حوارات
أيزاك شوتينركيف غيرت الأوبئة وجه التاريخ
2020.04.01
ترجمة: أسماء يس
كيف غيرت الأوبئة وجه التاريخ
في كتابه الجديد "الأوبئة والمجتمع: من الموت الأسود حتى الوقت الحاضر"، يدرس فرانك م. سنودن، الأستاذ الفخري للتاريخ وتاريخ الطب في جامعة ييل الأمريكية Yale، كيف أثَّرت الأمراض وتفشي الأوبئة على السياسة، وسحقت الثورات، ورسخت العنصرية والتمييز الاقتصادي. لقد غيرت الأوبئة أيضًا المجتمعات التي انتشرت فيها؛ فأثرت على العلاقات الشخصية، وعلى عمل الفنانين والمثقفين، والبيئات الاصطناعية والطبيعية. فالأوبئة لانهائية النطاق، تنتشر لقرون ولقارات، وهو ما يسعى سنودن إلى تفسيره واكتشافه؛ كيف سمحت الهياكل الاجتماعية للأمراض أن تزدهر بهذا الشكل. "إن الأوبئة ليست أحداثًا عشوائية تصيب المجتمعات بشكل مفاجئ دون سابق إنذار..بل على العكس، كل مجتمع ينتج نقاط ضعفه الخاصة.. ولدراستها جيدًا علينا فهم بنية المجتمع ومستوى معيشته وأولوياته السياسية".
يوم الجمعة الماضي، 28 فبراير 2020، تحدثت عبر الهاتف مع سنودن، بعدما وردت تقارير عن انتشار مرض كوفيد 19 بشكل وبائي في مختلف أرجاء العالم، وقد انخرطت الحكومات بدرجات متفاوتة في الاستعداد تحسبًا لما هو أسوأ من ذلك. في خلال حديثنا، الذي عُدِّل واُختُصِر كي يكون واضحًا، ناقشنا سياسة تقييد السفر في أثناء الأوبئة، وكيف أثَّرت الاستجابات اللاإنسانية للمرض على الحكومات، وكذلك الطرق التي تعامل بها الفنانون مع الموت الجماعي.
أود أن أبدأ بسؤال عام؛ كيف شكَّلت الأوبئة وجه العالم الحديث؟
إحدى طرق التعامل مع هذا الأمر هي اكتشافي لمدى اهتمامي بالموضوع، والذي كان إدراكًا لشيء؛ أعتقد أنهما شيئين. الأوبئة هي فئة من الأمراض التي يبدو أنها تضع البشر في مواجهة أنفسهم ليدركوا حجمهم الحقيقي. وهذا يعني أنه من الواضح أن لديها كل ما يتعلق بعلاقتنا بفنائنا، وبالموت، وبحياتنا. كما أنها تعكس علاقاتنا مع البيئة؛ البيئة المصنوعة التي ننشئها نحن، والبيئة الطبيعية التي تستجيب. إن الأوبئة تظهر العلاقات الأخلاقية التي لدينا تجاه بعضنا البعض كأشخاص، ونحن فعلًا نرى ذلك اليوم.
وهذه إحدى الرسائل العظيمة التي تواصل منظمة الصحة العالمية مناقشتها. الجزء الرئيسي من الاستعداد لمواجهة هذه الأحداث هو أننا نحتاج، كبشر، إلى إدراك أننا جميعًا في هذا الأمر معًا، وأن ما يؤثر على شخص واحد في أي مكان يؤثر على الجميع في كل مكان، ومن ثَم فإننا لا محالة جزء من فصيلة أو نوع واحد، لذا فنحن نحتاج إلى التفكير بهذه الطريقة بدلًا من التفكير من زاوية الانقسامات العرقية والإثنية، والمكانة الاقتصادية، وغيرها من الأمور.
