مراجعات

زكريا صادق الرفاعي

كتاب "المماليك في العقل المصري الحديث"

2024.10.12

مصدر الصورة : ويكيبديا

تغير الذاكرة عن المماليك 1919-1952

 

بات حقل دراسات الذاكرة من الحقول المعرفية ذات الحضور الواسع في عالم اليوم وقد شرع يؤسس لنفسه بقوة خاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين ربما لحجم الآلام والتجارب القاسية التي خلفتها الحربان العالميتان على شعوب العالم في فترة وجيزة، والذاكرة الجماعية بمكوناتها وأطيافها المتنوعة ليست ثابتة ولا محصنة دومًا بل هي عرضة في كثير من الأحيان للاختراق والطمس بحكم تأثرها بمعطيات الحاضر لا سيما التنامي والاستخدام غير المحدود للتكنولوجيا ووسائل الاتصال. 

وهذا الكتاب "المماليك في العقل المصري الحديث"، من تأليف إيل كونج سونج[1]، هو في الأساس أطروحة نال بها الباحث درجة الدكتوراه من جامعة تل أبيب بإشراف إسرائيل جرشوني[2]، وصدر الكتاب عن دار بلجريف عام 2017. ولعل قيمة الكتاب الكبرى هو أنه مجرد مثال دالٍّ يلقى الضوء على الاهتمامات البحثية في الجامعات العبرية تجاه الدراسات التاريخية للعالم العربي ومصر في القلب منه[3]. والقضية الجدلية الرئيسة التي طرحتها هذه الدراسة هي محاولة رصد النظرة السلبية تجاه الحقبة المملوكية، وكيف استمرت هيمنتها على الذاكرة الجمعية المصرية، وقد اختزلت في الأغلب الأعم على أنها مجرد فترة من الفوضى السياسية والطغيان! ومن ثم فإن الغرض الرئيس للدراسة على حد قول الباحث هو اكتشاف الكيفية التي نظر بها المؤرخون والمثقفون المصريون إلى الماضي المملوكي ومدى تمثلهم وفهمهم لجوانب تلك الحقبة، ولم تحظَ القضية رغم أهميتها في رأي المؤلف بدراسات جادة وعوضًا عن ذلك تم إفساح المجال ربما عن عمد لتكريس تلك الصورة النمطية السلبية عنهم في أغلب الأعمال التاريخية المصرية، ورغم تلك الصورة القاتمة كانت هنالك نظرة أخرى إيجابية من جانب بعض المؤرخين والمثقفين للحقبة المملوكية بل اعتبر البعض حكامها من رموز القومية المصرية، ومن ثم فإن الكتاب معني أيضًا بإلقاء الضوء على تلك النظرة الإيجابية المهملة واستحضارها، ثم الأهم كيف وظف المؤرخون والمثقفون المصريون الذاكرة التاريخية عن المماليك لخدمة رؤيتهم وأهدافهم السياسية والأيدلوجية.

والكتاب مكون من قسمين، اشتمل القسم الأول على مقدمة وفصلين عرض الفصل الأول لقضية المماليك في النصوص المدرسية خلال الفترة من1921 إلى 1949 ورصد الفصل الثاني تمثيل المماليك في مشروع أرشيف عابدين التاريخي[4]، وحمل القسم الثاني من الكتاب عنوان المماليك في الذاكرة الجمعية وتضمن الفصل الرابع الحديث عن الرواية التاريخية والقومية المصرية، وتصدى الفصل الخامس لقضية المماليك في الروايات والمسرحيات التاريخية، وعالج الفصل السادس المماليك في الكتب والدوريات التاريخية وأخيرًا خاتمة وقائمة مطولة بالمصادر التاريخية المتنوعة التي اعتمدت عليها الدراسة.

