مراجعات

زكريا صادق الرفاعي

كتاب: تجارة الآثار في مصر 1880-1930

2025.01.18

مصدر الصورة : arkitektur

قراءة في أوراق هانز لانج المودعة بالأكاديمية الدنماركية للعلوم والآداب

 

أفاضت عديد من الكتابات[1] في الحديث عن النهب المنظم للآثار المصرية عبر العصور، ويمكن القول إن نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت العصر الذهبي لتجارة الآثار المصرية في العصر الحديث فأُغرقت الأسواق الأوروبية بكميات ضخمة من الآثار المصرية المتنوعة فضلًا عن مجموعات كبيرة من البرديات، ولم يتورع أحد فيما يبدو أمام قدسية وحرمة التراث المصري فقام "شامبليون" نفسه باقتطاع لوحة من مقبرة سيتي الأول كما انتزع الجنرال "مينو" لوحة الملوك من معبد أبيدوس، بل تورط بعض القناصل الأوربيين بشكل مباشر مثل "دورفتي"[2] (1776-1852) الذي كان نائبًا للقنصل الفرنسي بالإسكندرية و"هنري سالت" (1780-1827) القنصل البريطاني في مصر[3] في نقل كثير من الآثار المصرية، ولم يكن الأمر قاصرًا على الأجانب وحدهم فمحمد علي باشا نفسه اعتبر أن الآثار المصرية مجرد وسيلة وورقة في المساومات الدبلوماسية مع الغرب فمنح في إحدى المرات صديقه القديم الجنرال "سدني سميث" قلادة من الذهب عُثر عليها في كانوب وحذا حذوه وزيره "يوسف بوغوص" فأرسل بعض القطع الأثرية هدية لبلاط النمسا، والحقيقة أن معظم مجموعات الآثار المصرية في المتاحف العالمية الكبري في برلين ولندن ونيويورك وباريس قد تكونت بفضل الشراء تارة والتهريب تارة أخرى فضلًا عن التبرعات والهدايا وغالبًا لم يتم الكشف عن ظروف وملابسات الحصول على كثير من القطع ورحلتها بين جهات عديدة قبل مستقرها الأخير[4].

يكشف لنا كتاب "تجارة الآثار في مصر 1880-1930"، الذي نعرض له هنا، عن إحدى حلقات نهب الآثار المصرية المتصلة ولكن هذه المرة من خلال تجربة وشهادة الأثري الدنماركي هانز أوسترفيلد لانج (1863-1943) الأستاذ بجامعة كوبنهاجن وأمين المكتبة الملكية عقب زيارتين له هو وزوجته جوانا لمصر، الأولى قاما بها في عام (1899-1900) والثانية (1929-1930) وقد احتفظت زوجته بوثائق الرحلتين والمحفوظة بالمكتبة الملكية بالمتحف القومي ومجموعة كارلسبرج للبردي بكوبنهاجن، وبحسب ما ذكر المؤلفان، فردريك هاجن وكيم ريهولت، استغرق تأليف الكتاب الفترة من عام 2011 إلى عام 2016 عقب القيام بزيارات ميدانية إلى كثير من المتاحف والمواقع الأثرية في مصر ليكون الكتاب بمثابة دراسة حالة بصورة موسعة وربما استثنائية لتصبح موضع نظر الباحثين والمهتمين وشهادة عيان لرجل أمضى نحو ثلاثين عامًا في دراسة الآثار المصرية، ويقع الكتاب في 355 صفحة من القطع المتوسط، وأشار المؤلفان إلى التزامهما بالموضوعية ووضع الجوانب الأخلاقية والسياسية المتعلقة بتجارة الآثار جانبًا والحرص على إنجاز دراسة تاريخية في المقام الأول.