لقد قمت ببعض القراءات الأولية، وأعتقد أن هذه قضية تثير مسائل فلسفية ودينية وأخلاقية عميقة حقًا. وأن الأوبئة شكَّلت التاريخ جزئيًّا؛ لأنها دفعت البشر حتمًا للتفكير في تلك الأسئلة الكبيرة. لقد أثار تفشي الطاعون، على سبيل المثال، السؤال الكامل عن علاقة الإنسان بالله. كيف يمكن أن يحدث حدث من هذا النوع مع ألوهية حكيمة ومطلقة العلم ونافذة البصيرة؟ من الذي سيسمح بتعذيب الأطفال وإيلامهم وبأعداد هائلة؟ لقد كان للطاعون تأثير هائل على الاقتصاد. قتل الطاعون الدبلي تقريبًا نصف سكان قارات العالم، ومن ثم كان له تأثير هائل على مجيء الثورة الصناعية وعلى العبودية والقنانة. كما أن للأوبئة، كما نرى الآن، آثار هائلة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فهي تحدد نتائج الحروب، ومن المحتمل أيضًا أن تكون جزءًا من بدايات الحروب في بعض الأحيان. لذا، أعتقد أننا نستطيع القول إنه لا توجد منطقة رئيسية من حياة الإنسان لم تمسها الأمراض الوبائية بعمق.
هل كنت تحاول توضيح أن الطريقة التي نستجيب بها لكل هذه الأشياء غالبًا ما تكون انعكاسًا لآرائنا العرقية أو الدينية بدلًا من إنسانيتنا عمومًا، وأن الاستجابة أظهرت عيوب البشر بطريقة أو بأخرى؟ أم كنت تثير نقطة مختلفة؟
أظن أنني كنت أحاول توضيح نقطتين. أعتقد أن السلسلة السببية تعمل في كلا الاتجاهين؛ فالأمراض لا تصيب المجتمعات بطرق عشوائية وفوضوية، كل الأحداث مرتبة سلفًا؛ لأن الميكروبات تتوسع بشكل انتقائي، وتنتشر لاستكشاف المنافذ البيئية التي أنشأها البشر. وهذه المنافذ تُظهر، إلى حد كبير، من نحن؛ وما إذا كنا، على سبيل المثال، في الثورة الصناعية، نهتم فعلًا بما حدث للعمال والفقراء والظروف التي يعيش فيها الأشخاص الأكثر ضعفًا.
وفي عالم اليوم، توجد الكوليرا والسل في المسارات الخاطئة التي أوجدها الفقر وعدم المساواة، وأوجدتها قناعتنا، كشعوب لم تجد غضاضة في القبول بذلك، باعتباره أمرًا مقبولًا أو مناسبًا، أو على الأقل أمر لا مفر منه. ولكن من الصحيح أيضًا أن الطريقة التي نستجيب بها تعتمد بدرجة كبيرة على قيمنا والتزاماتنا، وإحساسنا بأننا جزء من الجنس البشري ولسنا وحدات أصغر. قاد بروس إيلوراد Bruce Aylward بعثة منظمة الصحة العالمية إلى الصين، وعندما عاد إلى جنيف، طُرح عليه سؤال مشابه للغاية للسؤال الذي طرحتَه، فقال إن الشيء الرئيسي الذي يجب أن يحدث، إذا أردنا أن نكون مستعدين الآن وفي المستقبل، أنه ينبغي أن يكون هناك تغيير جذري في تفكيرنا. علينا أن نفكر أنه يجب علينا العمل معًا كجنس بشري لننظم أنفسنا لرعاية بعضنا البعض، وأن ندرك أن صحة الأشخاص الأكثر ضعفًا بيننا هي عامل حاسم لصحة جميعنا، وإذا لم نكن مستعدين للقيام بذلك، فلن نكون مستعدين أبدًا لمواجهة هذه التحديات المدمرة لإنسانيتنا.
حسنًا، هذه فكرة قاتمة جدًا، إن جاز لي القول، لأنني أعتقد أنه من غير المحتمل أن نختبر هذا التغيير في العقلية.
[يضحك] لم أرد أن أبدو متفائلًا للغاية بشأن هذا الأمر، لكنني أوافق على أن هذا هو ما يجب أن يحدث. هناك أيضًا جانب مظلم للبشرية وهذا جزء من مصلحة ذاك. ما الخيار الذي سنختاره؟ ماذا سنفعل حين نواجه هذا؟ لا أعتقد أن الأمر محدد مسبقًا، فها نحن نشهد دراما أخلاقية إنسانية رائعة.
إن فكرة العلاقة بين كيفية استجابتنا لهذه الأشياء وانتشارها تكاد تكون توراتية.
أنا أتفق تمامًا مع ذلك..هي فعلًا مسألة موجودة على هذا المستوى، وهي جزء كبير من إحساسنا بالضرورة الأخلاقية.. أعتقد أن هذا جزء كبير من تاريخ الأمراض الوبائية.