أنصار الاتجاه القومي

حرص المؤلف في البداية على استعراض التحول الذي شاب الكتابة التاريخية في مصر في الربع الأول من القرن العشرين ولعل ذلك إحدى ثمار ثورة 1919، فقد اتجه المؤرخون القوميون[5] إلى إعادة كتابة تاريخ مصر ليكون من خلال رؤية مصرية خالصة وليست رؤية غربية أو استشراقية والسعي إلى تحرير الذاكرة الجمعية وتعزيز ودعم الوعي القومي، ومن ثم عارضوا نهج "توماس كارليل"[6] الذي أفرد المساحة الأكبر للفرد في صنع التاريخ وبالتالي فلم تعُد الأهمية للحكام العظام ولا الملوك وإنما الأمة المصرية فكانت مهمة المؤرخين القوميين هي "تمصير الماضي" كما راج في تلك الفترة الحديث عن أثر الاتجاه البيئي في تاريخ مصر وكثر الحديث عن الشخصية المصرية عبر التاريخ، فجميع الغزاة من الهكسوس والفرس ومرورًا باليونان والرومان ووصولًا إلى العرب والمماليك والعثمانيين جمعيهم قد تمصروا وصاروا جزءًا من صفحات التاريخ المصري.

وبدأ الحديث عن المماليك وهويتهم في النصوص المدرسية في عام 1920، فعرفهم البعض على أنهم ترك وغير عرب، وألحقهم البعض الآخر بالقومية المصرية، وبنفس الكيفية فسر البعض الحرب بين المماليك والعثمانيين على أنها صراع بين مصر والعثمانيين وأن مصر بعد الحرب لم تعُد تلك السلطنة المملوكية العظيمة الجانب كما كانت في الماضي.

ويمكن القول إن المؤرخين القوميين قد أدمجوا المماليك خلال عقد العشرينيات ضمن نسيج القومية المصرية، وأثنوا كثيرًا على المماليك وكثيرًا ما ظهر السلطان ببيرس كنموذج إيجابي لحكام المماليك ووصف بأنه أنجح سلاطين المماليك البحرية وإنجازاته العسكرية شاهدة على ذلك من تنظيمه للجيش والأسطول ووقف غزو المغول وإعادة الخليفة العباسي المستنصر إلى القاهرة، وفي حديثه عن معركة فارسكور بين المماليك والصليبيين أشار المؤرخ محمد رفعت إلى مشاركة المصريين في المعركة وانتصار توران شاه بفضل تلك المشاركة، وبصفة عامة وصفت الحقبة المملوكية الأولى بالازدهار السياسي والثقافي والمعماري وتوسعت حدود الدولة فشملت مصر والشام والحجاز وصارت القاهرة رمزًا للعظمة والثقافة الإسلامية وتقاطر إليها الأثرياء من الشرق والغرب وتنافس المماليك فيما بينهم في تشييد العمائر المختلفة من مساجد وزوايا وخانات وأسبلة وامتد ذلك العمران إلى الحرمين الشريفين في مكة والمدينة.

ورغم الصورة السلبية عن المماليك في الحقبة العثمانية فقد قدمت النصوص المدرسية صورة مغايرة لعلي بك الكبير فاعتبرته أهم حاكم في تاريخ مصر العثمانية وصوَّرته بطلًا استقل بمصر عن الدولة العثمانية وأفاضت في الحديث عن حملاته العسكرية ورغبته في السيطرة على الطريق التجاري مع الهند وإخضاع شبه الجزيرة العربية برمتها وتأمين الملاحة في البحر الأحمر، ولم تنجح الدولة العثمانية في القضاء عليه إلا بعد تدبير مؤامرة مع صهره محمد بك أبو الدهب، وعقب وفاة علي بك الكبير عادت الصورة السلبية لتحيط بالمماليك حتى قدوم الحملة الفرنسية.

