ثقافات
آن-لور وايتعمَّ نتكلم حين نتحدّث عن الطعام
2025.11.30
مصدر الصورة : آخرون
عمَّ نتكلم حين نتحدّث عن الطعام
من رحم «هوس الحميات الغذائية» [i] نشأت ثقافة «العافية (Wellness)» الأكثر ربحية. واليوم تُقدَّر قيمة صناعة العافية والرفاه الصحي بنحو سبعة تريليونات دولار، أي ما يفوق ضعف الناتج المحلي الإجمالي لفرنسا. وما يجعل الاستثمار في «العافية» أيسر من الاستثمار في الحميات التقليدية هو أنها لا تعاتب الناس ولا تحضّهم على التقليل من الاستهلاك، بل تحوّل رغباتهم في النحافة والصحة وضبط الذات إلى حاجة ملحّة لشراء مزيد من السلع والمنتجات المحمّلة بوعود تقول لنا إننا «أصحّاء»، و«جيدون»، و«واعون»، و«أنقياء».
ما يميّز عصرنا هو الكمّ الهائل من الصور التي تُنقل من خلالها هذه الأفكار القلقة حول الطعام، وكيف يجري استغلالها. فالإنترنت يصنع تيارًا لا نهاية له من الوجبات التي ينبغي إعدادها، والمنتجات التي يُفترض شراؤها، وأنماط الحياة التي يجدر تقليدها. ولحسن حظ الشركات التي تكدّس الثروات من هذا السيل، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن ما نقتنيه يعكس شيئًا حقيقيًّا عن جوهرنا، حتى وإن كان استهلاكنا بصريًّا بالدرجة الأولى.
غالبًا ما تكون هذه القرارات إسقاطات نفسية أو تشكيلات من الرغبات غير المشبعة. فالصور تُنتج وتعيد إنتاج نفسها في دورة تُبقي الحاجة مستمرة. أما المحتوى الأكثر مباشرة -من ألواح الشوكولاتة المقرمشة إلى المكونات البرتقالية الذائبة المتدفقة المصممة لتكوين جاذبية «محسّنة خوارزميًّا»- فيهدف ببساطة إلى دفعنا إلى الشراء أو الاشتهاء أو المشاركة. وفي المقابل، يبدو أن المحتوى الآخر -كفيديوهات الطهي البطيء في خلفيات ريفية مصطنعة، أو الكعك الفاخر من علامة «هيرميس» بحجم سفينة «تايتانيك»- يتحرك في فضاء أكثر تجريدًا وغموضًا.
قد يكون الغرض من هذا المحتوى تسويق مؤثرٍ ما أو بيع طقم أطباق باهت اللون، لكن المحصلة واحدة: حجم الإنتاج البصري يشير إلى اقتصاد لا يتمحور حول الأكل بقدر ما يتمحور حول الخيال والاشتهاء والإدمان.
صعود «مجمّع خيال الطعام الصناعي»
ظهر إعلام الطعام بشكله الحديث في منتصف القرن العشرين، مع انتشار التصوير الفوتوغرافي عالي الجودة. ففي فترة ما بعد الحرب، دخلت كتب الطهي المزدانة بالصور الأنيقة الأسواق، وترافق ذلك مع ظهور ملاحق الطعام في الصحف والمجلات مثل «جورميه» بأطباقها الطموحة المغطاة بالجيلاتين وكافيار الحفش، و«ماكولز» بصورها الملونة لفاكهة وعصائر التقطها نيكولاس موراي.
ومنذ البدايات، لم تعكس صور الطعام الواقع: فالبطاطس المهروسة كانت بديلًا من الآيس كريم، وورنيش الأحذية يضطلع بدور خطوط الشواء، وزيت المحركات يحل محل الشراب المحلّى على الفطائر. ومع انتشار هذه الصور، صكّ الصحفي ألكسندر كوكبيرن مصطلح «جاسترو-بورن» (Gastro-porn)، رابطًا الجماليات البصرية للطعام بنزعة تُثير الاشتهاء دون تحقيق الإشباع.