 القضايا والإشكاليات

عالج المؤلفان قضايا الكتاب في ستة أجزاء وقد بدت متداخلة وغير متناسقة وهذا أحد عيوب الكتاب الشكلية، وعقب تمهيد موجز عرضت المقدمة بإسهاب لطبيعة المادة الوثائقية للكتاب باعتبارها حجر الزاوية للدراسة، وهي مادة ضخمة وثرية حول تجربة لانج وخبرته بالحياة في مصر وشبكة علاقاته الاجتماعية ويوميات رحلاته وكم كبير من الخطابات والخرائط ودليل للرحلات وكثير من الصور الفوتوغرافية (اشتمل ألبوم الرحلة الأولى على 300 صورة، واحتوى ألبوم الثانية على 240 صورة)، واهتم الفصل الأول وهو أطول فصول الكتاب وزاد على 130 صفحة باستعراض تجارة الآثار في مصر خلال الفترة التي تواجد فيها "لانج" ومهمته في شراء قطع أثرية لحساب المتحف الدنماركي وعرض الفصل جانبًا من الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مصر آنذاك، كما تتبع ببراعة جغرافيا تجارة الآثار في مختلف المدن المصرية، في القاهرة والأقصر وقنا والفيوم والإسكندرية والقرنة، واختص الفصل الثالث (الذي لم يتجاوز بضع صفحات) بمواسم البيع ودور الوسطاء وطرق حصولهم على الآثار، بينما عالج الفصل الرابع تطورات سوق الآثار صعودًا وهبوطًا خلال فترة الدراسة لا سيما في ظل ظروف الحرب العالمية الأولى.

 ورصد القسم الثاني من الدراسة الجهود الحثيثة التي اتبعها لانج في الاستحواذ على مجموعات بردية في زيارته الأولى والثانية وحُفظت لاحقًا بكوبنهاجن، ونشر الفصل الأخير من الكتاب قائمة مثيرة بأسماء الوكلاء والبائعين المنخرطين في تجارة الآثار في مصر خلال تلك الفترة، رغم أنها غير مكتملة ونهائية لاستنادها إلى أوراق لانج في الدرجة الأولى، وإلى جانب الخاتمة اشتمل الكتاب على ستة ملاحق منها ما تعلق بالقانون الصادر في عام 1912 وهو المنظم لبيع الآثار المصرية وعرض لدور الدولة المصرية الرسمي في هذا الصدد، ومن الملاحق ما اختص بكيفية إصدار التصريحات الخاصة بالتنقيب للعاملين المصريين وأيضًا قائمة بالوسطاء المحليين التي بلغت نحو 250 اسمًا مع معلومات تفصيلية عنهم ربما تذكر للمرة الأولى، فضلًا عن كثير من الأشكال والرسوم التوضيحية، فعلم المصريات ليس مدينًا للعلماء وحدهم وإنما هناك أيضًا من عملوا في الظل، مثل عمال الحفر والمصورين والممولين، ولعل من أهم ما تضمنته ملاحق الكتاب جانبًا من تقارير قسم الآثار في الملحق الرابع، التي عكست النشاط المتزايد في مجال البحث والتنقيب من قبل المفتشين المحليين مثل توفيق أفندي بولس في المنيا وإلياس أفندي جرجس في سوهاج وحسن أفندي حسني بالجيزة ومحمد أفندي شعبان بالمنصورة، واشتملت القوائم على أسماء وكلاء غربيين مثل التاجر النمساوي الشهير جراف أوتو ثيودور (1840-1903) الذي نقل كميات ضخمة من بردي الفيوم إلى فيينا، وفيرني أوجستي وكان نشيطًا خلال الفترة من عام (1884-1897) في تجارة الآثار والبردي في مدينة أخميم، وما زالت تلك التقارير بمثابة مادة خام في حاجة إلى مزيد من الدراسات في المستقبل.