الأعمال الأدبية

في بداية ثلاثينيات القرن العشرين وعلى النقيض من القومية المصرية الخالصة اتجه البعض إلى وضع تاريخ مصر ضمن السياق العربي وبزغت تدريجيًّا القومية العربية، كما راجت كثيرًا فكرة الذوبان والاندماج التاريخي للعرب في المجتمع المصري وكان ذلك فيما يبدو خصمًا من مكانة المماليك، ومن ثم لم يحظَ المماليك بنفس نظرة الإعجاب والحماسة من قبل مؤرخي الاتجاه الملكي برعاية الملك فؤاد (1868-1936) ربما باستثناء جاستون فيت (1887-1971) الذي تحدث عن الحقبة المملوكية بمسحة من الإعجاب والثناء لكنه لم يسبغ عليهم صفة القومية المصرية، بينما تجاهل آخرون الفترة برمتها أو اقتصر وصفها على أنها مجرد حقبة مظلمة، وظهر ذلك بوضوح في الأعمال الأدبية، ففي روايته "المملوك الشارد" وصف جورج زيدان (1861-1914) المماليك بأنهم طغاة وخونة وحمَّلهم أمراض وعلل المجتمع المصري فصاروا رمزًا للماضي البغيض مقابل المستقبل المشرق المتمثل في محمد علي والعثمانيين. واعتبرهم عقبة في طريق التقدم وحملهم المسئولية عن مذبحة القلعة في عام 1811. وكرر زيدان الحكم نفسه في روايته "استبداد المماليك" محطمًا هذه المرة الصورة المشرقة لعلي بك الكبير في الكتب المدرسية، فوصفه بالاستبداد والتعطش إلى السلطة، وأبدى زيدان فقط بعض الثناء في روايته "شجرة الدر" على الظاهر ببيرس لا سيما نقله الخلافة إلى القاهرة وأيضًا شجرة الدر لاهتمامها رغم صراع السلطة بالبحث عن مستقبل مصر.

وبطريقة مماثلة لجورج زيدان ذهب محمد فريد أبو حديد (1893-1967) إلى الرأي نفسه في روايته "ابنة المملوك"، فالماليك هم سبب الفوضى السياسية والفساد ومن ثم فإن عقاب محمد علي إياهم عادل والصراع بين الطرفين هو موضوع الرواية الرئيس، وانحاز أبو حديد إلى المصريين عندما ذكر أنهم من قادوا المقاومة ضد الإنجليز وليس عمر مكرم، وكان غريبًا وصفه لمحمد بك الألفي أقوى زعماء المماليك آنذاك، بأنه مجرد غريب عن مصر، والرسالة الأخيرة للرواية هي التشديد على أن محمد علي هو باعث النهضة الحديثة في مصر[7]. وبلور محمد سعيد العريان (1905-1964) في عمله "على باب زويلة" موقفه في اتجاهين، هما القومية المصرية، والليبرالية السياسية، وبحسب ذلك فالحكام صنفان: القوميون أو الفاسدون، وعدَّ الغوري وقايتباي من الطغاة الفاسدين بينما رمز إلى القوميين بطومان باي، وأرجع السبب في ذلك إلى هزيمة المماليك أمام العثمانيين لغياب الحرية السياسية، واعتبر المؤلف أن ذلك نقد مبطن من جانب العريان للملك فاروق، وأدمج العريان في روايته "شجرة الدر" بين المماليك والقومية المصرية، وأبرز مهارة شجرة الدر السياسية والدبلوماسية واعتبرها تجسيدًا لدور المرأة القيادي في المجتمع.

وبعيدًا عن القومية المصرية والعربية فقد اعتبر "علي أحمد باكثير" (1910-1969) أن المماليك هم رموز الإسلام والعالم الإسلامي لدورهم في مواجهة المغول والصليبيين في روايته التاريخية الشهيرة "وا إسلاماه"، وبنبرة أقل أضفى أحمد شوقي (1968-1932) رغم ميوله السياسية المؤيدة للخديوي والعثمانيين في عمله عن علي بك الكبير الصادر في عام 1893 مسحة عربية إسلامية لهويته عندما برر رفضه التعاون مع القائد الروسي، كما وصفه بالمصلح والراعي للفقراء فهو ليس طاغية بل سعى إلى الإصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية وأبدى ندمه الشديد على الخروج على العثمانيين بعد أن لاحت هزيمته واقتربت نهايته.

على أي حال أثار الكتاب عديدًا من القضايا والإشكالات حول تاريخ مصر الحديث والمعاصر، واستعان الكاتب بحشد كبير من المصادر والمراجع، ولعل ما افتقدته هذه الدراسة هو غياب عمل صبحي وحيدة الشهير "في أصول المسألة المصرية"، وأيضًا "الشخصية الوطنية المصرية" لطاهر عبد الحكيم وهما من أهم ما كتب من إطار نظري حول فلسفة التاريخ المصري ولهما صلة مباشرة بقضايا الدراسة.