لاحقًا، استخدمت الناقدة النسوية روزاليند كوارد مصطلح «إباحية الطعام» (Food porn) لوصف إغواء قسري يُسهم في إخضاع النساء. ومنذ ذلك الحين، أصبحت صور الطعام -وصور النساء وهن يخلطن ويطبخن ويتذوقن- أكثر انتشارًا وتأثيرًا.
وفي هذا السياق يأتي كتاب روبي تاندوه «استهلاك كامل: لماذا نأكل بالطريقة التي نأكل بها الآن» (All Consuming)، الذي يقدم تاريخًا مُجزًّا لكيفية تشكيل الذوق والرغبة ونمط الحياة المرتبط بالطعام. تدور أجزاء واسعة من سرد تاندوه على الإنترنت، أو في وسائل الإعلام التي سبقت عصره.
وفي مشاهد متتابعة تنتقل بنا من «الزوجات التقليديات» إلى محال السوبر ماركت، ثم إلى موضة المشروبات الغازية «الصحية»، تتضح صورة للطعام في «الغرب المترف». فالمسألة لم تعد تتعلق بتناول الطعام كحاجة بيولوجية، بل بتجربة جمالية جديدة. وهذه التجربة تظهر في سيل من فيديوهات الوصفات القصيرة، وفي كتب الطهي الملونة الأولى التي فتحتها الجدة، وفي الهوس بصنع أطباق غايتها الأساسية أن تبدو جميلة في الصورة: من شاي الفقاعات الشفاف إلى وجبات العشاء في الصواني القصديرية، وعلب الغداء الفاخرة التي تعدّها المؤثرات لأطفالهن، والمقاطع التي تُعاد تدويرها بلا نهاية.
تركّز تاندوه في التجربة البريطانية -وهي التي نالت شهرتها عبر «جريت بريتيش بيك أوف»- لكن سرديتها تتجاوز حدود الجزر. فبينما كانت ملاحق الصحف تروّج للوصفات الطازجة، كانت المتاجر البريطانية الصغيرة تنهار أمام توسّع سلاسل السوبر ماركت والمنتجات الصناعية ذات الطابع الأمريكي.
ويزخر كتابها برؤى عميقة حول أسباب أكلنا بالشكل الذي نأكل به، لكنه ينشغل أكثر بـ«صناعة الرغبة». فبينما بات النظام الغذائي للبريطاني العادي خاضعًا لمنتجات الشركات الاحتكارية، تمدّد «نظامه الغذائي البصري». كان بالإمكان تناول لحوم معلبة رخيصة إلى جانب صور سلطات الموزاريلا المغطاة بزيت الزيتون.
ويتجلى الجانب الخيالي للطعام في كتابات إليزابيث ديفيد، التي رأت كتب الطهي بوصفها مزيجًا من الأدب والهروب. وفي سياق إنجلترا ما بعد الحرب -بألوانها الشاحبة ومقاصف اللحوم المقننة والزبدة والسكر- بدا الهروب نحو المتوسط حلمًا مشروعًا. حتى أن ديفيد كتبت في 1950 أن «الليمون والبرتقال والطماطم» كانت بقدر ندرة الألماس. وقدمت ديفيد إلى قارئها ملاذًا، أو كما وصفت أنجيلا كارتر، «نظام قيم» جديدًا يرى في الطعام وفرةً تسمح بتحويله إلى أداة للتعبير الأخلاقي.
وتروي تاندوه كيف بدأ الناس العاديون يعيشون خيالات الطعام في عصر الثقافة الجماهيرية. ويمكن تلمّس صدى فترة ما بعد الحرب في سرديتها مثلما يتردد صدى ما بعد كورونا في حاضرنا. وتجد تاندوه صدى بين تفاني مارجريت كوستا في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات في استخدام مكونات بسيطة وعالية الجودة، وبين موجة خبازي العجين المخمر وجمهور «بون أبيتيت» في العقد الثالث من القرن الحالي. فقد صاغت كوستا طريقة كتابة تُقنع القارئ بأن حياة أخرى ممكنة من خلال الطعام.