قبل أن يسوء الأمر أكثر، دعني أسألك سؤالًا أبسط..
معذرة على كل هذه الانشغالات، دائمًا ما تحتج بناتي على ذلك..
هل سبق وحدث أن كانت الاستجابة لأي من الأوبئة ملهمة للإنسانية بشكل ما؟
حسنًا، أعتقد ذلك بالتأكيد. وأظن أنني حين قلت إن الأوبئة تضعنا في مواجهة أنفسنا، كنت أقصد أنها لا تظهر الجانب المظلم من البشرية فقط، بل تُظهر أيضًا الجانب البطولي. على سبيل المثال، وهو مثال جيد حقًا؛ ما فعلته منظمة "أطباء بلا حدود" وقت أزمة فيروس الإيبولا، والطريقة التي وضعوا بها، وبكامل إدراكهم، حياتهم ومستقبلهم مباشرة على المحك، دون أي مصلحة شخصية على الإطلاق ودون أي مكافأة، لقد فعلوا ذلك لمجرد أنهم ملتزمون بالدفاع عن حياة وصحة أضعف الناس في العالم، وهم يقومون بذلك كل يوم، وفي أجزاء كثيرة من العالم، وهم حاليًا في الصين يواجهون الأزمة.
أعتقد كذلك أن الأوبئة تبرز أرقى الصفات. في الواقع، تُكتب الروايات أيضًا حول هذه الأحداث الكبرى. الأمر يؤثر على آدابنا وثقافتنا.. أتذكر على سبيل المثال الرواية العظيمة عن الطاعون وهي "المخطوبون" للروائي الإيطالي أليساندرو مانزوني Alessandro Manzoni؛ وهو يذكر رئيس أساقفة ميلانو؛ الكاردينال بوروميو، الذي ذهب إلى البيوت الموبوءة وكان على استعداد للتضحية بحياته لرعاية أفقر الناس وأكثرهم بؤسًا بين شعبه.
ماذا عن ردود الفعل الإيجابية لقادة وأنظمة العالم، وما التغيرات السياسية الإيجابية التي تحدث بعد الأوبئة؟
بالتأكيد هناك ردود فعل إيجابية، أعتقد أن الأوبئة كانت سببًا في نهاية العبودية في العالم الجديد. إن نجاح ثورة توسان لوفرتر Toussaint Louverture في هاييتي لم يكن ليتحقق إلا بوباء الحمى الصفراء. وعندما أرسل نابليون أسطولًا ضخمًا لإقرار العبودية في هايتي مجددًا، نجح تمرد العبيد، لأن العبيد القادمين من أفريقيا كانوا يتمتعون بمناعة قوية لم تكن موجودة لدى الأوروبيين البيض الذين كانوا جنودًا في جيش نابليون. وهذا ما أدى في النهاية إلى استقلال هاييتي. أيضًا، إذا فكر المرء من وجهة النظر الأمريكية، فإن هذا هو ما أدى إلى قرار نابليون بالتخلي عن فكرة السيطرة الفرنسية على العالم الجديد وبالتالي الموافقة، مع توماس جيفرسون، في عام 1803، على التنازل عن ولاية لويزيانا، التي ضاعفت حجم الولايات المتحدة.
لو قلبنا السؤال؛ كم مرة ترافق وجود هذه الأوبئة مع الاضطهاد السياسي، أو استخدم ذريعة للقمع السياسي؟
أعتقد أنه كان ينظر إليها دائمًا باعتبارها جزءًا من القمع السياسي. أنا مقتنع بأن القرن التاسع عشر كان فترة فظيعة، ليس فقط للثورات، ولكن أيضًا للقمع السياسي. على سبيل المثال، المذابح التي حدثت بعد ثورة 1848 في فرنسا، وخصوصًا في باريس، أو بعد كوميونة باريس. وجزء من السبب في كل هذا العنف وهذه الدموية المفرطة أن الأشخاص الذين كانوا في القيادة رأوا أن الطبقات العاملة لم تكن فقط خطيرة سياسيًا، بل كانت أيضًا خطيرة للغاية طبيًّا. كان في إمكانهم إطلاق العنان للكوارث على المجتمع بأسره. وأعتقد أن هذا كان بالفعل جزءًا من مجاز الطبقات الخطرة، وأعتقد على سبيل المثال، أن هذا أدى إلى المذابح الدموية التي وقعت في 1871 بعد إخماد كوميونة باريس.
