عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

مينا ناجي

في نشر الأدب و«الراب».. هذا ما فعله السوق!

2021.01.06

تصوير آخرون

في نشر الأدب و«الراب»..  هذا ما فعله السوق!

«كم تكسب من كتبك؟» يُطرح على السؤال من الأصدقاء والمعارف، أو من أشخاص أقابلهم للمرة الأولى ويعرفون معلومة أن لي كتبًا منشورة. في العادة، يعلنون بعدها، بفخر أحيانًا وبخجل أحيانًا، أن القراءة ليست جزءًا من روتين حياتهم. 

الظاهرة العامة لعدم ممارسة القراءة ومن ثَم قلة شراء الكتب في مصر، لا تشير فقط إلى ضعف الثقافة، بل أيضًا إلى أن الكتابة لا يمكن، إلا باستثناءات قليلة للغاية، أن تُصبِح «مهنة» لمُمارسها، ناهيك لكونها مربحة أو لا. يعرِف هذا كل من يشتغل بالأدب أو الثقافة. أتذكر دكتورة في كلية الفنون كانت تقيم ندوات تشكيلية في مكتبة مصر الجديدة العامة، طلبت مني أن أقدم نفسي، فقلت على سبيل السياق الفني إني كاتب، فبدا عليها الدهشة المستنكرة كأني أسخر منها. أتذكر ذلك وأشعر أني أفهم ردة فعلها قليلاً.

 سؤال «كم تكسب من كتبك؟» يكون غرضه غالبًا قياس سريع ومباشر لـ”حجمي” ككاتب، أو، قياس مدى ”جدوى” ما أفعله هاجرًا الهندسة التي تخرجت من كليتها، والجدوى طبعًا، هي حصرًا جدوى اقتصادية. ما يذكرني بنوفيلا “هيا نشتر شاعرًا” للروائي البرتغالي أفونسنو كروش، فبعدما يَفرغ كروش من النوفيلا التي رسالتها أن الشعر (والفن) لا يقيَّم بالمال، يكتب تذييلاً يناشد فيه المسؤولين الاهتمام بالأدب والثقافة ويُعلمهم أنهما مصدر دخل قومي ويرص لهم أرقام الربح السنوية!

لا يعني هذا أن الأدب لا يخضع لاقتصاديات تؤثر وتعيد تشكيل مجال ممارسته إنتاجًا وتلقيًّا، ففي السنوات الأخيرة، وبسبب الاستقرار الاقتصادي النسبي -إذا تغاضينا عن انتكاسة الوباء العام الماضي والمستمرة إلى الآن- حدثت تغيرات في مجال الأدب، وبيع الكتب عمومًا، يمكن تتبع جذورها في مرحلة سابقة مع بداية الألفية بتطُبيق سياسات سوقية، حيث فتحت دور نشر ومكتبات خاصة، لنشر وبيع الكتب، وصحفًا خاصة تتناولها بالعرض والنقد والإشارة، ومدونات شخصية تتفاعل معها، كونت بشكل أولي سوقًا للأدب والثقافة. 

أقارن هنا تغييرات مشهد الأدب التي حدثت مؤخرًا بدخول «السوق» عليه مرة أخرى، في حضور مهيمن لمواقع السوشيال ميديا هذه المرة، مع مشهد فني آخر هو مشهد موسيقى الراب، حيث كان التحول السوقي المتزامن أسرع وأقوى وأكثر اكتمالاً لأسباب تتعلق بسعة الانتشار وسهولة الإنتاج والاستهلاك ووضوح الأرقام والمؤشرات بجانب الاستفادة المادية والمعنوية المباشرة العائدة على الممارسين من مغنيين ومنتجين. 

مشهد الأدب

ظهرت مجددًا الملامح السوقية في مجال الأدب عبر ظواهر مختلفة: تضخُّم حجم الإصدارات السنوية وتنوعها النسبي؛ رسوخ أنواع وقوالب كتابية مُحددة (روايات تاريخية، رعب، صوفي رومانسي، إلخ..)؛ ازدياد الترجمات بالذات الروايات والتنمية الذاتية والسير الشخصية؛ التوسع في الجوائز الأدبية وفئاتها؛ دخول وسائط أخرى في مجال النشر مثل النشر الصوتي والرقمي؛ رجوع تقليد حفلات التوقيع بشكل واضح، والحضور المكثف لنوادي القراءة الافتراضية والواقعية.