وكل ما على القارئ فعله، إذا كان محظوظًا بتوفر الطعام لديه، هو التوقف عن النظر إلى الوجبات كروتين، ورؤيتها كطقوس سامية. هذا «التقديس الصنمي» للطعام أثار قلق ناقدات مثل أنجيلا كارتر، التي اعتبرت أن الإفراط في الجمالية الغذائية يخلق انفصالًا عن أسئلة أساسية: ما الذي نأكله؟ من يقدمه لنا؟ وما تكلفته؟ ووصفت ذلك بأنه «انحطاط حقيقي».
تحوّل الطعام إلى تجربة جمالية
توضح تاندوه أن الكمية غير المتصوّرة من المحتوى الذي ينتجه الإنترنت قد غيّرت ثقافة الطعام وصناعته من جذورهما. فالناس العاديون باتوا صانعي الذوق: يلتقطون الصور، يشاركونها، يضغطون الإعجاب، ويحرّكون العجلة. وقد أظهر استطلاع عام 2021 أن 40% من الأمريكيين طلبوا طعامًا فقط لالتقاط صور له، وأن 57% يعيدون ترتيب أطباقهم من أجل الصورة، بينما غيّر 27% نظامهم الغذائي ليكون أكثر «جاذبية تصويرية».
وإن كانت تاندوه ترى في ذلك تنوعًا، فإنني أرى فيه نزوعًا نحو التجانس وتفريغ الطعام من هويته. فالتوابل من العالم كله تُدمَج في وصفات «فيوجن» متشابهة، وتقوم صفحات الوصفات الرائجة بإنتاج نسخ لا حصر لها من «براعم الكرنب المطلية بالميسو». وقد تكون كثرة الخيارات ذاتها هي ما ولّد شعورًا بالتكرار، وبالتالي رغبة في «الأصالة».
وهذه الرغبة دفعت منصّات مثل «فيتلز» إلى إدراج مطاعم دجاج «بيري بيري» المتواضعة ضمن قائمتها، لا لتميزها، بل لأنها تبدو «أصيلة». وفي نيويورك ظهر افتتان بمطعم «الجدة» في ستاتن آيلاند، حيث تتناوب الجدات من ثقافات مختلفة على طهي العشاء. وفي عالم يضغط علينا لاستبدال بطعام الجدّات المنتجات الخالية من الغلوتين أو بحمية «الباليو»، فإن الحنين يبدو حاجة ملحّة — حتى لو كان الحل هو تذوق طعام جدّة غيرنا.
يمنحنا كتاب «استهلاك كامل» رؤية دقيقة لجماليات الطعام المعاصر -من السوبر ماركت إلى منتجات الرفاهية- لكنه يقدّم لمحة أضعف عن القوى الصناعية الهائلة التي تسيطر على الزراعة والماء والمزارع الصغيرة. ورغم تداخل كل هذه العناصر بوضوح، فإن الكتاب لا ينشغل بتفكيك هذا الترابط.
ولا تزال الطريقة التي نتحدث بها عن الطعام في «الغرب المترف» محمولة على أحكام أخلاقية سطحية: ما نراه جيدًا أو رديئًا، واعيًا أو منقادًا، راقيًا أو سوقيًّا، أصيلًا أو مفتعلًا. وقد أصبح موقعنا داخل صناعة الصور -بين مؤثر واسع النفوذ أو صائد للأصالة- بديلًا من مواقفنا من قضايا كبرى لا نتناولها.
وما لا نواجهه هو غياب الخيار الفعلي الذي يخفيه هذا السيل من الصور. فلماذا نأكل كما نأكل اليوم؟ ربما يعود ذلك إلى الشركات العشر الكبرى التي تملك معظم العلامات الغذائية حول العالم. فالبشر سيقدّمون الكثير مقابل «الخيار»، حتى لو كان خيارًا صوريًّا. وبينما ننظر إلى موت لغات وتقاليد غذائية ومزارع صغيرة في قاعة مرايا لامعة تتوسطها الشركات، قد نجد أنفسنا نفقد شيئًا من رشدنا ونعود لخضّ الزبدة بأيدينا بحثًا عن القليل من المعنى — أو القليل من المشاهدات.