ما رأيك في استجابة الصين لفيروس كورونا الحالي؟
هذا سؤال مثير للاهتمام حقًا؛ وهو سؤال أعتقد أننا سنحتاج إلى التفكير فيه بعمق لفترة طويلة، لأنه يحتوي على عدد من الجوانب المعقدة جدًا. أولًا أسلوب القبضة الحديدية الذي تعامل به الصينيون في 23 يناير، عندما استخدموا الحاجز الوقائي، وهو حجر صحي بالجملة، بتطويق الجنود ورجال الشرطة لمناطق ومجتمعات جغرافية كاملة. ما حدث في هذه الحالة، في ووهان؛ المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو 11 مليون نسمة، ثم في مقاطعة هوبي، التي تضم ما يقرب من ستين مليون شخص، أنهم قرروا عزلها عزلًا كاملًا.
وهذا شيء يشبه التدابير التي كانت تتخذ في زمن الطاعون، وقد حدثت مرارًا وتكرارًا، مثلما حدث وقت أن تفشى وباء الإيبولا. ومشكلة الحاجز الوقائي أنه أخرق، وثقيل الوطأة؛ يصل متأخرًا جدًا، ويفسد العنصر الأساسي للصحة العامة، وهو المعلومات. عندما يُهدد الناس بالعزل التام فلن يتعاونوا مع السلطات. وعليه، لن تكون السلطات قادرة على أن تعرف ما الذي يحدث، في الوقت الذي يهرب فيه الناس، ومن ثم يتفشى الوباء. لقد تفاجأت للغاية عندما رأيت أن هذا كان رد فعل الحكومة الصينية في البداية. فهي تدابير تختلف عن معايير الصحة العامة، التي تطورت كثيرًا منذ زمن الطاعون، والتي تركز على إيجاد الحالات الفردية ثم تتبعها وعزلها. لذا فقد شعرت بالرعب وتوقعت الأسوأ. ثم اتضح أن النظام بدأ يغير مساره ببطء. يستطيع المرء أن يرى مع مرور الوقت، أن الصينين كانوا حريصين للغاية على تسجيل الحالات، في محاولة لتحفيز السكان على التعاون، في محاولة لإصلاح ضرر الأيام الأولى. أعتقد أنها قصة تحتوي على أكثر من مجرد استجابة واحدة. لم يكن الأمر كله سيئًا، ولم يكن كله جيدًا.
وأنا لا أتفق تمامًا مع رد فعل منظمة الصحة العالمية التي أشادت بهذه التدابير باعتبارها سياسة صحة عامة رائعة. هذا يجعلني خائفًا. هل هذا يعني أن الأنظمة الأخرى والدول الأخرى التي يوجد فيها رجال أقوياء يجب أن يفرضوا عمليات العزل الإجباري، كما جربت وقت الإيبولا في غرب أفريقيا، حيث لم تنجح؟ هذا يرعبني. لا أعتقد أن هذا هو الدرس المبتغى. أعتقد أن النهج الأكثر دقة، أنه ربما لم ينجح الأمر نجاحًا كبيرًا في الصين، وفي الواقع، فإن شي جين بينج على استعداد للاعتراف، على عكس منظمة الصحة العالمية للغرابة، بأن أخطاءً ارتكبت، وأنه كان عليهم تغيير المسار، وأنهم بحاجة إلى التعلم من تلك الأخطاء. أعتقد أن هذا ما استطاعت الصين القيام به.
هذا مثير للاهتمام، لأنك فيما سبق قلت إن منظمة الصحة العالمية، أو على الأقل أعضاء منها، كانت تدعو الناس للعثور على إنسانيتهم المشتركة، ولكنك في الوقت نفسه تقول إنهم على استعداد أيضًا للثناء على رد فعل، كان في البداية على الأقل، غير إنساني إلى حد ما.
نعم. أنا لا أبرر ذلك، ولكن يمكنني القول إنني أتفهم ذلك، لأنه سيكون من الرهيب استبعاد أكبر عضو في منظمة الصحة العالمية، واستبعاد بلد يمر في خضم أزمة غير عادية. لذلك أقول لك إنني أفهمه. وفي الوقت نفسه، كان هناك قدر كبير من الضغوط بشأن الشفافية التامة، وعرض الأدلة، والاتصالات، والمناهج العلمية المعتمدة على البيانات الواقعية والعلمية للصحة العامة، وهذا ليس ما حدث في المراحل الأولى من رد الفعل الصيني. لقد فعلت الصين ذلك لاحقًا.
