رؤى

راجي مهدي

"عن فلسطين" التي أغفلها بابيه وتشومسكي!

2024.09.21

تصوير آخرون

"عن فلسطين" التي أغفلها بابيه وتشومسكي!

 

عام 2014 في أعقاب إحدى دورات العدوان الصهيوني المستمر على غزة، صدر كتاب "عن فلسطين" وهو عبارة عن حوار أجراه الكاتب فرانك بارات مع الأكاديميينِ ذائعيِ الصيت نعوم تشومسكي وإيلان بابيه. يتضمن الكتاب مقدمة لبابيه، ثم حوارًا مع تشومسكي وبابيه، تلاه حوارات منفردة مع كل منهما على حدة، وينتهي الكتاب بمقالات لكل منهما أو خطابات ألقيت في مناسبات مختلفة. بالرغم من هذا، يمثل الكتاب وحدة واحدة إذ إنه يناقش أسس وجذور الصراع العربي الصهيوني والمآلات المطروحة والممكنة. يعد الكتاب وثيقة مهمة لأنه يكشف عن اتجاهات رئيسية وسط الإنتلجنسيا الغربية بخصوص الصراع التاريخي مع الصهيونية ولأنه يكشف حدود تلك الاتجاهات. ما أود تقديمه هنا ليس عرضًا لمحتوى الكتاب، بل عرضًا لما لم يتضمنه الكتاب على لسان شخصيتيه الرئيسيتين.

يبدو الكتاب منذ الوهلة الأولى، اعترافًا غربيًّا قويًّا صادرًا من داخل حقل الأكاديميا الأمريكية، بعدم مشروعية الكيان الصهيوني، واعترافًا بالجريمة التاريخية التي تأسس بموجبها هذا الكيان، اعترافًا صار يكتسب زخمًا وقوة أكبر بمرور الزمن وتوالي دورات الهمجية الصهيونية على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. هذا الاعتراف الذي كان من السهل فيما مضى وصمه بمعاداة السامية، صار يلقى إجماعًا. كما يلقي الكتاب الضوء على تكتيكات وآفاق حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، وحركات مقاطعة الكيان الصهيوني.

غير أن هذا الاعتراف الذي صار يتصاعد بقوة البداهة التاريخية، لم يعد كافيًا إزاء تصاعد البربرية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. لقد نشأت إسرائيل بجريمة تاريخية، لكن ما الحقوق التي تترتب للفلسطينيين على أساس هذه الجريمة؟ من الواضح تمامًا أن اعتراف الكاتبينِ بفداحة الإجرام لم يرتب لديهما منطقيًّا ما يجب من الأمور. وهذا يتضح أساسًا في نقاش الحلول المطروحة للصراع.

فنعوم تشومسكي يعتقد أن المخططات الإسرائيلية لضم الضفة باتت واضحة من خلال نوايا إجراءات الصهاينة ضم منطقة القدس بالكامل وإجراءات الاحتلال في منطقة وادي الأردن والنشاط الاستيطاني المتصاعد في الضفة والذي يخلق ظروفًا تمنع من نمو الوجود السكاني الفلسطيني وتُحِد من مقومات وجود الفلسطينيين في الضفة، وبناءً على هذا فإنه يعتقد أن الحلول المطروحة هي إما حل الدولتين وإما دولة واحدة يهودية. بمعنى أن رفض الفلسطينيين لحل الدولتين إنما يعطي زخمًا أكبر للدعاوى الصهيونية بإكمال التطهير العرقي للفلسطينيين من كامل أراضيهم. هذا الامتثال لمنطق الحلول المطروحة بفعل الأمر الواقع يمتد لدى تشومسكي ليشمل قضية حق العودة للاجئين الفلسطينيين، فهو يطالب إسرائيل بالاعتراف بما سببته للاجئين من مآسٍ وإن كان يعرف أن عودة اللاجئين غير ممكنة الآن، بل هو يراها في سياق أوسع إقليميًّا حين تزول الدول القومية والحدود، لكنه لا يذكر شيئًا عن زوال إسرائيل الذي لا بد أن يسبق زوال تلك الحدود وتلك الدول القومية التي من المفترض أن تشكل دولة عربية واحدة، يقف وجود إسرائيل جغرافيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا حائلًا ضد تشكلها. بالنسبة إلى تشومسكي فإن موازين القوى حاليًّا لا تدعم حق العودة، وموازين القوى لا تصب في صالح حل الدولة الديمقراطية الفلسطينية الواحدة، لكنه يدرك أيضًا أن موازين القوى المختلة تلك لا تدعم حل الدولتين بما يعني من قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، فإن كل الحلول التي طُرحت وما زالت حتى اليوم إنما تتكلم عن شبه دولة بلا جيش وبلا اقتصاد مستقل، وهي دولة مشطورة جغرافيًّا، جزء منها في الضفة والآخر في غزة، ويتحكم الاحتلال في المرور بين الجهتين. يدرك تشومسكي أن الأمر الواقع لا يسمح بحل الدولتين، وأن إسرائيل ماضية في استكمال التطهير الذي بدأته في منتصف الأربعينيات من القرن الفائت حتى حرب الإبادة القائمة الآن.

