مراجعات

دينا قابيل

كتاب المولودة وسيرة البطولات التي تبدو صغيرة

2018.05.01

المؤلف: نادية كامل
الناشر: الكرمة للنشر، 2018

كتاب المولودة  وسيرة البطولات التي تبدو صغيرة

ما سر هذا النجاح الذي حققه كتاب “المولودة” لنادية كامل منذ صدوره في مطلع هذا العام؟ وهو نجاح لا يمكن قياسه بحجم مبيعات الكتاب أو عدد طبعاته كما جرت العادة، ولكن عن طريق كم المعارف والأصدقاء وزملاء المهنة الذين يشكلون حلقات عديدة في قائمة الانتظار لتبادل الكتاب فيما بينهم، بل والأهم من ذلك هو انطباعات قرائه الذين غالبًا ما يقعوا في غرام بطلته “نائلة كامل” -المولودة باسم ماري روزنتال- حتى وإن اختلفوا معها في وجهات النظر. هل يكمن السر في النوع الأدبي الذي ينتمي إليه الكتاب، أي كتابة السيرة، والذي يلقى رواجًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، توقًا لمعرفة تجارب الآخرين وماذا فعلوا لمواجهة الواقع؟ حيث يلقي “المولودة” الضوء على مشوار حياة شديد الثراء لهذه الشابة التي ولدت في القاهرة  لأب يهودي مصري، وعرفت النضال الشيوعي منذ صغرها كما عرفت أيضًا سجون الخمسينيات من القرن الماضي لمرات عديدة، ولم تسلم مع ذلك كله، وخلال تاريخها النضالي الطويل، من “وصمة” الأصول اليهودية كما يرى المجتمع، ومن اتهامات العمالة والتخوين في فترة القومية الناصرية، بحيث يلفت الكتاب إلى الدور المهم الذي لعبه المصريون اليهود وذوي الأصول الأوروبية في الحركة الوطنية المصرية في أربعينيات القرن الماضي.

أم أن سر النجاح السريع الذي حققه “المولودة” يرجع إلى هذه اللغة العفوية المتدفقة التي وإن كانت بالعامية إلا أنها لغة لا تؤذي آذان المدافعين عن لغتنا الجميلة، بل أزعم أنها اللغة الأقرب والأصدق في رسم الشخصية وسردها للأحداث بكل عفوية وعنفوان. أم أن الأمر يتعلق باللحظة الزمنية التي صدر فيها الكتاب، بعد مضي سبع سنوات على ثورة يناير 2011 والتي لم يعد القارئ يملك حيالها سوى البحث والتنقيب في التاريخ والتقاط لحظات مماثلة من الحراك الاجتماعي في تفتحه وقمعه وإحباطه المتوالي؟

لا شك أن هذه العناصر تتضافر جميعها لتصنع حالة من الولع بالنص والانجذاب إليه رغم حجمه الذي يتجاوز الخمسمئة صفحة، ورغم توقيعه من قبل سينمائية هي نادية كامل، أي اسم لم نعرفه من قبل في عالم الكتابة والأدب.

لكن الأهم من ذلك كله هو اختيار منظور السرد ووجهة النظر على طول هذا الكتاب، أي كيف اختارت نادية كامل منظور الكاميرا (إن استخدمنا أدوات المخرجة الرئيسية)، فتعاملت مع نصها المكتوب تمامًا كما تفعل مع فيلمها التسجيلي، أي توارت عن المشهد لتسند مهمة الحكي للأم البطلة نائلة كامل، وتركت لها الساحة خالية لتروي لها -ولنا نحن القراء- عن طفولتها وجذور عائلتها ونضالها السياسي وقصة حبها لوالدها ومعايشتها للأمومة وعملها بالصحافة مناصرة لحقوق المرأة. ومثلما يحدث في الفيلم التسجيلي المتميز، يضع المخرج المشاهد في مواجهة الشخصيات والأحداث، موجهًا مسارها من بعيد –بحرفية وذكاء-  ليضع القصة وخلفياتها وزواياها المختلفة بين يديه ويترك له مهمة البحث والتساؤل وتكوين وجهة نظره. ولعل هذا أهم ما يميز كتاب المولودة، إذ يطرح من خلال هذا الرصد التسجيلي مجموعة من الأسئلة دون أن يقدم الإجابات، وأول هذه الأسئلة التي يلفت إليها الكتاب هي مسائلة التاريخ، وأي رواية ينبغي الالتفات إليها اليوم، هل رصد هذه الفترات المهمة من تاريخنا المعاصر هو ما نقرؤه في السجلات التاريخية؟ هل التاريخ هو ما تكتبه الحكومات، وما يرويه المنتصر؟ أم أن التاريخ هو حكايات الناس العادية، وتجاربهم الحية التي تغفلها في الأغلب كتب التاريخ؟ إذ يدلل على هذا الاتجاه الحديث في النظر للتاريخ العديد من الرسائل العلمية والدراسات في التاريخ والأدب وتاريخ الثقافة التي تعيد النظر في التاريخ الرسمي وتعتمد شهادات البشر العادية كوثائق مهمة تسلط الضوء على المهمش والمنسي وما يتم إغفاله.