رجوعًا بالزمن قليلًا، هل هناك أفكار عامة بشأن كيفية تفاعل الفنانين مع الأوبئة؟
أعتقد أن أحد الأشياء التي تعلمتها عن الأوبئة هو أن كل مرض، في رأيي، يشبه الإنسان. كل شخص هو فرد مختلف عن أي شخص آخر. إنها ليست مجرد أسباب وفاة قابلة للتبادل. يعتمد الأمر على طبيعة كل فرد، وأما بشأن كيف تتفاعل المجتمعات والفنانون معها، فالأمر يعتمد على عدد الأشخاص التي تقتلهم الأوبئة، إذا قتلت الناس بطرق مؤلمة، إذا قتلت الأطفال والشباب، أو إذا خلَّفت أيتامًا وراءها، أو إذا ما كانت أمراضًا مألوفة أو غريبة المنشأ.
على سبيل المثال، أثار الطاعون مشاكل الوفيات والموت المفاجئ. وتفاعل الفنانون مع ذلك، خصوصًا في القارة [أوروبا]. في الدول الكاثوليكية، كان التوجه الرئيسي هو النظر إلى الأمرباعتباره تذكيرًا بأن هذه الحياة مؤقتة؛ فيرى المرء اهتمامًا كبيرًا بموضوع الموت المفاجئ، المروع الرهيب، الذي يجرف الجميع في طريقه. لذلك تجد استخدامات لرموز مثل الساعة الرملية، أو للعظام؛ كما في لوحة فانيتاتم vanitatem .ستجد كذلك إشارات مثل "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الواعظ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ". كان هناك إحساس هائل بهذا المعنى، وكان هناك توجه لعبادة قديسي الطاعون، الذين صُوروا على نطاق واسع. يمكن للمرء أن يرى هذا ينتشر عبر أوروبا؛ النزوع نحو التدين، إن موضوعات مثل الموت المفاجئ، والتوبة، وتهيئة شؤونك وروحك قبل أن يفترسك الطاعون فجأة كان لها تأثير تحويلي على أيقونية الفن الأوروبي.
يمكنك أن ترى هذا حتى في القرن العشرين؛ في ذلك الفيلم الرائع من إخراج إنجمار بيرجمان "الختم السابع"؛ إذ مثَّل الطاعون استعارة لما كان يقلق بيرجمان في عام 1957، ألا وهو الحرب النووية. يمكن للمرء أن يرى أن فيه كل الأشياء التي تحدثت عنها فيما يتعلق بالطاعون، بما في ذلك رقصة الموت التي ينتهي بها الفيلم. سترى لوحات لحاصد الأرواح يأتي، وهي حقًا مثال على استمرار هذه الاستجابة الفنية للموت.
وهناك أمراض أخرى تثير استجابات مختلفة. يمكن للمرء أن يتحدث عن مرض السل ومدى اختلافه في المرحلة الرومانسية في القرن التاسع عشر. هذا أمر غريب حقًا، إذ يعتبر السل، بالنسبة لي، أحد أكثر الطرق المروعة والمؤلمة للموت، لأنك في النهاية، تختنق، ومع ذلك، من ناحية أخرى، سوف تجد تمجيدًا له مع الأبطال الأوبراليين على المسرح الذين يُنظر إليهم باعتبارهم شيئًا جميلًا! كذلك في رواية "كوخ العم توم" التي لا تدور حول الرق فقط، بل أيضًا حول السل.
