عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

راجي مهدي

في نقد لغة العصر

2025.06.01

مصدر الصورة : آخرون

في نقد لغة العصر

 

لا تنفصل اللغة عن موضوعها إلا في الذهن المثالي، فتبدو وكأنما هي منظومة في ذاتها ولذاتها دون مضمون فعلي نابع في الأساس من واقع يُفترض أن تعبر عنه. غير أن اللغة هي في الحقيقة أداة العقل في مسيرته نحو الوعي بواقعه. لا انفصال بين الواقع والوعي والعقل. فالعقل حين يفكر في واقعه إنما يستخدم اللغة كوسيط يصوغ به أفكاره عن الواقع. وهي لهذا تقوم بدور شديد الخطورة، فبإمكانها أن تساعدنا على تكوين فهم قريب من الواقع، وبإمكانها أن تساعد في إنتاج معرفة مشوهة ومغلوطة بهذا الواقع.

إن علاقة الوعي باللغة كانت دومًا مفتاحًا للتلاعب بالعقول، واللغة تحديدًا كانت ولا زالت المجال الذي من خلاله وفيه انتصر حكام العالم اليوم. فمن خلال منظومة مفاهيمية محددة يمكن تكوين تصور عن العالم لا يفعل سوى تأبيد الأوضاع، منظومة مفاهيمية مؤدلجة تدعي لا أيديولوجيتها وتطمس أكثر مما تشرح ليسود تصور مشوه أو مبتور أو معكوس لحقيقة الوضع. يمكن فهم هذا الطرح بشكل أوضح في عالم ما بعد انهيار الكتلة الشرقية، في لغة هذا العالم الجديد الذي تسود فيه النيوليبرالية كقطب أوحد تعبر عنه تيارات اليمين المختلفة، الفاشية الجديدة في أوروبا أو الإسلام السياسي في دول الجنوب وغيرهما من التيارات اليمينية التي احتلت كامل الفراغ الذي تركه الانسحاب الشيوعي من مراكز التأثير في العالم.

غُيبت ترسانة كاملة من المفاهيم: الإمبريالية، الاستعمار، الرأسمالية، الهيمنة، الطبقية. صارت اللغة الجديدة تصور العالم كقرية صغيرة، فيها اختلافات تصل حد التطاحن العسكري، غير أن هذا أيضًا جرى تقديمه باعتباره من طبائع الأمور. واُعتبرت العولمة تعبيرًا عن اندماج العالم في نمط واحد، دون أن تقول من هم ضحايا هذا النمط.

إذا اتخذنا لفظ الإمبريالية كمثال لمفهوم تم تغييبه فإننا يمكن أن نفهم منه جملة من الأمور، أهمها أن العالم يعيش في مرحلة متأخرة من الرأسمالية كتشكيلة اقتصادية اجتماعية تتسم بتمركز وتركز الرأسمال، والتمركز يعني أن أعدادًا أقل فأقل من الرأسماليين صارت تمتلك مقادير أكبر من هذا الرأسمال وهذا هو التركز. ثم يضيف لفظ الإمبريالية أنه صارت هناك وفرة من الفائض الرأسمالي لا تجد منافذ للتوظيف، ما رفع من أهمية القطاع المالي في الرأسمالية العالمية حتى صار له اليد الطولى والثقل الأكبر في النظام العالمي وهو ما جعل تصدير تلك الفوائض كرأس مال مجسدًا في القروض، هو أحد السمات والأشكال الرئيسية لتوليد مزيد من الربح. والإمبريالية أيضًا تعني نظامًا يتسم بالخلل الفادح بين الأطراف المندمجة فيه، تعني تقسيمًا للعمل الدولي يحتفظ لبلدان الجنوب بموقع البلدان التابعة التي تعرضت هياكلها الاقتصادية للإخضاع كي تصبح مصدرًا للأرباح الناتجة من تخصصها في إنتاج المواد الخام والنشاط الزراعي وتخلفها التكنولوجي وتدني سعر قوة العمل بها. الإمبريالية هي نظام اختلال موازين تجارة الشمال مع الجنوب عبر عملية تتولاها طبقات اجتماعية وظيفية تشكلت في قلب هذا النظام الإمبريالي ذاته وبتأثير هيمنته على البلدان الطرفية فيه.