حكايات الناس غير عادية

كل ما ترويه نائلة كامل في هذا الكتاب ليس عاديًا بالمرة، لكنها تقصه على ابنتها وحفيدها ببساطة وعفوية يخطفان القلب. بدءًا بانخراطها في العمل السياسي منذ سن الخامسة عشر عبر مجموعة شباب النادي الإيطالي في 1946، وانضباطها الصارم في منظمة “حدتو” السرية، ومهمتها المقدسة في توزيع المنشورات وارتباطها الصوري بالزواج من عبد الستار الطويلة من أجل العمل التنظيمي، وتخلِيها عن حلم السفر والدراسات العليا لتعمل أعمال مكتبية أو تعطي دروس لغات وتجمع الأموال القليلة من أجل التنظيم. تستعيد نائلة كاملة اليوم أفكار الماضي وتعيد تقييمها ونقدها برحابة وذهن متفتح. تنظر المرأة السبعينية إلى الشابة التي كانت، وإلى كل ما فعلته في الماضي عن قناعة وإيمان شديدين، إلا أنها لا تخفي إعادة تقييمها اليوم لأمور عديدة ومنها نظرة التنظيم الماركسي للتعليم العالي آنذاك، إذ تقول “الناس دول عيبهم إن الدراسة عندهم مش مهمة في الحياة، بيعتبروا الدراسة رغبة برجوازية والناس اللي عايزة تكمل دراستها وتاخد شهادات ناس عندها تطلعات برجوازية”.

خلال كل هذه البطولات الصغيرة التي ترويها، حملت نائلة كامل كل المتناقضات دون حتى أن تعي أبعادها، فهي المصرية دون أن تحمل الجنسية، ابنة الحي الشعبي بولاق أبو العلا التي وُلدت فيه عام 1931، التي انغمست في العمل الوطني رغم أنها في عيون الآخرين “خواجاية” ابنة لأم إيطالية كاثوليكية، التي تذهب إلى المدارس الإيطالية بمصر، أما والدها فمصري يهودي لكنه أيضا وٌلد في القاهرة، وحين ارتبطت بالكاتب والمناضل سعد كامل وتزوجا طبقًا للشريعة الإسلامية، صمما على الزواج الكاثوليكي بإذن رسمي من الفاتيكان.    

في السابعة عشرة دخلت السجن للمرة الأولى، بسبب نشاطها الماركسي لتكون أصغر المعتقلات سنًّا. تسرد المولودة بشكل مبهر تجربتها مع باقي “الشيوعية” (كما كانت السجَانات تطلق عليهن) في السجن حيث تعرفت على وجوه أخرى وعرفت الأحاديث الحميمة والشخصيات الثرية والحياة بعيدًا عن عالم المنشورات المنغلق على سريته وصرامته. ثم تتطرق لتعرفها على سعد كامل الذي كان عضوًا فعالاً في جماعة أنصار السلام وصاحب فكرة الثقافة الجماهيرية الناجعة في الخمسينيات من القرن الماضي، ونضالهما معًا في العلن ومن خلال “الجبهة الوطنية” التي ضمت شيوعيين ووفدًا وإخوان، وهدفت إلى تجميع المعارضين التقدميين في كتلة واحدة، خصوصًا بعد أحداث إعدام خميس والبقري وقرار مجلس الثورة بإلغاء الأحزاب، حتى تم القبض عليهما لعدة شهور في 1953. ثم القبض عليهما من جديد بعد مرور شهر واحد على زواجهما لينفذ كل منهما الحكم بالحبس 5 سنوات مع الأشغال، وتجربة المراقبة الأمنية بعد الإفراج عنهما، والتي عانيا منها ومن هذا المرور الثقيل لأحد العساكر كل ليلة للتأكد من وجودهما بالمنزل وإلا تم تكديرهما واستدعائهما، ثم دراسة نائلة اللغة العربية داخل الحبس واستكمالها في تجويدها إلى درجة تمكنها من العمل كصحفية في مجلة حواء.

