مراجعات
زكريا صادق الرفاعيكتاب: "المسجد الأبيض" ذكريات طريق الحرير
2024.11.09
تصوير آخرون
كتاب: "المسجد الأبيض" ذكريات طريق الحرير
يبدو أن سردية طريق الحرير القديم بعوالمه السحرية الغامضة ومدنه الموغلة في القدم كبخارى وخيفا (KHIVA) وسمرقند قد ظلت مادة أثيرة ومعينًا لا ينضب ألهبت خيال وحماس الكثيرين قديمًا وحديثًا فطفق المؤرخون والرحالة والأدباء والشعراء يتقصون ويستنطقون عوالمها وخباياها، وفي الأغلب الأعم فرض الجانب التاريخي نفسه فكان له النصيب الأوفى في الحضور والإصغاء لدى الجميع بحكم تنوع أحداثه وتراكم طبقاته عبر الزمن، لا سيما ما اتصل منها بقضايا الهُوية والتنوع الإثني والديني وتقاطع الثقافات والمواقف من الأقليات وأسفرت تلك القضايا عن تراث عريض يعاد إنتاجه ويتجدد من آن إلى آخر.
ومن بين الإصدارات الحديثة التي حظيت بمراجعات موسعة في الأدبيات الثقافية "ذكريات المسجد الأبيض" (2022) لمؤلفته "صوفيا سماترا" وهي كاتبة متمرسة صدرت لها عدد من الروايات منها "غريب أولندريا" (2013) وقد استغرقت عشر سنوات حتى أتمت كتابته ونالت عليه عدة جوائز، كما أنها أستاذة للأدب العربي والإفريقي بجامعة جيمس ماديسون في "فرجينيا"، وصدر لها "وجوه الوحش" (2018) وهي معنية بفحص الانطباعات والكلمات اعتمادًا على سيرتها الذاتية مع أخيها "ديل سماترا" الذي شاركها في رسم الوجوه وهي بالكلمات، ولعل أحدث كتبها "النغمة" أو الصوت وهو عمل مشترك مع "كاتى زامبرينو" وهو تجربة في النقد الأدبى.
صوفيا سماترا
وبحسب سيرتها فإن "صوفيا" من الجيل الثانى من المهاجرين، فوالدتها من أصول سويسرية ألمانية رغم مولدها ونشأتها في ولاية داكوتا الأمريكية وكانت عضوة نشيطة في البعثات الدينية المتجولة والتقت "سعيد شيخ" والد صوفيا المسلم في الصومال في عام 1970 وهو باحث ومؤرخ، وأقاما عقب زواجهما في الولايات المتحدة الأمريكية.
واستوحت صوفيا فكرة كتابها من تراث وتقاليد "المينونتيس" التي كبرت وترعرعت في ظلها، وهى جماعة من البروتستانت نُسبوا إلى مينو سيمون (1496-1561) وهو قس كاثوليكي سابق صار مناهضًا لتقاليد الكاثوليكية، ومن دعاة الإصلاح الديني ونبذ العنف، فحرم مشاركة أتباعه في الجيش، وهو الذي صاغ التعاليم المؤسسة للطائفة في سويسرا وتنبأ بأن العودة الثانية للمسيح ستكون في عام 1889 في خيفا، وأوضحت صوفيا أنها قرأت عن طقس الحج لأول مرة في كتب التاريخ وكانت دهشتها بالغة واستقرت في وعيها تلك المفارقة الغريبة حيث شُيدت كنيسة للمينونتيس في قلب قرية مسلمة بآسيا الوسطى.
وتنفيذًا للنبوءة اتجهت جماعة من المينونتيس الناطقين بالألمانية في صورة قافلة مكونة من نحو مئة أسرة بقيادة البروسي "كلاس إبز" واجتازت الأراضي الروسية لأداء الحج في مدينة خيفا انتظارًا لعودة المسيح التي حُددت في 9 مارس في عام 1889، ولم تكن الرحلة ميسورة وهلك في الطريق نحو عشرة من الأطفال، وعندما جاء الموعد المحدد سلفًا ولم يحدث شيء أعاد المينونتيس حساباتهم مجددًا وذكروا أن الموعد سيحل في عام 1891، ومرة أخرى لم يحدث شيء لكنهم قرروا البقاء بعد أن تقلص عددهم إلى ستين عائلة، وشيدوا كنيستهم التي أطلق عليها السكان المحليون "المسجد الأبيض"، وأقاموا في سلام مع جيرانهم المسلمين نحو نصف قرن حتى أجبرتهم السلطات الروسية على الهجرة في عام 1935 فتفرقت بهم السبل وهاجر أغلبهم إلى ألمانيا، وقد رأت الكاتبة في تلك الرحلة تجسيدًا لجانب من حياتها المعاصرة بصورة أو بأخرى، فلم تكتفِ بمجرد القراءة والتأثر، ولكنها سعت إلى البحث عن هويتها عبر الزمن فذهبت في رحلة في عام 2016 إلى أوزبكستان ليس تتبعًا لآثار المينونتيس فحسب بل بحثًا أيضًا عن ذاتها فكانت رحلة داخلية بالدرجة الأولى، وأصبحت فصول الكتاب محطات للرحلة واكتشاف الذات الذى تضمن أيضًا اكتشاف الآخرين.