مع ازدياد حجم سوق القراءة وبداية تأسيس ضوابط ما له، أصبح هناك حاجة أكبر للدور الوسيط، بين المُنتِج (الكاتب/الناشر) والمستهلك (القارئ)، هذا الدور الوسيط ليس فقط تسويقيًّا، بل أيضًا توجيهي، وكثيرًا ما يمتزج الدوران معًا. ففي عصر السوشيال ميديا تستعين الآن دور النشر بمسوقين رقميين و«إنفلونسرز» لترويج الإصدارات الجديدة بالكتابة عنها والإشارة إليها، هذا بجانب، وأحيانًا بدلاً من، الصحافيين الثقافيين التقليديين أو الكُتّاب المعروفين، الذين كانت ترسل إليهم نسخًا من الكتب ليكتبوا عنها. 

ظهر أيضًا دور وسيط جديد، اكتسح الشكل التقليدي للنقد الأدبي، سواء مقالات مكتوبة أو دراسات، وهو “البوكتيوببنج”، أي المراجعة المصوَّرة للكتب على موقع يوتيوب. وفي العادة يتعاون البوكتيوبر مع دور النشر في وظائف مختلفة تتعلق بالبيع والتسويق وأعمال تنسيقيّة وتنظيميّة أخرى. 

يقوم كل من الإنفلونسر والبوكتيوبرز بترشيحات توجيهية للقراءة، سواء بمراجعاتها أو الإعلان عن شرائه لها أو وصولها كهدية إليه في فيديوهات قصيرة زمنيًّا في العادة، أو كتابة منشورات عنها على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة في مجموعات القراءة على الفيسبوك. وسط سيل الكتب الصادرة حديثًا وقديمًا يلجأ القارئ (المستهلك) إلى هؤلاء الوسطاء، كي لا يتوه بين مئات العناوين المُعلن عنها، مُستعينًا أيضًا بالقوائم الطويلة والقصيرة والفائزة في المسابقات الأدبية، وقوائم الكتب الأكثر مبيعًا (التي لا تزال حتى الآن غير دقيقة ولا موثقة) لكي يضمن حصوله على أفضل المنتجات المطروحة. 

هناك إذن خريطة تبزغ بوضوح لفاعلي السوق: الجانب الإنتاجي - الكتَّاب والمترجمون مع دور النشر (ومستثمريها)؛ الحلقة الوسيطة - المسوقون والبوكتيوبرز على مواقع التواصل الاجتماعي، هيئات ولجان الجوائز، وبنسبة أقل مواقع القراءة المتخصصة مثل جودريدز؛ في النهاية بالطبع القوة الشرائيّة أو الجانب الاستهلاكي أي القراء. السؤال هنا هل هذه الخريطة لها جوانب إيجابية فقط، من انتشار عادة القراءة وانتظام قنواتها؟ هل لنا أن نفرح بدخول “سوق” للكتب أخيرًا إلى مصر والوطن العربي؟ 

***

تأخرت روايتي الثانية ثلاث سنوات بسبب تسويف الناشر السابق لها، وحين قررت الذهاب لمكان آخر وجدت شروطًا جديدة: المحتوى الجنسي واللغة الصريحة في الرواية مرفوضان، ليس فقط لأنها تؤثر في توزيع الرواية في مناطق معينة، بل كما عرفت لاحقًا يحدان كثيرًا من انتشارها بين جمهور المستهلكين الذي ينفرون من تخطي الحدود الحمراء. 

طُلب مني تسويق الرواية، بكل ما يستلزمه ذلك من أنشطة مصاحبة. نصحني صديق مثلاً بأن أوجد بشكل «شبه دائم» في معرض الكتاب وقت صدور الرواية. فقد أصبح الكاتب يحتاج بشكل واضح أن يخصص وقتًا ومجهودًا كي يسوق نفسه ولنفسه، ربما لغياب الدور الوسيط المخصص للوكيل الأدبي والمفترض أن يقوم بتلك المهام. أصبح على الكاتب أن يكون موجودًا طول الوقت (افتراضيًّا قبل أن يكون واقعيًا) كي لا يُنسى في زخم الأشياء التي تحدث بشكل سريع ومكثف، وأصبح عليه أكثر من أي وقت سابق أن يسير وفق خطوط حمراء تتشكَّل بحسب ما تسمح به ذائقة الجمهور التي بدأ عصر دخوله اللعبة الأدبية كفاعل أساسي له حق التصويت الأكبر. 