بينما كان إيلان بابيه يبدو أقل امتثالًا للأمر الواقع، إذ إنه من أنصار حل الدولة الديمقراطية الواحدة، لكنه يعبر عن أفكار غير متسقة، فهو يطالب بتعويضات للاجئين! من سيدفع التعويضات؟ بالطبع لن تدفعها سوى الهيئة السياسية الممثلة للطرف المسؤول عن أزمة اللاجئين، أي الدولة الصهيونية، وهو مطلب بالرغم من مظهره البريء فإنما يعني تثبيت جزء من اللاجئين في أماكن اللجوء في الخارج بما يحقق لإسرائيل تثبيت الحقائق الديموغرافية المتشكلة عبر سنوات من الطرد والقتل والتهجير، ثم يعود في الحديث عن حل الدولة الواحدة إلى استخدام لفظ "reconciliation" المصالحة أو التوفيق بين العرب والمستوطنين الأجانب، لكن هذا التوفيق أو هذه المصالحة تفترض أساسًا أن التناقض ثانوي يدور حول تفاصيل، أو أن الاستيطان الصهيوني الاقتلاعي في فلسطين كان مجرد خطأ تاريخي يمكن تصويبه بمصالحة بين طرفين متساويين في القوة، بينما هو يشير إلى تصاعد عسكرة مجتمع الثكنة الإسرائيلي، تلك العسكرة التي أدت إلى إفساد هذا المجتمع.

وأيضًا فيما يخص قضية المصالحة، فإن بابيه يستخدم نفس اللفظ في مقاله "انهيار الصهيونية" الصادر في 21 يونيو الفائت، وفيه يتحدث عن احتمالات "المصالحة" بينما الطرفين المتصارعين في داخل المجتمع الصهيوني، يتفقان أساسًا على استثناء الفلسطينيين من أي ترتيبات على الأرض المحتلة، فعلى أي أساس قد تكون المصالحة، في الوقت الذي يتسع فيه نفوذ اليمين المتطرف في تجمع تأسس على فكرة وممارسة متطرفة من الأصل، وفي الوقت الذي يهاجم فيه قطعانُ المستوطنين في الضفة الغربية المدنَ والقرى الفلسطينية المطوقة. ثم أن العسكرة ليست سمة جديدة في الكيان الصهيوني، فإن كانت التجمعات الأولى على أرض فلسطين في الكيبوتز والاقتصادات اليهودية المغلقة كانت ذات طابع مدني، فإنه منذ وصلت هذا التجمعات والهجرات اليهودية إلى مستوى كيفي معين، صارت العسكرة سمة ملازمة للوجود اليهودي في فلسطين، منذ الهاجاناه إلى جيش الغزو المتنكر الآن في اسم "جيش الدفاع الإسرائيلي". فإسرائيل ليست مجتمعًا تتم عسكرته، بل معسكرًا يسعى إلى التحول إلى مجتمع عبر سحق الوجود الفلسطيني والمقاومة العربية، إن هذا ينسف أي حديث عن مصالحةٍ ما، ولو كان الهدف حل الدولة الديمقراطية الواحدة، إذ إن هذا الحل الصحيح "حل الدولة الديمقراطية الفلسطينية الواحدة" يستلزم شروطًا عديدة لم يتطرق إليها بابيه.

