مراجعات

إسلام بركات

في أثر عنايات الزيات والمعنى

2020.01.01

عرض كتاب: في أثر عنايات الزيات
المؤلفة: إيمان مرسال
الناشر: الكتب خان، 2019

في أثر عنايات الزيات والمعنى

هناك نوع من الكتب لا يقدم لك إجابات واضحة، بل يقدم لك أسئلة تتولد عنها أسئلة أخرى؛ لتكون المحصلة عملية مستمرة من التساؤلات يكون الهدف النهائي منها الغوص فيما وراء الإجابات النموذجية التي تقدمها السلطة. والسلطة هنا ليس المقصود بها سلطة الدولة بشكلها المباشر، بل كل سلطة قد تقف عقبة أمام معرفة حرة للذات في البحث بين الفراغات المتعددة "العائلة والمدرسة والعمل والحب والوعي السياسي والزواج والطلاق، واﻷمومة، والكتابة، والنشر، واﻻكتئاب، والموت".

البداية كانت حين ""وقعت" إيمان مرسال على رواية "الحب والصمت" لعنايات الزيات؛ وجدتها في سور اﻷزبكية؛ لتقع في غرامها، والسبب كما تخبرنا إيمان عن نفسها "في عام 1993 لطالما سخرت مع أصدقائي في ذلك الوقت من وصف كتابة ما بالوعي، أو من مدح عمل أدبي لمجرد أنه يعكس الواقع، أو يدافع عن طبقة أو قضية أو وطن، وأكثر ما كنا نسخر منه كان الدفاع عن القيم السامية في الكتابات الرديئة" ولكن في ذلك الوقت كان احتفاء الكاتبة إيمان مرسال بما يمسَّها بشكل شخصي، وما يساعدها على أن تفهم نفسها، وعلى هذا اﻷساس جمعت اﻷعمال التي شكلتها في تلك المرحلة ما بين مقررات اﻷدب الرفيع المتفق عليه، والصيد العشوائي للأعمال التي على الهامش.

البحث عن المعنى

أتصور أن هناك سؤالاً مركزيًّا كان يُلح على إيمان مرسال، ووجدت ضالتها من خلال رحلة عنايات الزيات مع الكتابة والحياة والموت وهو "الرحلة الفردية للبحث عن المعنى" من خلال تتبع أثر عنايات الزيات، وهي أيضًا الفكرة الجوهرية في رواية "الحب والصمت"، إذ تبدأ رحلة بطلة الرواية نجلاء بموت اﻷخ هشام، ثم موت الحبيب الثوري أحمد الذي نضج وعيها السياسي على يديه. ليس مركز اﻷحداث هنا هو موت هؤلاء، بل البحث عن معنى ينير عتمة داخلها ضد موتها الداخلي اليومي، حيث يتحول كل حدث إلى رتابة وملل.

تفاصيل صغيرة في رحلة البحث عن المعنى 

لأن تتبع أثر عنايات الزيات كان الرحلة الأساسية لإيمان في الكتاب، يمكننا من خلال تتبع أثر التفاصيل الصغيرة في الكتاب رسم صورة قريبة للهدف من الرحلة، وهو معرفة معنى هدف عنايات وكذلك هدف إيمان، وعليه لم تترك تفصيلة صغيرة من التفاصيل التي عثرت عليها لعنايات إلا وتتبعتها، في رحلتها للبحث عن المقبرة التي دفنت فيها عنايات. تتأمل إيمان حال الأحياء الذين يعيشون وسط المقابر "حولي أحياء ينامون ويستيقظون ويأكلون ويتعاركون ويتكاثرون؛ مشهد قبيح ومؤذ، ومن الأفضل ألا يُرى، ولكنه بُرهان على إرادة الحياة في نفس الوقت". 

في تلك الليلة التي زارت فيها إيمان المقابر بحثًا عن أثر عنايات تحكي لنا عن مشاعرها "ليلتها طفوتُ في مكاني لساعات، بذلك الشعور العجيب بأنك مقطوع من الماضي ومن واقعك الشخصي، لست في نزهة ولا سفر، بل في رحلة إسراء ستنتهي بانتهاء الليل" من إرادة الحياة التي انهزمت أمامها عنايات الزيات.

