رؤى
بسمة عبد العزيزفي مواجهة المأزق
2019.03.01
في مواجهة المأزق
تورَّط الرئيس الأمريكي الحالي في أكثر مِن أزمة منذ تولَّى مَنصبَه، وحذت حذوَه رئيسةُ الوزراء البريطانية، ومثلهما الرئيسُ الفرنسي. طالت الأولَ اتهاماتٌ مُتعددةٌ؛ لا يزال ينفيها ويتنصَّل منها، ونال مِن الثانية حرجٌ غير مَسبوق في سعيها لتمرير اتفاقية الخروج مِن الاتحاد الأوروبيّ؛ ولا تزال تبعاتُ الرفض المتتالي تؤرقها، والثالث قد وضعه أصحابُ السترات الصفر في موقف ضَعف؛ لا يُحسَد عليه. أعلن دونالد ترامب في أكثر مِن مناسبة أنه لا يكترث للهجوم الذي يتلقاه، وجاهدت تيريزا ماي لحفظ ماءِ وجهها مرة بعد مرة، بينما تراجع إيمانويل ماكرون وقدَّم بعضَ التنازُلات في مُواجهة الغضب المُتصاعِد.
لكُل أزمة وجوهٌ عِدَّة، وزوايا مُتباينة تُرى مِنها، وتبعات مَنظورة وأخرى لا يمكن توقُّعها. لكُلّ أزمة مُفرداتها الخاصة، والأمر نسبيٌّ بطبيعة الحال؛ فما يضير واحدًا قد لا يعبأ به ثانٍ، وما يقضُّ مَضجعَ شخصٍ، قد لا يترك أتفهَ الأثر على آخر؛ لكننا حين نَصِف أزمةً بكونها «مَأزِق»، فكأنما نصعد بها درجة، ونجعلها أكثر جِدّية وحِدة؛ بما لا يُبقيها أمرًا نسبيًّا وحسب، بل مَوقفًا عامًا ينشغل به الجميع.
الأَزَق في مَعاجم اللغة العربية هو الضِيق، ويُقال تأزَّق صدره أي ضاق، والمَأزِق هو المَوضِع الذي يقتَتِل فيه الناسُ ويتحاربون، وهو مَوطنُ الشِدَّة والضيقِ معًا، وللكلمةُ دلالةٌ مَعنويةٌ بارزة؛ إذ يُقال: مَأزِقُ العَيشِ، والمقصود ما تُثقِل به المعيشةُ على كاهلِ المرء، حين تستعصي شروطُها وتَستَحيل. المَأزِقُ كلمةٌ مُفرَدة، والجمع منها مآزِق؛ وكأن واحدَها يقصر عن الوفاء بتعقُّيدات الحياة وفِخَاخِها.
لا يلزمُ المرءَ في اللحظة الراهنة كثيرٌ مِن الذكاء والفِطنة؛ ليبصرَ التقلُّبات الكُبرى التي تجري على الأصعدةِ المَحليَّة والإقليمية والدَولية، وليدرك أن ثمَّة هزاتٍ عنيفة تعتري النظامَ العالميّ، فتضرب أركانَه ودعائمَه بغير هوادة، وتحطم أبنيةً كثيرةً طال بقاؤها. لا تلزم أيضًا بصيرةٌ ثاقبةٌ؛ كي يرى المُتابع عن قُرب أو حتى عن بُعد؛ أن الأوضاعَ التي صِرنا إليها جَمعًا، لمِن العمق والشدَّة والضيق؛ كي تستحقَّ لقبَ «المَأزِق» عن جدارة، وإذا شئنا الدقةَ وتحرينا الصدقَ، لاستخدمنا صيغةَ الجَمعِ، وجَمعَ الجَمعِ، برحابة صدر.
في الأشعار مُتسع لحلول سهلة، بسيطة الكُلفة، فثمَّة مُنقذ همام؛ يهب لانتشال المأزومين من عثراتهم، وإغاثة الملهوفين مِن ورطاتهم، وفيه يقول الشاعر: «شَهمٌ إذا ناديته في مَأزِق، لبَّاك مَاضيَ العزمِ والحسام». وعلى ذات المنوال تحتفظ المخيلة الجمعية بأساطير عدة، عن فارس مُستعد دومًا للانطلاق، يعرف كُلَّ شيء ويفهم كل شيء ويؤدي الأدوار جميعها، ويعلق عليه الناس أمنياتَهم مهمًا كانت مستحيلة؛ لكن القصائد والحكايات قد لا تترجم الحاضر في كثير الأحوال.