لقد اتفق الكاتبان على أن موازين القوى غير مهيأة، وتناولا تفصيلات تخص حركات التضامن والمقاطعة وهي حركات داخل المجتمع الأمريكي والمجتمعات الغربية، وبينما يتبنى تشومسكي وبابيه موقف التعريف بالجريمة التي تم ارتكابها لإنشاء إسرائيل، فإنهما لم يركزا في نشأة إسرائيل في سياق المصالح الإمبريالية في المنطقة العربية، إنهما يتناولان إسرائيل كدولة نشأت بجهود مؤسسيها، لا ككيان اصطناعي رعت الإمبريالية البريطانية تأسيسه وتولت الإمبريالية الأمريكية مسؤولية إدامة بقائه. وبينما يقران بأن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل أمر حيوي لبقائها فإنهما لم يفسرا هذا الدعم ولم يفصلا ديناميكية العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل والتي تتعدى بالطبع فكرة اللوبي الصهيوني المسيطر إلى ارتباط عضوي بين الإمبريالية وإسرائيل كشرطي في المنطقة.

إن بناء حركة تضامن حقيقية مع الشعب الفلسطيني في المجتمع الأمريكي إنما يستلزم أولًا تحليل علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل من زاوية ارتباط المصالح، وهذا يؤدي إلى تجذير حركة التضامن تلك لأنها تنقل المعركة من مجال الضغط في مطالب محددة كوقف تصدير السلاح أو وقف الدعم المالي إلى مواجهة النظام الأمريكي نفسه كنظام إمبريالي يشارك بقضه وقضيضه في حروب إبادة تستهدف نهب مقدرات الشعوب العربية عبر فرض إسرائيل ككيان دموي يمثل عدة تحالفات إقليمية مع الرجعية العربية تضمن نزح ثروات المنطقة إلى المراكز الإمبريالية. والشرط الثاني هو أن التضامن لا يمكن أن يكتفي بشرح تاريخ تأسيس إسرائيل، والدعاية لأفضل الحلول السيئة -كما يفعل تشومسكي- أو طرح الحل من دون آلية تحقيقه -كما يفعل بابيه- فالتعاطف مع الضحية غير كافٍ لمساعدتها بل الأهم هو دعم حقها في القتال وهذا ما لم يمسه الكتاب عبر صفحاته التي تجاوزت المئتي صفحة.

يحتفظ الغرب بتاريخ طويل من وصم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب ومعاداة السامية، ليس هذا مرتبطًا بحماس الإسلامية، بل منذ أن شن ماركسيو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أولى عمليات خطف الطائرات والهجمات على مصالح الصهيونية، صارت مقاومة الصهيونية وأجندتها الإبادية إرهابًا في حين ضمنت الصهيونية لنفسها دومًا حق الدفاع عن النفس والذي وصل حد ذبح ما يزيد على 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة وما يزيد على الست مئة في الضفة الغربية منذ 7 أكتوبر. ومنذ 7 أكتوبر كان السؤال الرئيسي في الغرب: "هل تُدين حماس؟" حتى صار السؤال أشبه بنكتة لأنه كان من البديهي أن يُطرح السؤال التالي بديلًا: "هل تدين إسرائيل على 76 عامًا من وجودها الدموي؟"