وعرض الكتاب لتجربة صوفيا في طفولتها ونشأتها بين ثقافتين وعالمين: المسلمة الصومالية السوداء والمينونتيس ذات الأصول البيضاء، فالأم نشأت في مزرعة بداكوتا والأب سبق له رعي الإبل والأغنام في فيافي الصومال، ثم انخلعت الأسرة كلية عن جذورها وتنقلت من مكان إلى مكان، فعمل والدها "سعيد شيخ" أستاذًا للتاريخ الإفريقي، وحمل الأسرة على التجول معه من إنديانا إلى تنزانيا ثم كنتاكي وحتى لندن إلى أن استقرت في جنوب أورنج بعدما بلغت صوفيا سن العاشرة، ثم واصلت هي محطات الترحال في شبابها فعملت وأقامت فترات في جنوب السودان ومصر والمغرب وتنزانيا.
وربما تأثرًا بأبيها استأنفت صوفيا دراساتها العليا ووقع اختيارها على أعمال الروائي السوداني الراحل "الطيب صالح" لتكون صلب دراستها. ومن اللافت للانتباه أن الكاتبة نشرت خطابًا مفتوحًا منها إلى الراحل الكبير في دورية الأدب العربي الصادرة في لندن في خريف عام 2018، وكانت قد مضت على وفاته عدة سنوات، باحت فيه بمدى تأثرها وشغفها بالكاتب الراحل، فبدأت خطابها بكل صيغ الاحترام والتبجيل والبنوة بقولها: "سيدي العزيز، سيدي المحترم، الحاج المحترم، عمي العزيز، عزيزي الطيب صالح". وتساءلت في البداية عن مشروع قصته الأخيرة التي رغب في إصدارها في خمسة أجزاء وصدر منها اثنان فقط، وهل ترك مخطوطات لم تنشر، ثم سألته عن رأيه وشعوره تجاه الدراسات الأكاديمية عنه، ولعلها قصدت نفسها في المقام الأول، ثم عرجت على جوانب أبطاله في "موسم الهجرة إلى الشمال" وكيفية اجتماع الخير والشر معًا في نفس المكان، واستدعت ذكرياتها في جنوب السودان قبل الانفصال، خاصة الموطن الأصلي للطيب صالح، وحاولت الكاتبة الوقوف على الحبل السري الخفي الذي ربطها بأعماله، فذكرت تأثره بقصة "محمود حسين مطان" آخر من تم إعدامه في مدينة "كارديف" وهو تاجر وبحار صومالي في الأصل تزوج بامرأة من "ويلز" واتُّهم بقتلها، وفي عام 1952 أخبره البعض أثناء المحاكمة أنه هالك لا محالة سواء كان مذنبًا أو بريئًا، ثم أضافت الكاتبة أنها بحكم أصول والدها شعرت بأن هناك رابطة جمعت بين الصومال والسودان.
تطرقت بعدها إلى إشكالية الموقف من الأطفال في روايات الطيب صالح، فليس هناك أطفال من أصول مختلطة وكأنها تتحدث في الوقت نفسه عن مراحل طفولتها وحياتها، فقالت إن "سعيد مصطفى" بطل رواية موسم الهجرة لم ينجب أطفالًا من زوجته الإنجليزية البيضاء (مذكرة بثنائية وإرث عطيل القائد صاحب البشرة السوداء، وديدمونة البيضاء) وشدَّدت على وصيته تجاه أطفاله من زوجته الثانية في السودان قبل وفاته، مطالبًا بحمايتهم من غوايات العوالم والغرائب السحرية التي دائمًا ما تأتي من الشمال، آملًا أن يكبروا ولهم جذورهم القوية وليس كالطيور المهاجرة التى تتقاذفها العواصف والأنواء، وبصراحة مفرطة أضافت الكاتبة بأن تجاهل الحديث عن أولئك الأطفال ثمرة الزواج المختلط لم يمنع من حدوث المستحيل والمتناقضات، مثل حالتها هي أو أبناء محمود حسين مطان، أو بنات الطيب صالح من زوجته الإسكتلندية.