كل هذا وغيره الكثير لا ترويه نائلة كامل من قبيل البطولة أو سرد للمآثر، لكنها تقصه بعفوية آسرة، تحكي الأحداث بتفاصيلها الدقيقة دون تدقيق التواريخ (كما تقول لابنتها من حين لآخر “هنبقى نسأل سعد”)، فلا يشغلها التاريخ المطلق بقدر ما تهمها حكايات البشر. وبهذه البساطة التي تسرد بها الوقائع تتخذ الشهادات الصادقة التي تقصها علينا قيمة الوثيقة التاريخية، فهي ليست فقط سيرة هذه السيدة الفريدة، وإنما مجموعة من السير والبورتريهات التي ترسمها بحديثها برهافة وفن لنجوم هذه الفترة الذين عايشتهم عن قرب؛ مثل يوسف إدريس وعلي الراعي وصلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوي وحسن فؤاد وبهجت عثمان وثروت عكاشة، وتحية كاريوكا وزوزو ماضي وغيرهم.

زمان لما كنت بافكر أكتب مذكراتي، أو السيرة الذاتية زي ما بتسموها، كنت بلاقي حاجات طريفة، بس ما كنتش بلاقي حاجات مهمة، علشان عادة الواحد لما يكتب السيرة الذاتية لازم يكون أنجز حاجة. أنا اتصرفت في حياتي، دخلت في موضوعات وخرجت من موضوعات ولكن في نهاية الأمر مش شايفة التصرفات والأنشطة دي كانت مفيدة لأي حد. يمكن أهم حاجة عملتها إن حتى لو دخلت في سكك غلط وسكك مش غلط في النهاية اتصرفت دايمًا بإخلاص شديد، باواجه نفسي واللي باشوفه لازم يتعمل عملته من غير ما أفكر هيجرى لي إيه، ما كنتش حذرة. أعتقد كنت عفوية، رجعت أعمل اللي شايفاه صح، كل مرة”.

ماعنديش بلد أروح له

يثير كتاب المولودة سؤالاً آخر لا يقل أهمية عن الشهادة كوثيقة تاريخية، وهو سؤال الهوية ومدى مسئولية الفرد عن أصوله الأولى، أو هل يمكن للمرء إذا ما تتبع أصوله الأولى أن يصل في النهاية إلى عرق خالص النقاء؟ وإلى أي مدى يتداخل ويتشابك هذا البحث مع  جنون نظريات الشوفينية التي تبناها الرايخ الألماني؟ وكيف تستوي في هذه الحال الاشتراكية مع هذا النوع من العنصرية كما تتساءل الراوية نفسها في أحد مواضع الكتاب؟

هذا الخليط من الأصول العائلية والأنساب هو ما شغل نائلة كامل، كما شغل ابنتها نادية كامل من قبل في فيلمها “سلطة بلدي”.

ففي عنوان الكتاب “المولودة” تكمن الإشكالية الكبرى للفتاة التي حملت اسم ماري إيلي روزنتال عند ميلادها، ثم صار اسمها -بعد زواجها من مسلم- نائلة كامل، لكنها لن تنجو أبدًا من إطلاق الأحكام عليها لكونها ذات أصول يهودية لا تُمحى.