تحكي نادية لطفي الصديقة الأقرب لعنايات عنها "كتير بفكر إيه الفرق بيني وبينها؟ إحنا فولة واتقسمت نصين.. بس الفولة لما اتقسمت، بتاعتها مقفولة، تجتر الأفكار والآلام.. أنا بقى أقول وأقول وأضحك أو أزعق". تلك الفولة التي انقسمت لنصفين جعلت إيمان تشعر بالقرب من عنايات، وتفكر في معنى الصداقة، وتقلُّب مزاج نادية لطفي "أحيانًا كنت أجد صعوبة في تخيُّل مثل هذه الصداقة، فلم أكن محظوظة لأعيش هذا النوع من القرب مع امرأة أخرى في حياتي. جعلني مزاجها المتقلب أحترمها أكثر، أنا لا أصدق الأفراد غير المزاجيين".

محاولة للهروب

تتزوج عنايات في التاسعة عشرة من عمرها وربما أقل، "تزوجت دون حب.. دون تفاهم.. دون انسجام" لم تفكر في شيء من هذا. كان هدفها أن تترك المدرسة "بكل تزمتها ومحدوديتها" هكذا تحكي عنايات عن نفسها في يومياتها، لكن المعنى الذي بحثت عنه من الزواج لم يكن كما تصورته، تقول نادية لطفي في حوارها مع مجلة المُصوَّر 16 مايو 1967 "نزلت إلى الحياة فصدمتها الحياة. وجدت الرجال غير الصورة التي عرفت عن أبيها الطيب، فهالها أن الدنيا غابة". أقامت عنايات دعوى لتطليقها حملت رقم 101 لسنة 1959، وتحكي في يومياتها عن أن الخلاص لم يكن في الزواج "ونسيت في غمار بحثها أن أحدًا لا يستطيع إنقاذها لأن عملية اﻹنقاذ تبدأ من داخلها هي. من إيجابيتها للأمور. وفجأة رأت المفتاح مفتاح الخلاص معلقًا في عنقها.. في نفسها.. في نفسها من الداخل. فقامت وفتحت الباب. وعلى عتبته استنشقت بملء رئتيها هواء الحياة.. وعبير الشباب ورائحة الربيع والحرية"، وحصلت عنايات على الطلاق بعد جولات في المحاكم وصراع مع قوانين بالية.

لكن ابنها بقي مُعلقًا بينها وبين أبيه، وهنا تبدأ معاناة أخرى تحكيها أختها السيدة عظيمة "لما الولد كان بيزور أبوه كان بيرجع مقلوب عليها وضدها، ساعات كان يقولها إنتي مش ماما، أنا شفته مرة بيناديها يا طنط، وكان بينادي زوجة أبوه ماما". من الممكن أن نعتبر هذا سببًا إضافيًّا لإعلان عنايات أن الحياة لم يعد لها معنى، لذلك تركت لوحيدها، عباس، رسالتها قبل اﻻنتحار "أحبك.. الحياة غير محتملة.. سامحني".

الكتابة والبحث عن معنى من خلالها

تتخيَّل إيمان مرسال أن الكتابة كانت هوية عنايات الوحيدة في بحثها عن معنى لحياتها في وقت كانت اﻷحلام القومية في قمة توهجها، وهو ما تؤكده "عظيمة" أخت عنايات في أحد لقاءاتها مع إيمان، حين سألتها عن بداية عنايات في الكتابة، وكانت الإجابة "في سن صغيرة ولكن كانت تكتب القصص باﻷلمانية، إذ كان تعليمها منذ الصغر بتلك اللغة"، وتعلل عظيمة نزوع عنايات إلى الكتابة منذ الصغر "كانت بتسأل كتير عن الحياة والموت، من وهي صغيرة"، وهو ما توضحه يوميات عنايات فعلاً؛ ففي نوفمبر 1962 تكتب "جمال تعس، حقل الموت صامت وأرض معدومة الحواس، والبرودة تسري في أجساد الورود، فالحياة تمضي وتلد الموت. قد شاهدت في اﻹسكندرية مشاهد عشتها بخيالي، من قبل وسمعت عبارات قديمة في أذني.. ورأيت ناسًا في ثياب أعرفها.. ولكن متى تمامًا.. لست أدري. هناك حاجز ذاب في ذاكرتي. فاختلطت الحياتان. ومع ذلك فأنا لا أعرف ماذا سيجئ به الغد. إذا شاء ترك جثتي الحية تقوم على صفحة الليل لتوصلني للغد، لصفحات أخرى قديمة. إنني أحس بانفصال عن الكل، وأنظر من نافذة عيني إلى الناس واﻷماكن من حولي، ولكني لا أتفاعل معهم. وفجأة أجدني قد انفصلت عن وجودي، وخرجت من داخلي، أتفرج وأسمع، وكأن ليس لي جسد جالس يتحرك ويعيش. أحس أنني قد عشت حياتي من قبل. فلماذا إذن أوجد من جديد! ونظرت إلى الباب مليًّا. وفتشت في ذاكرتي عن أثر لتلك الحياة التي عشتها، ولكن لم أجد إلا صورة الدرجات الحجرية فحسب. فاستدرت ونزلت أكمل رحلة مستقبلي القديم!".