مطلب آخر أصبح مألوفًا الآن أن يُطلب من الكاتب، وهو تشكيل رواية تسير على مقاييس الأعمال الرابحة في الجوائز الأدبية الكبرى، وهو الأمر الذي اتضح سريعًا، مثله مثل ما يعجِب القرّاء، أنه غير متوقع ومتروك للمصادفة بلا معايير واضحة. ربما لأن السوق مازال في طور التشكُّل ولم يصل إلى ذروة رسوخه الكامل بعد. 

مع دخول السوق أيضًا انخفض نشر الشعر وكذلك الأعمال الفنية التجريبية، التي امتازت بهما فترة التسعينات وبداية الألفية في مصر. وأصبح التركيز على شخصية الكاتب وليست أعماله؛ إذا كان خفيف الدم أو له مواقف سياسية واجتماعية حدية، أو يجلب كل ما هو مثير وظريف وجديد لجمهور المتابعين. أما تسليط الضوء على الأعمال نفسها عبر الأدوار الوسيطة فأصبح له قواعد جديدة غير واضحة المعالم وتثير الانتقاد والشكوى، فكثافة التعليقات والمراجعات على الكتب على مواقع التواصل تثير الشكوك فيما قد قُرئ وما قد دبج الكلام عنه، والبوكتويبر، بجانب عمل مراجعاته المصورة، وهو نشاط مجاني غير ربحي يقدم فيه تفضيلاته الشخصية، يعمل أيضًا مقابل راتب كمسوق رقمي أو بائع أو منسق في دور النشر المختلفة ومكتبات البيع، مما يغيِّم الحدود بين ما هو تفضيل شخصي، وما هو مدفوع الأجر للإعلان عنه.

مشهد الراب

في البداية، كان كل مغني راب ينتج لنفسه بشكل مستقل عبر تقنيات منزلية بسيطة، أو يستعين بصديق له مُنتج Producer يعرف كيف يفعل هذا الأمر. يرفع أعماله على موقع ساوندكلاود، (لاحقًا على يوتيوب ويضاف إليها فيديو ليركال، أي الكلمات المُحرَّكة بشكل فني)، دون أن ينتظر ربحًا من هوايته تلك، بل يصرف عليها من جيبه. بطيئًا بدأ تشكّل جمهور صغير ونوعي، أنشأ صفحاته الخاصة على السوشيال ميديا ليتبادل التراكات والآراء والمعلومات، وبدأت أماكن عروض وحفلات غنائيّة صغيرة باستضافة الفنانين ليؤدوا أغانيهم بشكل حي، وذهب حينها مغنون الراب إلى ستوديوهات احترافية من أجل تطوير جودة إنتاجهم. 

ثم حدثت طفرة في الانتشار والاستماع حين خرج صوت جديد يمزج شكل الراب الحديث” التراب” Trap مع إيقاعات المهرجان الشعبيّة، بمصاحبة لغة أكثر شعبية مثيرة Exotic لباقي الطبقات المستمعة. زاد عدد المشتركين في الصفحات والمجموعات الخاصة بهؤلاء الفنانين ووصل عدد المشاهدات والاستماعات إلى الملايين، محققة “ترندات” على المواقع المختلفة. تكوّن إذًا بجانب الجمهور المخلص للراب، جمهور جديد أوسع لا يستمع حصريًّا إليه، سواء داخل مصر أو من البلاد العربية، مما أدى إلى تشكُّل ملامح سوق واضحة: ظهور قوالب محددة (تراب، أولد سكول، إلخ..)؛ دخول شركات إنتاج Labels ومنصات مثل سبوتيفاي لتبني إنتاج لفنانين وتسويقه مقابل نصيب من دخل الحفلات والمشاهدات؛ ارتفاع مستوى إنتاج الأغاني والفيديوهات المصورة وزيادة غزارتها؛ إقامة حفلات بشكل أكثر كثافة في أماكن أكبر (مثل الجريك كامبس والمنارة ودار المؤتمرات الجديدة إلخ..)، برعاة وتذاكر تدخل أجر مُعتبر لمغني الراب؛ ظهور وكلاء الأعمال الذين يدبرون الأمور الدعائية والمادية للرابرز؛ دخول أكبر للإناث في المجال كمغنيات للتراب؛ تعاون مع مطربين وفرق غنائية لهم شعبية كبيرة؛ الظهور في حملات دعاية وإعلان كبرى الشركات التجارية؛ تشكُّل خطاب نقدي من مواقع مثل معازف وبرامج المراجعات والأخبار على اليوتيوب والصفحات المتخصصة؛ تحويل مغني الراب إلى ماركة Branding بصفته نجم فني حتى وصل ويجز مثلاً أن يُنشئ ماركة ملابس باسمه. 