لماذا تمجَّد مرض السل؟
أريد أن أقول شيئًا آمل أن يجعلك تبتسم، لكني أود أن أكون قادرًا على إعطائك إجابة قاطعة على ذلك. البشر كائنات مضحكة، أليس كذلك؟ ليس من السهل فهم كل الأشياء التي تم القيام بها، ولكن فيما يتعلق بالطاعون، فقد كان مرضًا أثر على الجميع. أعتقد أن هذا أمر بالغ الأهمية. لقد كان نهاية العالم، الحساب النهائي، الأبوكاليبس. من ناحية أخرى، اعتقد الناس خطأ، وظنوا –كما علمتهم المذاهب الطبية في أوائل القرن التاسع عشر- أنه مرض النخبة، والفنان، والجميل، والمثقف، وأنه يجعل الناس أكثر جمالًا، لذلك حاولت الموضة تحويل النساء إلى مخلوقات مسلولة. فترى تولوز لوتريك Toulouse-Lautrec يرسم امرأة مصابة بمرض فقدان الشهية، تضع مسحوق الأرز على وجهها، بحيث تبدو شاحبة مثل الأشخاص المصابين بالسل. في الواقع، تزوج فنانو ما قبل الرفائيلية من عارضاتهم، اللائي كن مريضات بالسل. كما قال أصدقاء فيكتور هوجو له إن لديه عيب كبير ككاتب، وهو أنه لم يكن مريضًا بالسل، وبالتالي لن يكون كاتبًا رائعًا كما كان سيحدث لولا ذلك.
كان هناك مفكر وكاتب أمريكي متخصص في الشأن الثقافي، وهو آرثر سي جاكوبسون Arthur C. Jacobson، الذي كان لديه تصور أن أمريكا، في نهاية القرن التاسع عشر؛ عندما بدأ السل في التراجع، ستواجه أزمة في الفنون والعلوم والثقافة، لأنه لم يعد هناك عباقرة كما كانت عليه الحال في وقت انتشار السل.
هذا مذهل..
فيما يتعلق بالعلوم؛ أنا لست من أتباع لوديت [عضو جماعة محطّمي الآلات خوفًا من إحلال الآلة مكان الإنسان العامل]، لكن العلوم في بعض الأحيان تتخذ مسارات رجعية، وأحد المسارات الرجعية هو النظرية الجرثومية للمرض. لقد ساعدت النظرية الجرثومية في الواقع على وصم الفقراء. وشددت على أن السل لم يكن مطلقًا مرضًا يصيب الطبقات الجميلة "الراقية"، بل يصيب الطبقات القبيحة التي كانت قذرة وفقيرة. وهنا، يتغير التفسير كله. إذا نظرت إلى بطل رواية "اللاأخلاقي" The Immoralist التي كتبها أندريه جيد في أوائل القرن العشرين، ستجد أنه يرى في إصابته بالسل أكثر الأشياء حقارة وإثارة للاشمئزاز يمكن أن تحدث على الإطلاق. لقد اختفت فكرة المرض الجميل إلى الأبد، ولم يعد مرض السل كذلك مجددًا.
لننهي الحوار هنا: ربما نشهد رد فعل لوباء يجمع بين المأساة والمهزلة، كما رأينا قبل يومين؛ حين انبرت مجموعة من مسؤولي الصحة في البيت الأبيض، وقررت الإشادة بالرئيس ترامب، بالإضافة إلى الحديث عما يحدث. هل لديك أي قصص مسلية من تاريخ الملوك المجانين أو الحكام المجانين الذين يتعاملون بشكل سيئ أو ربما بشكل مأساوي مع الأوبئة؟
نعم. لست متأكدًا من أنها مضحكة تمامًا، لكني أعتقد أن رد فعل نابليون على الأمراض التي دمرت حكمه كان مأساويًا وغريبًا على طريقة الكوميديا السوداء، إذ لم يكن يقدِّر حياة جنوده. لذلك كان يتحدث عن دخول الحمى الصفراء جزر الهند الغربية إهانة شخصية له. وأعتقد أن هذا شيء قد نراه مرة أخرى. إنه شيء ربما يمكنك الضحك عليه. ربما من الأفضل أن ننظر إلى التاريخ باعتباره كوميديا حدثت في الماضي، لكني لا أعتقد أن ما سيحدث هذا العام المقبل فيما يتعلق بهذا الوباء في الولايات المتحدة سيكون ممتعًا على الإطلاق. أن يكون لدينا مسؤولون في البيت الأبيض يقولون "حسنًا، هذا ليس أكثر من نزلة برد، ولقد وضعناها تحت السيطرة"، عندما تكون كل الأشياء خارج السيطرة، حسبما أرى، وقد وضعوا أشخصًا لا يؤمنون حتى بالعلم في موقع المسئولية.
الأوبئة والأنانية شيئان لا يمكن للطبيعة البشرية التغلب عليهما.
أتفق معك في هذا.
* نُشر هذا الحوار على الموقع الإليكتروني لمجلة ذا نيويوركر The New Yorker في 3 مارس 2020
https://bit.ly/2U9Skyr