حراس الجغرافيا والبيوت الخالية

في أثناء رحلة إيمان مرسال للتعرف على المكان الذي سكنت فيه عنايات الزيات، ذهبت ومعها اسم الشارع الذي تم تغييره، إلى ميدان المساحة في الدقي لتسأل البوابين عن المكان، وتكتب فقرة رائعة عنهم "البوابون حراس الجغرافيا، ينزحون من قرى صغيرة، ولا يقف أكل عيشهم على حراسة بناية وتنظيف سلالمها وتلبية طلبات سكانها فحسب، بل تسجل كل تفصيلة في الخريطة التي يتحركون فيها. كأن غرفهم الضيقة التي تكون عادة تحت مستوى الشارع، كاميرا خفية، تسجل كل ما يمر" لكنها في رحلة بحثها من خلالهم لا تعرف من خلالهم عن الشارع الذي كانت تسكن فيه عنايات ربما لأن اسم المكان تغير منذ فترة طويلة، ومن خلال الإنترنت تتوصل إلى "الهيئة المصرية العامة للمساحة"، وهناك تلتقي بموظف تقليدي تحكي أن ركام الملفات من أمامه وحوله ووضعه لنظارة سميكة يجعله "صورة طبق اﻷصل للموظف البيروقراطي في أفلام الثمانينيات" بعد الإجراءات البيروقراطية، التي مرت بسلاسة غير معتادة، تتعرف من خلال مكتب المسميات واستمارة تغيير المسميات أن شارع عبد الفتاح الزيني أصبح شارع الشربيني في عام 1964. 

في شارع عبد الفتاح الزيني، كانت عنايات تعيش في شقة بمفردها هي وابنها. وفي إطار مقابلات إيمان مع مجايلي عنايات والذين كانت تربطهم بها علاقة شخصية، كان اللقاء مع الكاتبة نِعم الباز والتي تصف شقة عنايات التي زارتها مرتين "استغربت أن شقتها فاضية تقريبًا، رغم إنها من أسرة غنية، كنتي تدخلي تلاقي سجادة جميلة عليها كرسيين بس وأوضة النوم فيها... وكانت عاملة أوضة لابنها، وسايبة واحدة فاضية خالص. المطبخ كان فيه بوتاجاز وتلاجة وعدة لعمل الشاي والقهوة بس. لما ضحكت وقلت لها إيه دا؟ قالت إنها طول حياتها كانت بتحلم ببيت فاضي كده. استنتيها تقول أي حاجة تانية ما فيش".

تتأمل إيمان حال بيت عنايات "لماذا كانت تحلم ببيت خالٍ مثلاً، فتنفخ كوة في جدار الضيافة الأرستقراطية الباردة".

المجابهة الطبقية

تحكي إيمان مرسال عن اللقاء الأول الذي جمعها بالسيدة عظيمة الزيات، عندما أخبرتها أنها هنا لثلاثة أسابيع فقط وأنها قبل قدومها لمصر كانت في رحلة مع ابنها مراد في باريس وسوف تقضي الصيف في أغسطس في كيب كادا! وهنا تتساءل إيمان لماذا أخبرتها بكل ذلك، ثم تتذكر زوجها "لو كان مايكل زوجي معي لضحكنا معًا على مشهد مجابهة الطبقات" وتتأمل انهيار صداقاتها وترجعه إلى "القناع الذي تحمي به البرجوازية المصرية بعض أفرادها؛ يظل الفرد قلقًا هشًّا، وربما حميميًّا حتى يشعر بتهديد ما، ساعتها يختار دون وعي أن يستعرض طبقته أو جدته التركية أو المكتبة الفرنسية في بيت أبيه. ربما لو كانت عنايات مثل هذه الشخصيات لكانت تحيا بيننا حتى اليوم. أنا أرتدي قناعًا كلما فاجأتني هشاشتي أمام هذه الطبقة. لقد أردت أن أقدم لمدام عظيمة حيثياتي؛ أنا أيضًا أسافر العالم، وأعمل في الجامعة، ووقتي ثمين".