ثم مضت في تساؤلاتها واستدعت هذه المرة "فرانتز فانون" الطبيب النفسي والفيلسوف السياسي الذي كان لديه طفلان من أصول مختلطة وكيف كتب عن "البشرة السوداء والقناع الأبيض"، وقد مكثت صوفيا هى وزوجها في "يامبو" بجنوب السودان ثلاث سنوات كمعلمين في المرحلة الثانوية، وكانت الحرب الأهلية ما زالت محتدمة ولكنهما على حد تعبيرها كانوا في الجنوب المحرر وانقلب التعليم من اللغة العربية إلى الإنجليزية التى أقبل عليها الطلاب بحماسة خاصة هؤلاء الراغبين في التواصل مع كينيا وأوغندا ولطالما تساءلت بداخلها عن السبب الذي جعل هؤلاء أفضل من العرب؟ وماذا حدث لثقافتهم البدائية؟ وفى نهاية المطاف أشارت إلى أنها عقب مرور ما يقرب من عشرين عامًا في دراسة وتدريس أعمال وكتابات الطيب صالح ما زالت في حيرة مستمرة ولم تعرف بعدُ سر جاذبية أعماله لها على وجه اليقين.
من جهة أخرى فإننا لا نستطيع فهم أعمال "صوفيا" بمعزل عن اهتماماتها البحثية، ومن النماذج الدالة، مقالتها المنشورة بدورية الآداب الإفريقية في شتاء عام 2017 تحت عنوان "نحو تاريخ عالمى للمستقبلية الإفريقية"، وهى نزعة جمعت بين خليط من الخيال العلمي والتاريخي والواقعية السحرية والفنون المرئية الرقمية، ويُنظر إليها على أنها أداة لإعادة سبر غور التجربة الإفريقية وتمثلها، من خلال الاستعانة بالتراث الإفريقي المتنوع والميثولوجيا الموغلة في القدم ودمجهما في التكنولوجيا المتطورة لرسم فضاء كبير ونسج سردية جديدة يتداخل فيه الماضي بالحاضر وبالمستقبل لكسر الصورة النمطية المتداولة عن البلدان الإفريقية، ووُصفت تلك الدعوة بأنها أمريكية التوجه ولكنها مستوحاة من الجذور التاريخية للقارة الإفريقية، وقد صك المصطلح "مارك ديري" في مقالة له في عام 1993 بعنوان "السود نحو المستقبل" وعرفها بأنها خيال أمريكي – إفريقي، وحظيت المقالة بمراجعات موسعة من قبل "صمويل ديلاني" و"جريج تاتي" و"تريكا روز"، واعتمدت مقالة "مارك ديري" بكثافة على أرشيفات الشَّتات الإفريقي.
وباختصار فإن النزعة المستقبلية الإفريقية سعت إلى خلق حوار حول مستقبل افتراضي جديد لمدينة فاضلة ومجتمع مثالي متحدية الزمان والمكان والقوام الرئيس لهذا المجتمع هو الشعوب المنحدرة من أصول إفريقية، التي لديها القدرة على بناء مجتمع جديد تختفي فيه كل تمايزات الجنس والطبقة واللون وتسود فيه المساواة التامة.
وعندما سُئلت صوفيا في إحدى اللقاءات عمَّا إذا كانت تعتبر نفسها كاتبة إفريقية فأشارت بأنها لم توصف بذلك على الإطلاق رغم أنها على علاقة به وجزء منه فقد ولدت وكبرت في الولايات المتحدة ولم تذهب إلى إفريقيا إلا في الرابعة والعشرين من عمرها وأنها سعيدة بتقبلها من جانب الكتاب الأفارقة واعتبارها منهم، وهي لم تعرف عن الهوية والدراسات العرقية إلا من خلال الدراسة الجامعية.
والواقع أن كثيرًا من القضايا والإشكالات التي طرحها كتاب "سماترا" أو على الأقل بعضا منها كانت هاجسًا ملحًّا منذ وقت مبكر لبعض الكتاب العرب الذين استقروا في أوروبا، ولعل من أهمهم أمين معلوف، الذي سبر في كتاباته أغوار العلاقات بين الأنا والآخر والشرق والغرب والمسيحية والإسلام، خاصة كتابه المهم "الهويات القاتلة قراءات في الانتماء والعولمة" (1995)، مشيرًا إلى الطبيعة الخادعة والمراوغة لمصطلح الهوية، فهي ليست جوهرًا مطلقًا أبديًّا، وسعى إلى طرحها من منظور كوني إنساني لأنها في حالة صيرورة مستمرة.