تلك لغة، أو هذا مثال من لغة، تبدو معقدة، غير أن دراستها وتملكها يقود إلى الكشف عن أمور عديدة، عن علاقات حقيقية وأوضاع قد تتفق أو تختلف مع تشخيصها، غير أنها تبقى لغة قادرة على تقديم تصور ملموس لواقع مادي، أو التعبير عنه بدرجة من الدقة. تلك اللغة صارت في لغة العصر خشبية، لا بأس، الواقع يتخطى العديد من الأشياء، غير أن ما حدث ليس تطورًا واقعيًّا أرسل تلك اللغة إلى متحف التاريخ، بل إن هزيمة حامل تلك اللغة لأسباب ليست محل الحديث هنا، قد فتحت الباب لسيادة لغة ليست خشبية حسب المعايير الجديدة. فهل عبرت اللغات السائدة عن واقع الحال اليوم؟

إذا أخذنا مثالًا من لغة بديلة يُفترض أنه تعويض عمَّا قدمه لفظ "إمبريالية" الخشبي، فإنه لفظ "الاستكبار" الذي تمتلئ به الأدبيات الإيرانية وأدبيات ما كان يُسمى بمحور الممانعة. والاستكبار لفظ طلسمي، ليس لأنه معقد وغريب كلفظة "إمبريالية" بل لأنه لا يعبر عن شيء. فلأي مدى تعبر تلك اللفظة عن علاقة الولايات المتحدة بأمريكا اللاتينية مثلًا؟ إذا كان المفهوم تكثيف للواقع، فلأي واقع تقودنا تلك اللفظة؟ ماذا أضافت تلك اللفظة أو استكملت من أوجه النقص في لفظة "الإمبريالية" الخشبية؟ إن اللغة تعبر عن هوية حاملها، والهوية يُقصد بها رؤيته للعالم وفهمه له يصيغهما في جملة من المفاهيم. فالاستكبار يحمل دلالة أخلاقية لا تكشف طبيعة العالم بل موقفًا منه. الاستكبار يلخص المشكلة مع الولايات المتحدة في أنها تتعامل بعنجهية، والعنجهية طبعًا إحدى سمات السلوك الأمريكي لكنها ليست محرك هذا السلوك المدفوع بمصالح اقتصادية تدافع عنها الولايات المتحدة بعنجهية، وباستكبار. والمطلوب هو مواجهة هذا الاستكبار كسلوك أمريكي غير مقبول لكن مواجهة الاستكبار شيء ومواجهة الإمبريالية شيء آخر تمامًا، لذا ظلت إيران حريصة على أن تتعامل بندية مع الولايات المتحدة، لكنها لم تطور تلك الندية لأبعد من ذلك. اقتضت نديتها ممانعة أمريكا لا تقديم بديل يقاوم النظام الإمبريالي العالمي السائد. هكذا حلت ممانعة أمريكا محل النضال ضد الإمبريالية، الممانعة كمشروع دفاعي عن موقع لا مشروع نضالي ضد نظام قائم. فاختيار الأدوات يبدأ بتحديد الهدف ولما كان الهدف ضبط موقع إيران في النظام كانت الأدوات ملائمة. هنا أخفى المفهوم جملة العلاقات الحاكمة لعمل النظام العالمي، لكنه كشف طبيعة ما تطرحه إيران.

إن تلك اللغة الإيرانية هي واحدة من لغات عدة بديلة، الإسلام السياسي كله قدم لغة برغم كل ديماغوغيتها تكشف شيئًا جوهريًّا من وجهة نظرها: أنه لا حل لتناقض العمل ورأس المال لصالح العمل! ويصبح فشل الغرب كما يتكرر دومًا في أدبيات الإسلام السياسي، هو أنه لم يستطِع كبح تداعيات هذا التناقض أما الإسلاميون فهم أصحاب القدرة على كبحها كما ينبغي!