ويأتي في سياق المشهد السابق نفسه تدمير يوميات عنايات الزيات في العام الذي توفيت فيه، فلم يبق منه إلا القليل جدًّا، لا يزيد عن 13 ورقة، وهو ما تفسره إيمان "لم يبق من حياة عنايات الشخصية إلا ما يبقى لأسرة محترمة بعد موت أحد أفرادها المحترمين". وتضيف في جزء آخر من الكتاب "إننا هنا لا بد وأن نتخيل سلطة امتداد سلطة العائلة على أحد أفرادها بعد موته؛ هناك العائلة البرجوازية المثقفة المحافظة والعائلة المؤدلجة، والعائلة المهلهة. اﻷولى تحرق اﻷرشيف. هذا ما حدث لأوراق عنايات بما فيها مُسوَّدة الرواية الثانية، كل ما بقي من يومياتها، نسائلها تلك المقاطع المجردة الوجودية المحلقة؛ إذ لا خوف منها على سمعة اﻷسرة ذات التاريخ والتقاليد". ولكن "عظيمة" ترى هذا الأمر بنظرة مختلفة "إنها يوميات شخصية ولا داعي لتقليب المواجع، ثم إنها كانت تكتب في نوتات كثيرة سوداء مثل التي في يدك". وهنا تسألها إيمان "والرسائل؟" لتجيب "لم نعرف أنها قد تهم أحدًا". تأملت مشاهد أخرى من الكتاب قد تندرج في هذا السياق أن المهتمين بالعمل الثقافي في سبيل تحويل ذاتهم إلى أبطال تراجيديين متعالين عما يحقق جماهيرية، فهم في مقابل استيائهم من "كهنة الأدب" بتعبير إيمان عن السلطة الثقافية التابعة للدولة يتحولون في الوقت ذاته وبشكل لا واعٍ إلى "كهنة التفرد اﻹبداعي"!

وبينما تحكي نادية لطفي لإيمان عن لجنة التمثيل التي اختبرتها، وكان أحد أعضائها شادي عبد السلام قالت نادية "اللي عمل لي بعد كده ديكورات الشقة دي"، لتسألها إيمان مندهشة "شادي عبد السلام بتاعنا؟!" فردت "لأ بتاعي أنا". وتضيف إيمان "وضحكنا". وعلى طرافة المشهد السابق إلا أنه كاشف عن أزمة من أزمات جيل التسعينيات الذي لا يتصور أن مخرجًا مبدعًا ليس له جماهيرية عريضة كشادي عبد السلام من الممكن أن تربطه صداقة بنجمة جماهيرية كنادية لطفي، أو ربما المعنى الكبير الذين يبحثون عنه ويجدون فيه الراحة أنهم مثقفون ليس لهم آباء، ولا مرفأ لهم سواء مع المجتمع أو سلطة مثقفي الدولة، وهم بذلك يصنعون المعنى من اللامعنى.