فالأب اليهودي لم يكن يعرف جنسية له سوى المصرية، حيث وُلد في القاهرة عام 1909، أما الجد فكان من رعايا الدولة العثمانية في زمن لم يكن اختراع الجنسيات قد حدث بعد، حيث يتنقل الناس في ربوع الإمبراطورية العثمانية دون أوراق أو جوازات، بل وكانت مصر آنذاك أرض السماحة والرخاء ذهبت إليها الأم الإيطالية من قريتها البعيدة فرارًا من ضيق العيش إبان صعود الفاشية في إيطاليا، والتقت بالأب وأصرا على الزواج على الرغم من الصعوبات. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية وقدوم رومل على مشارف العلمين، اضطرهم الخوف من التنكيل بالأب اليهودي إلى أن يتحول إلى الديانة المسيحية بعد أن رفض أن يترك بلده، المكان الوحيد الذي يعرفه.

لم تدرك ماري الشابة الإيطالية الماركسية ولم تعي باختلافها، وهي التي شبت في أجواء سماحة الأربعينيات والجاليات الأجنبية البسيطة، إلا حينما تم القبض عليها بعد العدوان الثلاثي على مصر في إطار السياسات القومية التي طبقها عبد الناصر واعتبر فيها يهود مصر مشكوك في ولائهم الوطني، لانتماء نسبة كبيرة منهم لأصول أوروبية.

في مشهد شديد الدلالة بالكتاب، داهم البوليس المنزل لترحيلها، وبعد أيام من الحبس الانفرادي، قال لها الضابط المحقق مصحوبًا بعضو من الصليب الأحمر، يسألونها إلى أي بلد تود أن تسافر، فتجيب “ما عنديش بلد أروح له”، وبينما تحاول أن تصمد وألا تخر قواها وتغيب عن الوعي، يعيد سؤاله عليها، فتجيبه وسط إعيائها “أبويا وأمي هنا، معنديش أي جنسية غير المصرية”، فيتحداها الضابط الشاب مختالاً “لا ماعندكيش الجنسية المصرية”. وحتى حين صدر قانون الجنسية سنة 1951 للتقدم للحصول عليها عند سن 21 عامًا وخصوصًا لذوي الأصل العثماني، تقدم إليها أبيها مرات عديدة، وتقدمت هي أيضا للحصول عليها ولم يجبهما أحد قط، بل تم ترحيل الأب قسريًّا فيما بعد، واختار أن يكمل حياته في بلدة زوجته بإيطاليا، بينما لم تتاح الفرصة لآخرين من فقراء اليهود المصريين الذين لبوا نداء إسرائيل تحت ضغط أوامر الترحيل الفوري من بلدهم

تتجرأ نائلة كامل في نهاية الكتاب، وقد تجاوزت السبعين من العمر، وبعد أن روت حكايتها بإخلاص لحفيدها الأكبر نبيل (وهو أيضا حفيد السياسي الفلسطيني نبيل شعث) مخافة أن يشوه أحدهم صورة جدته الحبيبة ذات الأصل اليهودي، أن تتساءل بالجرأة والعفوية نفسيهما التي ميزت شخصيتها، بعد تاريخ النضال والانحياز للقضية الفلسطينية ومعاداة إسرائيل، وماذا عن أهلها وأبناء عمومتها الذين اضطروا للسفر إلى إسرائيل وانقطاعها التام عنهم رغم اضطرارهم للرحيل مع الضغوط الاقتصادية والمناخ الطارد لليهود المصريين، هل سيتاح لها وداعهم قبل أن ترحل عن العالم؟ وإلى أي مدى سيتقبل أبناء وطنها رغبتها تلك؟

 تكتب نائلة الجدة في مذكراتها التي عثرت عليها ابنتها “مش عاوزة يجيلك صدمة إنك فجأة تكتشف -الله دي من اليهود، وعندها أهل في إسرائيل، وإسرائيل هي العدو الأكبر للفلسطينيين وضد العرب- وأنت فلسطيني كمان. فمهم الواحد يحكي كدا على بلاطة حصل إزاي. أنا متأكدة إن أنت عندك من الذكاء ما يكفي إن لما تكبر تقدر تدرك وتفهم التناقضات الكتيرة اللي معمولة منها الحياة الإنسانية”.

لا بد أن الحفيد لن يخيب أمل الجدة، وأن القارئ أيضًا الذي عايش هذه المسيرة الوطنية الحافلة وكاد أن يسمع صدق صوت الراوية عبر صفحات الكتاب سيدرك بذكائه حجم التناقضات التي عاشتها، ويتفهم، أو ربما يتعلم، درس نائلة كامل المهم في عدم الكف عن طرح الأسئلة.