "جو"! والذي لا يصدق أنه يتلقى نصائح من روح لم تولد بعد. ترمي "الروح 22" جسدها - أي جسد جو- على الأرض، لتستمتع بالهواء المزغزغ الذي تبعثه فتحات التهوية في مترو نيويورك، وإلى جوارها "جو"، في جسد القط، يمشي بتحفظ مضحك، محاولا ممارسة "حكمته" عليها، بلا جدوى تقريبًا، إنها تحب أبسط الأشياء، حتى مجرد المشي، أو تأمل السماء، وغيرها مما يصفه "جو" بـ "الممارسات اليومية" محاولاً التقليل من شأنها.

وخوفا على جسده ورغبة في استعادته، يواصل "جو" - في جسد القطة - مجادلة "الروح 22"، يقول لها إنها تشعر بتلك السعادة فقط لأنها تعيش في جسده الآن، أما إذا عادت إلى عالم "ما قبل الحياة"، وواصلت تلقي محاضرات المرشدين، فستحصل على شرارة شغفها في النهاية. لكن "الروح 22" لا تقتنع، إنها تتلقى تلك المحاضرات منذ آلاف السنين بلا جدوى. وفيما بعد، تكتشف أن "شرارة الشغف" تلك لم تكن شرطًا لنزولها على الأرض، لقد استطاعت النزول أخيرًا لمجرد أنها أصبحت "ترغب في الحياة".

ويستعيد "جو" جسده في النهاية، ليتألق في حفلة أسطورته "دوروثي ويليامز"، فقط ليجد نفسه أمام حقيقة أنه لم يجد السعادة التي كان يتوقعها، وبدا أنه سيبدأ حياته من جديد في منتصف عمره، من دون أن يقوده الشغف الذي قصده طول حياته.

"كيف ستكون حياتك إذًا؟". تسأله جيري، إحدى كائنات العالم الآخر، فيجيب "لا أعرف، لكني أعرف أنني سوف أعيش كل دقيقة منها".