لا يُنكر ذو عقلٍ وحصافةٍ أنَّ الاحتقانَ يتولَّد في المُجتمَعات؛ أنّى يزداد الفقير فقرًا، والثريُّ غنى وجاهًا، وأنَّ الضيقَ والسخطَ يكونان؛ إذ تتوجه الأموالُ والثرواتُ إلى غير مُحتاجِها، وتتجاوزه عمدًا أو عماءً، أما المَأزِق؛ فيتبلوَر، ثم يكتَمِل ويستفحِل، حين يتجاهل مَن بيدِه الأمر استقرارَ البؤسِ، وتفاقُمَ العَوزِ، ونموَ براعمِ الاضطراب.
ثمَّة مَأزِقٌ ذو وجهين؛ مَأزِق الذات الحاكمة في مَرتبتها العليا، ومَأزِق الجماهير القابعة في المَراتِب الدنيا. أما الأول؛ فلا يُسفِر التطرق إليه خطابًا عن تبدُّل في الحال، أو تغيُّر في المَقام، وعلى هذا جرت العادة في ظلال بُنى سياسية مُصمَتة؛ عمادها صوتٌ واحد مُطلَق، لا يُسمَع غيره في الفضاء. وأما الجماهير؛ ففي استجاباتِها، وفِعلها ورد فعلها، وسُبُل تأقلُمها مع المُستجَد مِن الأوضاع حديثٌ يطول؛ تظهر الحاجةُ إليه كُلَّما استحكَمَت الشدةُ، واختلطت النوايا، وغامت الوعود، وغُمَّت على السائرين مَسالكُ النجاة.
لقد وقعنا في مأزق
حين يصطدم المرءُ بعقبة، يتصرف تلقائيًّا بما يُفترَض أن يكفُلَ له أفضلَ النتائج وأهونَ التبِعات، وبطبيعة الأحوال؛ لا يكُف البشر في كُلّ مَكانٍ وزمان، عن ابتداعِ طُرقٍ للتعامُل مع أزماتهم؛ أفرادًا وجماعات. ثمَّة حيلٌ تُمَارَس، وألاعيبٌ تُنسَج، ومُناوراتٌ شتَّى تُحاك، والهدفُ النهائيُّ جُملةَ وتفصيلًا، قد لا يتجاوز استمدادَ القُدرةَ على مُواصلة الحياة؛ بصورة مُرضية، وبالحد الأدنى مِن المُكدِرات.
تُسفِر الأزماتُ الخارجيةُ في العادة عن توليد صِراعٍ داخليّ مُؤرق، يبحث له صاحبُه حثيثًا عن حلّ، سواءً كان جِذريًا؛ ينتزع العِلَّة مِن مَكمَنِها انتزاعًا، أو سطحيًا؛ يُخفّف الأعراضَ ولا يعالج سببها. يختلف شَخصٌ عن آخر في القُدرة على التحمُّل، وينعكس هذا الاختلاف في اختيار وسائل التكيُّف مع الواقع، وفي انتقاءِ الحِيَل الدِفاعيةِ المُلائمة له؛ بسلبِها وإيجابِها.
الدفاعات التي يلجأ إليها الناس جميعًا؛ كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم، قد كشفها فرويد منذ عقود مُمتدة وأضاف إليها التالون صنوفًا شتَّى، إلى أن استقرت في مَراجع علم النفس جزءًا أصيلًا من مُكوناتنا، تحمينا مِن مشاعر التهديد والذنب والقلق. قليلُها نعيه ونمارسه بإرادة وقصدية، وكثيرها ينشأ دون وعي منا؛ ثم إذا بنا نرتكب سلوكًا مبنيًا عليه، قد يدهش له من يراه، وإذا جاز النظر إلى الحيل والآليات الدفاعية من زاوية سياسية واجتماعية؛ بمعزل عن التفسيرات النفسية، أمكَن أن نصنفها بين طيبٍ وخبيث. طيبها يساعد على التعايش مع الواقع بضمان الحد الأدنى من الكرامة والحقوق، وبقدر مقبول من المواءمات، وبمستويات غير منفلتة مِن الصراعات، وخبيثها يكرس الاستغلال والطغيان، ويوجد لهما التربة الخصبة للنمو والترعرع، والاستشراء.