كلما تعقد العالم ازدادت المفاهيم تعقيدًا، غير أن المفاهيم المعقدة طالما هي تجريد عن الواقع في محاولة لفهمه، فهي الطريق الوحيد لبناء وعي صحيح بالواقع كما هو، وعي بالواقع لا اختطاف الوعي به. فكل الصياغات الدينية والثقافوية والجندرية والعرقية إنما هي صياغات تستهدف في الحقيقة السيطرة على الوعي من خلال مخاطبة غرائز استحدثتها ظروف اجتماعية معقدة. تلك الصياغات تستهدف من الأساس عبر لغة شديدة الديماجوجية والتسطيح وَأْد كل جنين لوعي طبقي غريزي وكل محاولة لاستخدام القاموس الطبقي في فهم العالم الطبقي بالفعل. فاللغات البديلة إنما تتعامل مع الطبقية كأمر واقع أبدي، باعتبارها نهاية التاريخ.

القاسم المشترك بين كل اللغات التي سادت بعد إعلان موت النظم الشيوعية الستالينية هو أن جميعها إما رفض الاعتراف بالتناقض الطبقي أو رفض البحث في حل جذري لهذا التناقض لصالح العمل ضد رأس المال. هنا ظهرت تعبيرات جديدة أو سادت تعبيرات لم تكن ذات رواج، فالفساد صار أحد الأعراض الجانبية للرأسمالية لا جزءًا مؤسسًا في آلية عملها. تراكم الثروة في طرف وتراكم البؤس في طرف آخر يتم الترويج له على أنه نتاج لاجتهاد وذكاء البعض، وكسل وغباء الآخرين. البشر يصنفون بحسب الدين والجنس أو اللون أو العرق أو الجنسية وفي هذا التصنيف يضيع التناقض بين المالك ومعدوم الملكية، بين من يبيعون قوة عملهم ومن يشترونها. فيصير التناقض البديل تناقضًا بين السني والشيعي، بين المسلم والمسيحي، بين العربي والكردي، بين الأبيض والأسمر، بين الرجل والمرأة، هكذا حين تترسخ تلك النظرة، تتحقق تجزئة وتقسيم طرف العمل في التناقض بين العمل ورأس المال.

تحتل تلك اللغة البديلة كل الفضاء دون أن يبذل مروجوها جهدًا حول لماذا يسود خطاب واحد وتُفرد له كل المساحات المطلوبة لإعطاب عملية تشكيل وعي شعبي حقيقي ومعرفة حقيقية بالأزمة الضاربة وأسبابها وعلاجها. لمصلحة من يسود هذا الخطاب المونوتونيك فتصبح كل الأفضية مجالًا لترديد نفس الأفكار.

ليس هذا فقط على مستوى الخطاب الموجه إلى الطرف المستلَب في التناقض بين العمل ورأس المال، بل في الخطاب الذي يدور في أوساط النخبة التكنوقراطية. فالميكرو إكونوميكس صارت هي المجال الوحيد الذي يدور فيه الجدل. الأدوات النقدية والمالية، أسعار الفائدة، أسعار الصرف، الكتلة النقدية، تلك الأدوات التي هي وظيفة البنوك المركزية في العصر الراهن للتحايل على الأزمات الهيكلية العميقة، في انفصال تام عن مفاهيم الاقتصاد السياسي، والهيكل الاجتماعي. فلم يعد مسموحًا الحديث عن أشكال الملكية وعلاقات الإنتاج وقواه، الماكرو إيكونوميكس التي تناقش خيارات الاقتصاد الكلي وبها يتحدد الاجتماع والسياسة دُفعت إلى متحف التاريخ ومعها اختفت مفاهيم الاستغلال وفائض القيمة وحلت طلاسم تخفي أكثر مما تكشف. لغة النخبة صارت في حد ذاتها منغلقة ومعزولة بانفصالها عن الناس، لتصبح أكثر خدمة للمشروع الرأسمالي القائم.