إن الجريمة الصهيونية التي أسهب بابيه وتشومسكي في سردها عبر الكتاب، واختلال موازين القوى لصالح الجلاد الصهيوني، كان يفترض أن ترتب لدى الكاتبين إقرارًا بحق الشعب الفلسطيني في جميع أشكال المقاومة وعلى رأسها الكفاح المسلح، حق له حيثياته التي يتم تغييبها عمدًا عن الجمهور الغربي، فالفلسطينيون يجب أن لا يخرجوا عن إطار الضحية التي تستجدي جلادها، ودعمهم يجب أن يكون مرتبطًا باحتفاظهم بوضعية الضحية الخاضعة، بينما توصم كل أشكال حركتهم بالإرهاب ومعاداة السامية، إن هذا ما يجب عرضه على الجمهور الغربي، لأن موازين القوى لن تتعدل بحركات المقاطعة والتضامن فقط، بل بخلق حقائق جديدة على أرض فلسطين، وأن الحقائق التي ترسخها إسرائيل منذ أواخر ثلاثينيات القرن الفائت إنما رسختها عبر القوة المسلحة المدعومة من الإمبرياليات الغربية.

وللحق يجب الإشارة هنا إلى أن مواقف بابيه التي وردت في هذا الكتاب قد شهدت تطورًا ملحوظًا فيما بعد نشره، وتحديدًا فيما يخص دعمه للمقاومة الفلسطينية ولحق الشعب الفلسطيني في القتال، وهو موقف وإن لم يمسه بابيه في الكتاب، فإنه عبَّر عنه في عديد من المقالات واللقاءات المتوفرة على الإنترنت وصولًا إلى موقفه الشجاع من عملية "طوفان الأقصى" ورفضه وصم المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بالإرهاب، بل وإصراره على اعتبار حماس جزءًا من حركة التحرير الوطني الفلسطيني.

أما موقف تشومسكي الوارد في الكتاب هو الدعوة إلى حل الدولتين، احتكامًا إلى موازين القوى. غير أنه واقعيًا وفي ظل موازين القوى القائمة حتى حل الدولتين لم يعد ممكنًا، وأن الصهيونية حين تفاوضت مع منظمة التحرير في مدريد وأوسلو إنما اضطرت إلى التفاوض لأن منظمة التحرير كانت تمثل قوة عسكرية خاضت معارك ممتدة في الأردن ثم لبنان ومنحتها الانتفاضة الأولى قوة جعلت الطرف الآخر يأخذ المنظمة في اعتباره إلى حد ما، وأن المنظمة حين تخلت عن الكفاح المسلح بموجب أوسلو، صارت كمًّا مهملًا ومجرد شرطي للاحتلال في الضفة الغربية، شرطي يتعرض لمهانة يومية في اجتياحات إسرائيل للضفة ولمقر السلطة في رام الله.

إن المقاومة هي الفريضة الغائبة عن الكتاب المذكور، وللصدفة هي الفريضة الحاسمة في فتح آفاق الحل النهائي للصراع العربي الصهيوني، فحشد الدعم الغربي حول الحق الفلسطيني تاريخيًّا يختلف تمامًا عن حشد الدعم الشعبي الغربي حول الحق الفلسطيني في المقاومة، فالأول هو حشد حول حق تاريخي يجري انتهاكه يوميًّا من دون سبيل واضح لاستعادته، أما الحشد حول المقاومة فإنما هو حشد حول طريق ملموس. تتبقى النقطة الأخيرة التي أود الإشارة إليها، يراهن بابيه في الكتاب وفي مقالاته المنشورة لاحقًا، على تفاقم التناقضات الداخلية للكيان الصهيوني بما يدفع إلى خرابه الذاتي، لكن بابيه لا يدرك أن تناقض إسرائيل الرئيسي والمدمر هو ما يفرزه استمرار المقاومة الفلسطينية التي تساهم في تعميق أزمات الكيان الصهيوني الداخلية، ولا نعتقد أن الحاسم في خراب إسرائيل هو تناقضاتها الداخلية بل تناقضها مع المقاومة الفلسطينية، وأن توقف هذه المقاومة سيؤدي إلى استقرار إسرائيل على المدى الطويل، لأنه للمرة الأولى ستخرج إسرائيل من الثكنة وتتحول إلى مجتمع فعلي، وهو الأمر الذي يمنع حدوثه استمرار المقاومة.