الإحلال هو أحد أخطر الدفاعات. إذا كنت مقهورًا ولا تستطيع إزالة الظلم عن عاتقك بوسيلة آمنة، فعليك بقهر مَن هو أضعف منك –كهذا توعز الذات المنكودة لصاحبها- بما يُخفف مِن طاقة غضبك، ويشعرك بأنك قادر، قوي، وأن في حوزتك سوط وبيدك زمام؛ ولو أحطت به عنقَ عصفور، أو لففته حولَ جيدَ زهرة. تحفل الدراما عامةً، بلقطات لقوي مُستأسِد، يصفع آخرَ أقل مِنه قوة؛ فما يكون مِن المَصفوع إلا الاستدارة للأدنى منه في سلم القوة، ليناوله بدوره صفعةً مُمَاثلة، وقد يزيد عليها ركلة؛ بدلًا مِن ردّ الضربة لبادئها. يعيد الإحلال توجيهنا، بما يجعلنا ننتقم لأنفسنا؛ لا مِمَن قهرنا بل مِن آخرين أضعف منا، لا يمكنهم مبادلتنا العنف، ولا في استطاعتهم إيذاءنا.
يتخذ الإحلال صورًا مُتنوعة، الأشخاص المتضررون مِن سياسات الإصلاح الاقتصادي على سبيل المثال؛ قد يخرجون مشاعر الحنق فيما بينهم، ربما بالاعتداء على بعضهم البعض في اختناقات المرور، أو في طوابير الغذاء المدعوم، أو حتى بإلقاء أكوام القمامة في الشوارع وإغراقها بالبصاق؛ فهل يتأثر بهذا الفعل واضعو السياسات المُجحِفة، ومنفذو الإصلاحات المفقرة؟
التبرير؛ آلية مِن آليات الدفاع المألوفة، تقود النِقاش إلى شجارٍ في أقصر وقت. إذا لم يكُن بوسعك تقديم أدلة وشواهد تثبت صحة أفكارك، فما عليك إلا أن تلوي عنق الحقائق؛ بما يلائم قناعاتك ويدعم ما تريد تصديقه. في البدء قد تفعل هذا بكامل الوعي والإدراك والعمد؛ مرة واثنتين، وقد تراجع نفسك ويؤرقك فعلك، ثم تتدخل الذات المُتعبة مِن هذا الصراع لإنهائه، بما يجعل مَسلَكك عادةً تلقائيةً لا تستبصر حقيقتها. ستستمر في صناعة المبررات بدأب وإخلاص؛ كي تصل في النهاية لمرحلة تصديق أكاذيبك الخاصة حتى النخاع، والدفاع عنها بثقة وإيمان ثابتين، وسيؤدي إصرارك إلى إفقاد غريمك في الحوار صوابه. تصير بينكما قطيعة أو تنشب المعركة.
هل كان المدافعون عن جهاز عجيب؛ قيل إنه يلتقط من جسم المريض فيروسات عالية الخطورة، فيحولها لأنواع من الطعام، بتائهي العقل أو مدقعي الجهل؟ إنما هو التبرير في أزهى حُلَلِه؛ دفاع بائس لكنه مستميت، لإنقاذ الذات من ألمها وخذلانها، وامتصاص الهزيمة التي منيت بها، والأمثلة المُتشابهة في هذا الإطار عديدة.
التسامي؛ يُوصَف بأنه مِن الدفاعات البناءة، ويفترض العلماءُ أن تتحَوَّل المشاعر العدوانية بمقتضاه إلى عمل إيجابيّ. النموذج المدرسيّ المحفوظ، يصور استخلاص الطاقة من أحاسيس الغضب ورغبات التدمير، لتحقيق التفوق في لعبة رياضية، أو في أحد المجالات الفنية والفكرية؛ هي حيلة دفاعية أقل قسوة مِن سالفاتها، لا احتكاك فيها بالآخرين.
إذا كنت مغبونًا، تعِبًا، ومُستاءً، لك أن تدَّعي أمام الناس أنك لا تعبأ بحالك وبالغبن الواقع عليك، وأنك أسمى، وأعلى، وأنبل، وأرفع خلقًا مِن أن تعبأ، لعلَّ في ادعائك ما يقيك شرَّ شماتة مَن حولك، وما يشبع مُتطلبات كرامتك ويحفظ هيبتك؛ كهذا تزين الذات المُترفعة لصاحبها. الطعام شحيح وباهظ الثمن، واليد تعجز عن توفيره، لكن المتسامي لا يشكو، ولا يأسى أو يحنق، بل يحيل الموقف إلى ما تيسر مِن أفكارٍ إيجابية. ربما يؤكد أن السعي لإسكات حشرجات البطون ليس أهم شيء في الوجود؛ الجوع أصحّ وأرقى، التحكُّم في الشهوات مِن التديُّن، والترفُّع عن حاجات الجسد من الورع والتقوى؛ لا داعي للشبع فكثرة الأكل تورث المرض. قد يمارس المتسامي حِمية غذائية لضبط الوزن وتهذيب بنية الجسم، أو قد يغدو مثلًا أكثر روحانية، وأميل لمفاهيم التصوُّف.