على كل مستوى، وفي كل بقاع العالم، وخصوصًا في بلدان الجنوب، تحول المناضل الملتزم بقضية اجتماعية إلى ناشط أو مجاهد، ليتحول الاهتمام بالشأن العام إما إلى ممارسة في أوقات الفراغ أو التزام ديني. فأما الناشط فإنه لا يرى في النظام العالمي مادة للتغيير بل للتعديل، هناك الملف البيئي، هناك الملف الجندري، هناك بالطبع الملف الديمقراطي. وفي هذا الملف الديمقراطي تحديدًا بإمكاننا أن نقول بشيء من التفصيل إنه تم تسييد تصور برعاية الغرب للتحولات الديمقراطية بتدفق المنح على المراكز الناشطة من أجل الديمقراطية دون أن يتبرع واحد ممن يسعون إلى بناء الديمقراطية عن شكل الديمقراطية المرجوة. فالديمقراطية التي سادت العالم هي ديمقراطية النيوليبرالية أي إنها ديمقراطية لا ديمقراطية في الواقع لأنها ديمقراطية تسعى إلى إعادة إنتاج نفس موازين القوى بداخل المجتمعات المصروعة طبقيًّا، هي ديمقراطية تضمن ثبات علاقات الملكية والإنتاج، وهي ديمقراطية لا تتورع عن استخدام العصا الغليظة ضد أي تهديد لتلك العلاقات. فأي ديمقراطية يمكن تصديرها من الشمال إلى الجنوب؟ هل هي ديمقراطية تسمح بفك ارتباط بلدان الجنوب اقتصاديًّا وسياسيًّا؟ بالطبع لا، هي بالعكس تضمن ترسيخ تقسيم العمل السائد لأنها تنطلق من عدم الاعتراف بالأساس الذي ينبني عليه النظام العالمي القائم: فائض القوة وفائض الثروة المتراكمان على حساب فائض الضعف وفائض العوز.

إن نقد لغة العصر ضرورة ملحة، على أساس صحة الفرضية التي تقول بأن تغيير العالم يبدأ من تكوين معرفة ووعي صحيح به. واللغة كما قلت هي الوسيط وهي المعبر عن الانحيازات والمواقف. فبدون اللغة الصحيحة يقف العقل أمام الظواهر عاجزًا كأنما هو أمام طلاسم. ليس أشد عجبًا من هؤلاء المشدوهين أمام وحشية الحرب الصهيونية على فلسطين المحتلة، والدعم اللامحدود الذي تلقاه الكيان الصهيوني من الإمبريالية العالمية. يقول الناس في الشارع وفي ثرثراتهم: أمريكا مع إسرائيل. لكن طبيعة تلك العلاقة بين الولايات المتحدة والإمبريالية العالمية وبين إسرائيل هي ما لم يعد رجل الشارع يفهمه، فإذا كانت حربًا على الإسلام، فلماذا تقف بلدان مسلمة مع إسرائيل؟ يقول البعض: إسرائيل تمثل الحضارة ضد الهمجية، غير أنه لا أحد تطوع ليقول إن الحضارة ليست العلم والتقدم التقني اللذين تم بناؤهما على حساب جهد وعرق مليارات البشر، والحضارة ليست حصار مليوني إنسان في مساحة تساوي مساحة أحد أحياء القاهرة وصب آلاف الأطنان من المتفجرات والأسلحة المحرمة على رؤوسهم. فهذا أيضًا من ملامح لغة العصر، إنها لغة غير ديالكتيكية، لأنها تتجاهل التاريخ وتقتطع مشهدًا من السياق لتصدره باعتباره السياق كله. لا تمثل إسرائيل إلا حضارة السلب والنهب كما أن العرب ليسوا همج العصر بل أحد ضحاياه الذين تطمس اللغة الجديدة مأساتهم وتصورهم على أنهم جماعة خارج التاريخ تتمسك بالحق وتدافع عنه بالسلاح في فلسطين. إن اللغة السائدة هي لغة الاستسلام الطبقي يُفرض بالقوة وبالقهر على المسحوقين، هي ليست لغة العصر بل هي لغة داسها العصر الدموي، فيحاول أصحابها فرضها بالإلحاح وبالقوة الملحة، غير أنها وأصحابها تخطاهم التاريخ وحان الوقت للغة بديلة تحملها طبقات بديلة.