***

بدخول السوق فُرضت شروط ومتطلبات جديدة على المجال الصغير، عصفت بمن لم يقدر أن يواكب التغيرات الجديدة، ورحبت بمن تقبلها ومارس إنتاجه من خلالها، حتى الأسماء القديمة من الأجيال الأولى، الذين هجروا الغناء من أجل مصدر دخل ونمط حياة أكثر ثباتًا حيث لم يقدم لهم الراب دخلاً ماديًّا يمكنهم من الاستمرار في ممارسته وتطويره مثل أصله الغربي. من ضمن هؤلاء شاهين، حاذفًا من اسمه وصف العبقري، الذي كانت عودته أنجح بكثير (وربما الأنجح) من قرينه إم سي أمين مثلاً، الذي يقاوم تبني الشكل الفني الجديد مُصممًا على الظهور مرة أخرى بشكله القديم (رغم ابتعاده عن محظورات أخرى مثل التناول المباشر لموضوعات سياسية) ومن كوردي الذي أعتمد على سمعته القديمة وأداء شخصية الجانجستر (عضو العصابة) المتميز به. لكن في النهاية، كان على كل من هو موجود سابقًا أن يعيد اختراع نفسه وفق شروط ومتطلبات السوق الجديدة لكي يستمر وينجح.

***

هناك حادثان دالان يشترك فيهما النجم الأكثر شعبية حاليًا ويجز، يشهدان على لحظة تحولات دخول السوق إلى مشهد موسيقى الراب، الأول هو الخصومة بينه وبين محمود دينيو السكندري مثله. في فيديو لايف يظهر دينيو وهو يشعر بالخديعة والإحباط لأنه خرج من الفرز الجديد لصعود النجوم، بعد تألقه كمغني راب صغير السن حاد المحتوى. فالقطاعات الجديدة الوافدة على المشهد متصاعد الشعبية لم تستسغ محتواه العنيف ولغته الخارجة أغلب الوقت. 

في البداية مَوقع دينيو نفسه كفنان يغني من أجل “الجمهور الأصلي للراب” الذين لا يسمعون الشكل الجديد المُحدّث “التراب” بانعطافه التجاري في إنتاجات ويجز وأقرانه، لاعبًا دور مغني الراب الأصيل الذي ينتمي للمدرسة القديمة الفنية، قائل الحق وكاسر المحظورات الذي لا يخشى لومة راع أو مُعلِن. لكن الخصومة اتخذت بُعدًا طبقيًّا صُدم به دينيو، مواجهًا شروطًا جديدة في تقييم النجاح شخصية أكثر منها فنية، مثل ماذا يعمل وكم يملك وما يلبس وإذا كان يتعاطى المخدرات، باختصار قدرته أن يكون قدوة للمجتمع، وهو الدور الذي قام به بذكاء كبير ويجز وأبيوسف على سبيل المثال. استشاط دينيو غضبًا وتوعَّد وقتها بمزيد من الدِسات (الأغاني الهجومية) والعُنف، لكن ما حدث هو بالطبع فشل مسعاه في دحض غريمه. انسحب واعتزل الغناء وغاب لفترة كي يظهر مرة أخرى في إنتاجات أكثر قولبة بحسب متطلبات وشروط السوق، تراكات داخل الحدود على النمط الرائج تحت اسم فني جديد هو “ياقوت”.