في ظاهر الأمر، تتحول مشاعر العجز والقهر وقرصات الجوع، إلى صورة مثالية مُهذبة؛ لكن هل يناسب هذا النوع من الدفاعات المغرقة في المثالية أنماط البشر العاديين؟
الإنكار؛ حين يكون المأزق أعتى وأعمق مِن القُدرة على استيعابه، يصبح تجاهله واستكمال الحياة وكأنه عدم؛ أفضل الحلول الدفاعية وأنسبها. إذا أدركت أن الحدث أكبر منك، وأن اعترافك بوقوعه يُحتّم عليك اتخاذ مَوقف، وأن المَوقف له تبعات وخيمة، فلا داعي لصفقة متهورة؛ تتبع الذات الماكرة هذا النهج لمنع تفاقم الصراع بين الواجب الأخلاقي والخطر الوشيك. إذا أدركت في لحظة استنارة حمق اختيارك، وزيف مَن وضعت فيه ثقتك، ولم تتمكن من الاعتراف بسابق خطأك، فانكر المسألة كلها؛ انكر الأزمة، وانكر على نفسك شعورك بها، وأكد لمِن حولك أن الحال على ما يرام، وأن الأمور كلها بخير، وأنك بلا شك على صواب، وأنهم يبالغون.
كلما خرج المواطنون في بلد من البلدان إلى الشوارع ثائرين، لاذ الحكام بالإنكار، وتأخروا عن الحدث بخطوات، يعلو خلالها سقف المطالب وترتفع الأحلام؛ ومع ارتفاعها تتوهج حركة الجماهير، ويتعمق المَأزِق أكثر فأكثر، ويتعاظم الإنكار، وتنغلق الدائرة لتخنق مَن فيها. «خليهم يتسلوا». عبارة أدلى بها حاكم؛ فدلَّل عن غير قصد على عمائه، وعدم إدراكه المَأزِق الذي انتهى إليه حُكمُه. أنكر وتجاهل ما يجري مِن حوله، وحين سقطت دفاعاته واستبصر، كان الوقت قد فات.
التماهي؛ دفاع قاتم وثقيل الوزن. به تتخلص الذات المُرتعبة الحائرة من تهديد صريح، عبر إيهام صاحبها بروعة قاهره، وكمالِه وجدارتِه. إذا عجزت عن مواجهة سيدك وجلادك في آن، ونالتك منه صنوفُ المَهانة والعذاب؛ فجِد له العذر، ودافع عنه بإخلاص وحميَّة؛ تأمَن أذاه. حَدق جيدًا وصُمّ عقلَك، ترى مَحاسنه. اتبعه واصنع مثله، حاكي رداءه ومشيته، وكرر حركاته. لا تكفي المحاكاة الجسدية؛ اشعر بمشاعره، وانظر عبر بؤبؤيه، وانطق بلسانه. ذُب فيه وتماهى معه وكأنكما واحد؛ لعلَّه يرضى بعد حين ويعفو عنك، ولعلَّ صنيعك يُثمِر؛ فيقتنع آخرون برجاحةِ فِعلك، وعظمةِ قاهرِك، ويتماهون بدورهم معه، ليصبح الكيانُ أكبرَ وأكبر.
المُتماهون كُثر، والخوف مِن المُعتدي قد يدفعنا لأن نشبهه، ونتوحَّد به، ونتبنى أفكاره. قياسًا على مُتلازمة ستوكهولم، واعتمادًا على خصائصِ اضطراب كرب ما بعد الصدمة التي تُرى أحيانًا في زبائن المُعتقلات والسجون، فإن مِثل هذه العلاقة الشائكة بين نقيضين تلزم لنشوئها شروطٌ؛ في مقدمتها الانعزال عن المجتمع، بما يجعل الضحايا مُقيمين مع جلاديهم لفترة مِن الزمن، لا يُتاح فيها مَهربٌ، ويكون الأمر كما في القول المتداول مرارًا وتكرارًا؛ «أهرب منك إليك».