 كما عرض الكتاب أيضًا لجانب مهم وربما نادر بما تم الحديث عنه وهو الدمار الذي حلَّ ببعض القطع الأثرية في أحيان كثيرة عند نقلها حتى أن أحد الوسطاء اقترح تقسيم أحد التماثيل إلى عدة أجزاء ثم إعادة جمعه لاحقًا حتى يضمن استخراج التصريحات اللازمة لنقله إلى الخارج من دون عقبات، كما لم تسلم بدورها مجموعات البردي، فقام الأثري البريطاني ويلز بادج (1857-1934) بقطع لفائف البردي وأخفاها في كتب السياح وهم في طريق عودتهم إلى لندن.

نماذج عائلية

حملت الصور الفوتوغرافية بالكتاب كثيرًا من الدلالات التاريخية، وبعضها كانت صورًا لواجهات بعض المحلات المعنية ببيع الآثار وألقت الضوء على عمل كثير من العائلات المصرية وغير المصرية في تجارة الآثار آنذاك، ولعل ذلك قد يكون باعثًا للباحثين والمهتمين لتتبع الأرشيفات الأسرية لدى أبناء تلك العائلات في مصر وتلك التي هاجرت إلى أوروبا والولايات المتحدة ومن نماذج العائلات، الإخوة خوام ومحلهم بخان الخليلي ولهم باع كبير في تجارة الآثار المصرية ومؤسس الأسرة هو سليم خوام جاء إلى مصر في عام 1862 ويقال إنهم من أصول سورية مسيحية واستمرت الأسرة في أعمالها بمصر حتى انتقالها إلى باريس في عام 1977، وأسرة ألبرت عيد (1886-1950) وكانت حاملة للجنسية البلجكية ومعروفة بالتجارة في مخطوطات نجع حمادي وتعرضت للتأميم في عام 1956.

ومن كبار التجار المذكورين في القاهرة اليهودي المعروف موريس نحمان (1868-1948) وقد أُطلقت عليه ألقاب كثيرة مثل: "أسد القاهرة" و"التاجر الأسطورة"، ولم تكن شهرته محصورة فقط في مجال الآثار المصرية القديمة ولكنه باع قطعًا فريدة ونادرة من الآثار القبطية والإسلامية لمتاحف عديدة في أوروبا وأمريكا، وأشار البعض إلى أن جذوره يونانية وعندما وفد جدوده إلى مصر صاهروا كبار الأسر اليهودية المصرية، وقد ولد "موريس" في القاهرة وعمل بأحد البنوك لفترة ثم تفرغ للعمل في مجال الآثار وأقام متحفه الخاص في عام 1913، وفضلًا عن علاقاته ومواهبه امتلك تصريحًا من المتحف المصري ببيع الآثار، واشترى قصر البارون دولور ديجليون وهو تحفة معمارية بوسط القاهرة وقد شيد منذ عام 1886 في عهد الخديوي توفيق، وصار من المعالم البارزة في الحياة الثقافية والاجتماعية في القاهرة وتم إدراج القصر في كل دليل إرشادي عن القاهرة[5]. ومن بين أعمال نحمان ما عرف بكنز أسيوط وهي مجموعة من المجوهرات ترجع إلى العصر البيزنطي المبكر وكان مدركًا لقيمتها التاريخية وهي موزعة الآن بين عدة متاحف مثل متحف المتروبوليتان في نيويورك والمتحف البريطاني في لندن ومتحف برلين.

ومن أسماء التجار المصريين الواردة بالقائمة علي عبد الحاج الجابري (1840-1932) وأُطلق عليه أحيانًا "علي في الجيزة" أو "علي العربي" ربما نسبة لأصوله البدوية وكان حليفًا في عام 1896 لفرج إسماعيل وسيطرا معًا على تجارة الآثار وكان الأخير قد بدأ في التجارة منذ عام 1880 وظل هو التاجر الرئيس حتى عام 1897 حينما صار علي الجابري هو المهيمن على التجارة في الجيزة.