خاتمة

تنوعت الاتجاهات والرؤى تجاه الحقبة المملوكية فأضفت عليها بعض الأدبيات طابع القومية المصرية، ووصفهم آخرون بالانتماء العربي والإسلامي وفي بعض الفترات كان نصيبهم التجاهل التام والاكتفاء بوصف عصرهم بالاضطراب والفوضى ربما تمهيدًا وتكريسًا لحقبة أخرى تكون هي نقطة البدء في تاريخ مصر الحديث، ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى التوظيف الأيديولوجي للتاريخ، وهو أمر ليس بجديد بل قديمًا قدم التاريخ نفسه والموضوعية المطلقة لا وجود لها على أرض الواقع، وكثيرًا ما احتدم الجدل والصخب حول جوانب كثيرة من تاريخ مصر الحديث والمعاصر وهويتها على نحو ما حدث في الربع الأول من القرن العشرين، في كتابات لطفي السيد وسلامة موسى ومحمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهم من الأعلام، وهو جدل محمود عندما تكون غايته الدرس التاريخي بحق، لكنه قد يتحول إلى وحش كاسر يأكل الأخضر واليابس في طريقه، وربما شطر الدولة والمجتمع معًا حينما تحركه وتقوده النوازع والأهداف المتربصة في الداخل والخارج وهو ما يجب التنبه له في ظل السيولة الدولية السائدة في عالم اليوم.


1- باحث بمركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة كونكوك، سول، كوريا الجنوبية.

2- أستاذ بجامعة تل أبيب، مختص في التاريخ الفكري والثقافي لمصر والعالم العربي الحديث ومن أعماله التي تُرجمت إلى العربية بالتعاون مع جيمس جانكوفسيكى، هوية مصر بين العرب والإسلام (2013)، وأيضًا مواجهة الفاشية في مصر (2022).

3- نتذكر في هذا الصدد أعمال ديفيد أيالون وجبريل باير ومايكل ونتر ويعقوب لاندو وهم الرعيل الأول.

4- مشروع أرشيف عابدين التاريخي تبناه الملك فؤاد واستغرق نحو ربع قرن وكانت مهمته ضبط إيقاع المد القومي المتزايد واحتواءه من خلال وجود مؤسسة مهيمنة تصبح هي الناطق الرسمي التاريخي للملكية المصرية، وقد عُني الملك فؤاد على نحو خاص بترسيخ فكرة "المؤسس" لجده محمد علي والإلحاح على وصف "المجدد" لوالده الخديوي إسماعيل، واستعان بكثير من الأجانب مثل جرافيني وساماركو وهنري دودويل وشارل رو وبيتر كرابيتيس، راجع على نحو خاص في هذا الصدد:

Yoav Di-Capua. The Thought and Practice of The Modern Egyptian Historiography.1890-1970. Unpublished Diss.Princeton Uni.2004.

5- ونعنى بهم ذلك النموذج الجديد من المؤرخين المحترفين الذين بدوا على الساحة، مثل محمد رفعت (1889-1975) ومحمد صبري السربوني (1894-1978)، ومحمد شفيق غربال (1894-1961) وهم عمد المدرسة التاريخية المصرية، وحول مسيرة هؤلاء الرواد، راجع، أحمد زكريا الشلق، نهضة الكتابة التاريخية في مصر، الهيئة العامة للكتاب، 2023، ص 73-84.

6- توماس كارليل (1795-1881) كاتب وفليسوف إسكتلندي ومن رموز العصر الفيكتوري ومن أشهر كتبه " البطولة وعبادة الأبطال"، ولا نتفق مع المؤلف في طرحه عن معارضة كارليل ولا يمكن التعميم، فالبعض كانت لديه قناعة بدور الفرد في صنع التاريخ وبدا ذلك واضحًا في كتاب شفيق غربال عن محمد على الكبير الصادر في عام 1944.

7- وبينما تبارى كثيرون في الحديث عن مآثر وأعمال محمد علي، كان للإمام محمد عبده (1849-1905) رأي آخر، فكتب مقاله الشهير بعنوان: "آثار محمد علي في مصر"، الذي انتقد فيه بعنف التجربة برمتها ونشر في يونيو في عام 1902 بمجلة المنار من دون ذكر اسمه صراحة، مكتفيًا بتذييل المقال بتوقيع: "مؤرخ".