مِن الناس مَن يصل في تماهيه إلى مرتبة التمام المُنزَّه عن كُلّ نقص؛ فيعجب أولًا بالجلاد، ويتعاطف معه، ويهاجم مَن ينقده، ثم إذا به يسقط مُتدلهًا في حبه، وأخيرًا؛ يأخذ في مُمارسة أفاعيله عن قناعة خالصة، لا تشوبها شائبة.
هل نعيش أعراض ستوكهولم وكرب ما بعد الصدمة، بصورة جَمعِية مُوسَّعة؟ هل انتفى شرط العزلة المادية عن الآخرين، أم انطوينا كُلٌّ داخل نفسه، وفقدنا الإيمان بقدرتنا على انتشال أحدنا الآخر مِن المأزق، ومِن ثمّ اختار البعض منا على انفراد أن يقع في مَحبَّة الجلاد؛ مُتوحدًا به، زائدًا عنه؟ أتكون السلوكيات الدفاعية غير المفهومة منطقيًا، غير المقبولة قيميًّا، والتي نمارسها بعض الأحيان تجاه واقعنا المُهين، نِتاج شعورنا المُتزايد بالعزلة الجماعية، وبعدم وجود مَهرَب، وبقدرة الطاغية على سحقنا في أي وقت يشاء، وعليه فإننا نُعبّر عن امتناننا له، وانبهارنا بتفوقه ورقة حاشيته ورفعة أخلاقه؛ لأنه لم يمارس قدراته وصلاحياته، ويقضي علينا نهائيًا؟ في التماهي مُتسع للكثير.
الارتداد؛ إذا لاحت الضغوط أكبر مما يمكن تحمله، ثم طالت بأكثر مما يرجى لها؛ فالعودة لمرحلة عمرية سابقة، والتصرف كما الأطفال، أو أداء سلوكيات بدائية، قد يمثل مَهربًا مناسبًا؛ على هذا تحضُّ الذات قليلة النضج أصحابَها، فإذا استفحلت الأزمة وغدت مزمنة، واستعصى تخطيها، فأداء دور الصغير المحتاج لرعاية الكبار، وعنايتهم، وجذب اهتمامهم؛ دفاع قد يفلح في درء المخاوف والقلق العميق.
على كل حال؛ نستخدم مزيجًا من الدفاعات المتنوعة ليل نهار؛ لتلطف أوجاع العيش، ومغبات الصدام المخيف. صحيح أنّا لا نعي استغراقنا فيها، وتورطنا بها، كما لا ننتبه في العادة لنتائجها ووقعها؛ لكنها حين تتهاوى تحت وطأة القصف المُتلاحِق، تتركنا عراة في مَهبّ العاتي مِن الريح. لا تُعد هذه الدفاعات في مجملها بمنزلة حلول فعلية لمشكلات الحياة؛ إذ تُقعِد صاحبها عن التمرد على واقعه المؤسف، وتدفعه للتحمل والتأقلم، بل وقد تزين له المزيد، وعلى كل؛ فإن التعايش مع منغصات الحياة وصدماتها ومآزِقِها بصورة ما، لا يجب أن يستبعد محاولة السيطرة عليها، أما عن سُبُل التغيير الجِذريّ فموطنها الوعي دون سواه، حيث تقع المُواجهات الحرة؛ مُباشرة وصريحة، بلا تلاعب ولا تجميل، وحيث الهدف تجفيف منابع القهر ووصدها. ما يدركه الوعي ويصنعه ليس مِن فئة المستحيلات، ولا هو بند في قائمة المعجزات كما يصوره المحبطون، ولا أدل على الممكنات مما وقع في بلدان مجاورة، لا يزال زخم الحراك الثوري يكللها، ولا أبرز مما تجري وقائعه في بلدان أخرى، لا يفصلنا عنها سوى البحر.
الزُّقاقُ طريقٌ دون السِّكة، مَمَر يسير فيه الشخص بالكاد، لا تدخله العربات ولا تتسع مساحته للكثير، وما أكثر الأزقة التي ندخلها وننحشر فيها، ونكافح للخروج منها، وما كان حريٌّ بنا في البدء أن نلجها، أما وقد تكاثرت الورطات علينا؛ لا يتيسر التغاضي عنها، ولا يتأتى إنكارها والفرار منها، وأما وقد لاحت أنشوطة معقودة تستعد لإحكام الخناق على الممدود من الرقاب؛ فلا مفر من استدراك المحاولات واستئناف المناورات، وما من شك أن في معرفة الواقع، واستيعاب مفرداته؛ سُبُل الخلاص.