ذخائر
محمد التابعيكان الإنجليز يريدون.. خطف أم كلثوم وعبد الوهاب
2025.11.30
مصدر الصورة : آخرون
كان الإنجليز يريدون.. خطف أم كلثوم وعبد الوهاب
تناولت العشاء [i] أمس مع صديقة طبيبة فرنسية من أصل برازيلي وزوجها الموسيقار وهو فرنسي الجنسية إسباني الأصل!
وقد أخذاني إلى مطعم إسباني فتح حديثًا منذ بضعة شهور فى شارع فيكتور هيجو واسمه «إيبيريا».
والمطعم من حجم «الكارت بوستال» و«البار» من حجم طابع البريد، وفى المطعم نحو عشر موائد ليس إلا.. وفى صدره منصة مرتفعة هي المسرح ومساحته متران في ثلاثة! ولهذا السبب فإن أسعار هذا المطعم تبلغ ثلاثة أضعاف أمثالها في أي مطعم آخر فى باريس.
أصحاب المطعم المذكور فريق من نجوم إسبانيا في الرقص والغناء.. ومنهم الآنسة موريتا التي يذكرني وجهها وعيناها والكبرياء البادية في رفعة الرأس ولفتة العين.. يذكرني هذا كله بوجه شبيه على ضفة النيل، وجه أسمر خمري.. أقولها حتى لا يحدث أي التباس عند الذين سيضربون في باب الحدس والتخمين!
ويتناول الزائر طعامه الإسباني وهو يمتع بصره وسمعه بالرقص والغناء! وبين ألوان هذا الغناء ما يشبه إلى حد كبير أغاني الصعيد وحزنها الدفين العميق!
وقال صاحبي الفرنسي وهو يمزح: انظروا أيها العرب ماذا فعلتم بأوروبا! مشيرًا إلى هذا الرقص والغناء وكلاهما لا يزال يحمل الطابع العربي الصميم.
قلتُ: ماذا فعلنا؟ لقد أعطينا إسبانيا فنًّا رفيعًا. أعطيناها ثقافة عاشت وما تزال تعيش. قال: كذلك أثينا وروما! قلت: أين هو أثر الفن الإغريقي أو الروماني.. هل ترى له أثرًا اليوم على مسارح واشنطن أو باريس؟ ولكن هذا الرقص وهذا الغناء العربي-الإسباني تلقاه في كل عاصمة ويعجب به الجمهور في كل مكان، إن فنك الإغريقي وفنك الروماني لا أثر لهما اليوم إلا في المتاحف أو في قاعات المحاضرات!
وجرَّنا الحديث إلى الغناء في مصر وإلى أم كلثوم وعبد الوهاب وصديقي الموسيقار واسمه «هـ. ماريزا» - زار مصر في أثناء الحرب مع جنود ديجول، وكان يعمل في أقلام المخابرات بسبب إتقانه لعدة لغات.
ولقد قص عليَّ هذه الحكاية التي تنشر في مصر لأول مرة.. قال: ومعظم المعلومات التي يرويها هنا مستقاة كما قال من زملائه في أقلام المخابرات البريطانية – قال: إنه عندما لاح شبح الحرب في أوائل صيف ١٩٣٩ لاحظ رجال المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط أن وكلاء المحور راحوا يجمعون من الأسواق –في القاهرة وتل أبيب ويافا والقدس وبيروت ودمشق وحلب... إلخ– كل الأسطوانات العربية وخصوصًا أسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب، وهنا فطن رجال أقلام المخابرات إلى أن المحور استعد لحرب الدعاية.. ومن ثم نشطوا هم كذلك إلى شراء هذه الأسطوانات، وكان سباقًا حارًّا بين الفريقين.
والسبب أنك تضمن مستمعين في كافة بلاد العرب لدعايتك وأخبارك إذا بدأت البرنامج بأغنية لعبد الوهاب وختمتها مثلًا بأغنية لأم كلثوم!
ثم قال صاحبي الموسيقار:
- وحلَّ عام 1942 وبدأ روميل هجومه في يناير واستخلص بنغازي من يد البريطانيين ثم توالت هجماته وتوالت هزائم الجيش البريطاني.. وسقطت طبرق.. وانطلق روميل والفيلق الإفريقي صوب دلتا النيل، ولعلك أنت الصحفي المصري أدرى منى بالاستعدادات والإجراءات التي كانت السلطات البريطانية تنوي اتخاذها وتنفيذها في حالة اضطرارها للانسحاب من مصر إلى فلسطين والسودان.. ولكن هناك تدبيرًا واحدًا لم يُذَع سره حتى اليوم.
وسكت لحظة وهو يبتسم لكي يرى وقع كلامه في نفسي.
قلت: إرغام الحكومة المصرية على اصطحاب البريطانيين حتى تقوم في خارج مصر حكومة مصرية «حرة»؟
قال: كلا فإن البريطانيين لم يلحوا كثيرًا في هذا الشأن، ولكن وزارة الاستعلامات البريطانية ألحَّت في نقطة واحدة وأمرت رجالها في مصر باتخاذ هذا التدبير مهما كان الثمن ومهما كانت العقبات.
وسكت مرة ثانية ثم قال:
- خروج أم كلثوم وعبد الوهاب بالرضا أو بالإكراه!
وبدت الدهشة على وجهي ثم ضحكت..
وفهم هو من ضحكتي أنني أشك في الرواية، فقال بلهجة كلها جد:
- صدقني، هي الحقيقة ما أقول لك، لقد كان في عزم السلطات البريطانية إذا ما اضطرت إلى الخروج من مصر أن تأخذ معها -طوعًا أو كرهًا- أم كلثوم وعبد الوهاب، لأنها كما سمعت من زملائي البريطانيين كانت تخشى أن تستغلهما الدعاية الألمانية إلى أبعد حدود الاستغلال ولقد كان يكفي أن يذيع الراديو -الألماني المصري- أن أم كلثوم أو عبد الوهاب سوف يغني أحدهما هذا المساء لكي ينصت العالم العربي كله إلى إذاعة المحطة المصرية التي يشرف عليها الألمان.. وهنا الخطر..
قلت: ولكن من كان يضمن أن عبد الوهاب وأم كلثوم يقبلان الغناء في محطة الإذاعة؟
قال: محال أن تكون جادًّا في سؤالك هذا.. وإلا فأنت تجهل النازيين! لقد كان ممكنًا جدًّا أن يجلس عبد الوهاب يغني أمام الميكروفون ووراء ظهره جندي ألماني «ينغزه» بطرف «السمكة» إذا توقف عن الغناء!
قلت له: على كل حال فإن البريطانيين -كما تقول- كانوا ينوون أخذ أم كلثوم وعبد الوهاب ولو بالقوة والإكراه!
[i] نُشر في الأخبار بتاريخ 23 نوفمبر 1946.