الحادث الثاني هو سعي ويجز المسعور، وقتما أشتهر فجأة وارتفعت أسهمه السوقية، كي يمنع رفع، وبعدها حذف، فيديو معركته الغنائية في برنامج “راب أور داي”، لأنه كان يسب ويشتم فيه، مما سيضر ضررًا كبيرًا صورته الجديدة كفنان داخل الحدود التي أٌقامها السوق بشكل مفاجئ وسريع. ينجح ويجز في مسعاه على حساب خصومة كبيرة مع مجموعة “راب أور داي”، التي دخلت هي نفسها بعد ذلك في السوق لتتمأسس وتضع قواعد جديدة من ضمنها عدم التجاوز في الألفاظ أو السباب.

مواقف أخرى أيضًا تدل على هذا التوجه في إعادة الحسابات لتتكيف مع انتشار الراب (أو التراب بمعنى أدق) بين قطاعات أوسع، مثل اعتراض مروان بابلو في فيديو لايف شهير على نشر الأغنية التي سجلها مع المنتج مولوتوف، وتصريحه بشكل مباشر أنه كان ليصدرها دون الشتيمة التي حاول أن يبررها بأنه كان يرتجل الكلمات المُسجلة “فري ستايل”.

***

حاول النجوم الأكثر جماهيرية في الفرز الجديد مثل أبيوسف وويجز ومروان موسى وعفروتو الالتفاف حول هذا التنميط التجاري، ومحاولة استعادة صورة مغني الراب الأصيل والخشن الخارج عن الأعراف، والذي يعبر فعلاً عن حقيقة الحياة اليومية، في محاولة لجذب المستمعين القدامى وضخ الدم في المشهد الحالي البلاستيكي والمقولب بشكل واضح (النموذج الأقصى لهذا التنميط هو تراك لبوت (روبوت) يقلد المغني ترافس سكوت نجح في قوائم الاستماع بعنوان “كاني دوب مان” العام الماضي) فقاموا مؤخرًا بعمل دسات جماعية تنابذوا فيها بين بعضهم ومع آخرين. في أغلب الظن هذه المعركة الغنائية مُدبرة ومتفق عليها، لكن بأي حال يبدو هزالها واضحًا مقارنة مع المحتوى السابق على هذه المرحلة حتى منهم هم أنفسهم. فهم يحاولون فيها الظهور كمن يخرق قواعد السوق والتسويق ليفشي ما في قلبه، لكن لا أحد منهم خرق بالفعل الحدود المرسومة. إلا في بعض المواضع البسيطة وإيماءة العودة المحدودة والسريعة للشكل الأقدم والأقل شعبية للراب.

إذن؟

ظهور سوق للأدب كانت له فوائد مأسسة وترسيخ أعراف يُفترض فيها الوضوح، زادت بسببها عادة القراءة وشراء الكتب بشكل ملحوظ، وزاد حضور القرّاء وتبلوروا في كتل كبيرة لها تأثير واضح في التوجهات السوقية. وفي الموسيقى ساعد دخول السوق في خلق مستقبلاً مهنيًّا فنيًّا لشباب يريد أن يعبر عن نفسه بتلك الطريقة، وأتاح لشباب أكثر فرصة أن يوجهوا طاقاتهم لمناحي إبداعية وفنية. لكن جلب السوق معه أيضًا في الحالتين شروطًا ومتطلبات تبتعد قليلاً أو كثيرًا عن القيم الفنيّة وحرية الإبداع. فمستوى ما يُقرأ ويُسمع بشكل موسع مكرر ومقولب وغير نقدي ولا تجريبي. ربما يكون هذا هو طبيعة الحال في كل الأوقات وكل الأماكن، لكن ينبغي التنبه له كي لا يكون التفاؤل أعمى وسطحي. فالأمر ليس مفاضلة بين حضور السوق أو عدمه، لأنه أمرًا واقعًا لا خيار فيه، بل يكون بعدم الاستسلام التام له، ومناوئته وخلق هوامش مؤثرة داخله تصارع روافده الرئيسية باستمرار. وهو احتياجًا أساسيا وفرصة متاحة معًا في دول طرَفية في مجملها داخل السوق الكلي العالمي.