ومن بين الأسماء كذلك جرجس وعبدالنور غبريال وقد أشار لانج إلى أنهما من أهم التجار في قنا وذكر أنه سُمح لهما بالتنقيب في دندرة ولهما محل بالأقصر وقد عرف جرجس ببيع المخطوطات الخاصة بفترة المسيحية المبكرة وتعاون مع موريس نحمان وأيضًا حميد عبدالحميد من إدفو، ومن التجار أيضًا جندي فلتس واختص نشاطه ببيع بردي أخميم للألمان خلال الفترة من عام 1901 إلى 1910.

 خاتمة

الحقيقة أن هذا الكتاب غني بالتفاصيل الجديدة في مجمله واستدعى المؤلفان إلى الذاكرة كتابات لتجارب آخرين مماثلة لتجربة لانج، منها كتاب جين كابرت الصادر في عام 1936 والذي نشر فيه رسائل الأثري ورجل الأعمال الأمريكي تشارلز إدوين (1833-1906) الذي تبرع بمجموعته الأثرية لمتحف بروكلين، والمثل المعاصر الثاني هو كتاب آنا جينتر الصادر في عام 2002 عن رحلات رجل الأعمال الأمريكي تشارلز لانج فرير (1854-1919) الذي أسس معرضًا خاصًّا احتلت فيه مجموعته المصرية مكانة متميزة، وقد ضاعف من أهمية هذا الكتاب ما تضمنه من مادة أرشيفية ثرية ومتنوعة وتقارير وملاحظات ومقابلات شفوية ورسوم وخرائط وغيرها أضفت عليه أهمية استثنائية، ومن الممكن إجراء مزيد من الدراسات عنها وكذلك مقارنتها بغيرها، وقد نزعت نصوص الكتاب الهالة المقدسة المحاطة بمسيرة ورحلة بعض الأثريين والمختصين بعلم المصريات فقد كُشف النقاب عن عملهم في تجارة الآثار إلى جانب عملهم الأكاديمي وظهرت أسماء مثل فلاديمير شميدت أستاذ لانج الذي لقنه مبادئ التجارة ولودفيج بوركهارت وهوارد كارتر وغيرهم، وبدا مثيرًا للتناقض أن الأثري الدنماركي لانج الذي كان مناهضًا لبيع وتداول المشروبات الكحولية باعتباره مسيحيًّا متدينًا كان منخرطًا في الوقت نفسه في تجارة الآثار بصورة غير قانونية، ولعل ذلك صدى للنظرة الاستعلائية التي صاحبت الاستعمار الحديث ورأت دومًا أن أوروبا هي الأجدر بهذا التراث باعتبارها هي قلب العالم وحضارته.


1- انظر على سبيل المثال في هذا الصدد، محسن محمد، سرقة ملك مصر، 1999، عبدالحليم نور الدين، مهاب درويش، سرقة الآثار في مصر القديمة، ودونالد مالكولم ريد "فراعنة من علم الآثار والمتاحف والهوية القومية المصرية من حملة نابليون حتى الحرب العالمية الأولى"، ترجمة الدكتور رءوف عباس، القاهرة، 2005، وائل الدسوقي، تاريخ علم المصريات، 2015.

2- من أصول إيطالية وحصل على الجنسية الفرنسية وخدم في الحكومة الفرنسية وباع مجموعته الضخمة من البردي لمتحف تورينو.

3- حل محل الميجور ميست عقب استقالته في عام 1816 ومعه تعليمات من المتحف البريطاني بألَّا يدخر وسعًا في البحث عن الآثار وكانت منازله بالقاهرة والإسكندرية مليئة بالآثار المتنوعة وتوفي ودفن بمدينة الإسكندرية.

4- استمر إهداء قطع من الآثار المصرية من جانب الحكومات المصرية المتعاقبة وبصورة ملحوظة في عهد الرئيس السادات.

5- اعتمدنا على محاضرة الباحثة إيمان عبدالفتاح في المركز الأمريكي بالقاهرة، نوفمبر 2020.