أسئلة حائرة 

"ما الذي أبحث عنه بالضبط؟ هل ألعب أم أهرب من حياتي بالبحث عن أي خيط يدلني على حياة امرأة كتبت رواية وماتت في شبابها؟ ألم أقرأ روايتها مرات. هل الرواية مهمة إلى درجة البحث عن صاحبتها. هل قرارها المبكر بالموت هو ما يشدني إليها أم احتمالات مستقبلها ككاتبة لم تتحقق؟". تناقش إيمان كذلك الذات في مقابل الجمعي مستعينة بمقال كتبه محمود أمين العالِم، ومقال آخر كتبته لطيفة الزيات، يتجادل العالِم مع قصور مفهوم الحرية الفردية، وكيف أن الذات لا تتحقق وحدها وإنما تتحقق باﻵخرين، وهو ما تتفق معه لطيفة الزيات عن أهمية الجماعة في حياة الفرد. وتشير إيمان إلى أن جيل لطيفة الزيات والعالِم يجمعه وعي سياسي واحد؛ وهو جيل ينتمي إلى جيل سابق عن عنايات، تختلف عنهم عنايات "لقد ظلت على الهامش حيَّة وميتة، كاتبة خارج سياق التبادل الثقافي، بلا آباء ولا أمهات ولا مجايلين، وظل من الصعب حتى بعد خمسين عامًا من نشر روايتها أن تجد لها جماعة". وعلى صعيد آخر يناقش الكتاب اﻷيديولوچيا التي تقف خلف تأسيس الأرشيف؛ فلم تجد أرشيف عنايات في أخبار اليوم. وتستعين إيمان مرسال بالصحفي محمد شعير لتفسير عدم وجود الأرشيف، فيخبرها أنه عندما سأل عن ملف عنايات أخبروه أنه كان هناك ملف باسمها، ويحمل رقم 42620، ولكن الملف نفسه تم التخلص منه منذ 10 سنوات بناءً على نصيحة خبير تطوير اﻷرشيف، الذي قال لمؤسسة أخبار اليوم "إن الملف الذي لا يضاف له قصاصة واحدة في آخر خمس سنين يبقى ملف ملهوش لازمة". تعلِّق إيمان على السلطة التي تقف خلف تأسيس اﻷرشيف "اﻷرشيف هو عمل الحضارة، رغبة في الحفاظ على التجاور والتعدد والتناقضات باعتبارها معًا ذاكرة جمعية. لكنه أيضًا لا يمكن أن يكون إلا انعكاسًا لوعي ثقافة ما بذاكرتها، في لحظات اﻻنحطاط العابرة، تتضاءل أهمية الذاكرة. يأتي خبير ليقيم ما هو مهم وما هو تافه من موقعه في هذه اللحظة المنحطة". تتفاعل إيمان مع هذه النقطة بحماس وتبحث لها عن مخرج، ربما تكون تلك اﻹجابة الوحيدة الواضحة في الكتاب على أزمة من اﻷزمات التي يحفل بها الكتاب وعلى سؤال من اﻷسئلة الكثيرة التي يثيرها، يمكن إرجاع ذلك لموقع مؤلفته الأكاديمي كأستاذ مساعد في اﻷدب العربي بإحدى جامعات كندا، وهنا ترى "ربما المخرج الوحيد من كل هذا هو تحركنا الفردي تجاه اﻷرشيف، لاكتشافه وحمايته من "الهالك" المؤسسي و"الوصاية العائلية" لا تعرف المؤسسة قيمة ما تملكه ولا ما يقبع في أوراق ملفاتها، وإذا حدث وعرفت، فهرمية التفكير التي تمتاز بها تجعلها مستعدة للتخلي عن من هم أقل حظًا أو بعد عن مشروعها. لا يجب أن تكون المؤسسة هي من تحدد لنا ما هو مهم وما هو غير مهم، لأنها ببساطة لا تتبنى أسئلتنا. أيضًا، ليست العائلة من توجهنا نحو كيفية فهم حياة أحد أفرادها طبقًا لتصورها عن الحياة".

موقع القارئ من أثر عنايات 

بعد تلك الرحلة التي أخذتنا فيها إيمان مرسال لتتبع أثر عنايات الزيات تبقى أسئلة كثيرة طُرحت في الكتاب مُعلقة بلا جواب، فهل يمكن إرجاع ذلك إلى أن الكتاب ينتمي إلى سلسلة "بلا ضفاف" التي أعلنت عنها دار الكتب خان في يوليو 2017، وهذا الكتاب هو الثالث منها، ووفق تعريف الدار "ستكون السلسلة بيتًا للنصوص التي يحار الناشرون عادة في تصنيفها وبالتالي في الترويج لها فيترددون كثيرًا في قبولها من الأصل" وهو ما حققه الكتاب بامتياز، إذ وقف على التخوم بين الكتابة اﻷكاديمية الجادة والكتابة اﻹبداعية الحرة، وبين التأملات الذاتية للمؤلفة والمقابلات الشفهية، وبين الحفر في سلطة النشر وسلطة اﻷرشيف، وسلطة العائلة وسلطة المجتمع. ولكن في النهاية يبقى السؤال: هل قدم لنا الكتاب تعريفًا بشخصية عنايات الزيات أم تركنا أمام أسئلة عن أنفسنا ككقراء في رحلتنا للبحث عن معنى للحياة، ولقراءتنا لكتاب كهذا في وقت لا يوجد فيه أحلام قومية كبرى، في وقت تتشظى فيه اﻷحلام، والواقع السياسي واﻻجتماعي يضغط بشدة ويلح في توجيه السؤال: ما المعنى من رواء كل هذه التحديات على المستويين الفردي والجمعي؟