هموم
نانسي محمدكي لا نكره ما نُحب!
2021.01.01
كي لا نكره ما نُحب!
«أنت البدايات وآخر ساحل ومينا»..
هكذا شدا محمد عبده، فيما كنت أجلسُ أمام جهازي العتيق، أستمع إلى الموسيقى، وأعمل على المشاريع التي أبنيها، وأتمنى أن أجد لها منفذًا يراها منه الناس، وأن يتمتعوا بجمالها كما أتمتع أنا، وعاد ذهني إلى البدايات.. بداياتي أنا كمترجمة تخطو في عالم غريب عجيب.. اسمي نانسي محمد الصياد، عمري خمسة وثلاثون عامًا.. وأعمل مترجمة حرّة... وهكذا جرت الأمور.
في عالم الترجمة اليوم، تختلف تجارب كل منا حسب طريقة دخولنا إليه وتعاملنا معه، ومع اللغة التي نجيدها.. وأحيانًا ما نريد أن نتخصص فيه.. فمن يريد التخصص في المجالات المالية والقانونية يتجه للعمل مع الشركات ومكاتب المحاماة وغيرها ممن يحتاج إلى ترجمة المستندات نظرًا إلى طبيعة عملهم مع الجهات الخارجية. وتتفاوت درجة المترجم هنا حسب الطلب على اللغة التي يجيدها، ومقدار تمكنه من مصطلحات ذلك المجال الذي يريد العمل فيه.
تبدأ حكايتي منذ أن وعيت على الدنيا.. وبدأت أقرأ؛ إذ كان لمكتبة والدتي الفضل الأكبر في تفتيح مداركي وعقلي على العالم من حولي.. فقررت في سن مبكرة - الصف الأول الإعدادي - أن أتخصص في اللغة الإنجليزية، لأتعرف على ثقافات العالم من حولي، بعد أن تشبعت طويلاً بمسرحيات شكسبير المترجمة والمختصرة للأطفال في المرحلة الابتدائية، ومنها للترجمات الأعمق والأكثر تعقيدًا كلما تقدمت في العمر.
وفي عام 2006، بعد أن تخرجت من كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية وانعدام رغبتي في العمل التقليدي كمدرسة، أو كسكرتيرة في إحدى الشركات، ونويت أن أبحث عن عمل في مجال الترجمة.. ولكنني لم أجد الفرصة الحقيقية إلا عبر الإنترنت بعدها بستة أعوام، عن طريق إحدى المجموعات التي كونت فريقًا من المترجمات اللاتي كن يبحثن عن عمل، وعن فرصة، فكانت تلك البداية الحقيقية التي أخذتها كخطوة لتقربني إلى حلمي الأكبر؛ ألا وهو الترجمة الأدبية..
تقلَّبت كثيرًا في الأعوام الخمسة التالية بين سماسرة الترجمة؛ الذين يتسلمون العمل من مكاتب الترجمة، ويلقونه إلى فريق كامل من المترجمين، فيتفرق دمه بينهم، ويرمون لهم بالفتات بعد ذلك. ترجمت آلاف الفواتير والإيصالات والعقود، التي ضغطت على أعصابي، وأهلكت بدني، بسبب ضغط البشر الذين كانوا يعاملوننا -نحن المترجمين- كالعبيد؛ إذ يلقون إلينا بعشرات أو مئات الصفحات، ويضغطون علينا في الوقت كي يتمكنوا من تسليم العمل مبكرًا والحصول على الأجر كاملاً، دون مراعاة لأي ظروف أو أي طوارئ قد تحدث لنا.. أما عن أجرنا نحن فطالما كانوا يماطلوننا فيه، أو يلقون إلينا بربعه، ونحن نعلم مقدار ما أخذوا، لكننا كنا نستسلم لعدم وجود مورد آخر.
أذكر أن أحدهم اتصل بي ليلاً، وظل يصرخ شاتمًا معنفًا، لأن الإنترنت قد انقطعت عني، ولم أتمكن من إرسال الملف في الموعد الذي حدده، وأذكر أيضًا صدمتي عندها، وصوتي الذي ارتفع والشتائم التي كلتها له ولعائلته ردًا على ما قاله من تجاوزات، ثم كان قراري بعدها بالانسحاب من العمل معه، وتحذير الجميع منه ومن أسلوبه الدنيء في المعاملة. ولكن أينما وليت وجهي بعد ذلك وجدت أشباهه..
ترقيت بعدها قليلاً؛ من التعامل مع السماسرة إلى مرحلة التعامل مع المكاتب مباشرة، وكان الأمر أفضل، لأنهم يعرفون قيمة المترجم وقيمة وقته وجهده.. لكنني لم أجد نفسي وسط الأرقام والمصطلحات القانونية الجافة، ووجدت جسدي يعتل معترضًا عليَّ وعلى ما أفعله به. فكانت اعتراضاته من ارتفاع في الضغط والقولون العصبي وقرب الانهيار العصبي.. والطامة الكبرى.. أنني أحسست أنني سأكره حب عمري، وأبغض الترجمة، فكانت الوقفة.
أنا عاشقة للغات، أحب عجينتها السهلة السلسة، وميزانها الدقيق الذي يُقاس فيه كل حرف بميزان من ذهب. لِمَ أسجن روحي وعقلي بين المصطلحات الجامدة التي تذيقني الويل والثبور وعظائم الأمور إن خالفت ووضعت واحدًا منها مكان الآخر؟ وكان القرار في أواخر عام 2017 أن أتوقف تمامًا عن العمل في أي مجالات قانونية أو مالية أو غيرها، وأني لن أعمل إلا في الترجمة الأدبية، حلم عمري منذ الطفولة، وعرضت عليَّ المكاتب التي أعمل معها زيادة الأجر كي لا أترك العمل، ولكنني كنت قد حسمت أمري، وقبلها عرَّفتهم على بعض ممن أثق بهم ليكملوا ما تركت أنا. احتجت إلى فترة نقاهة لبضعة أشهر، ثم بدأت بعدها البحث عن فرصة مع دور النشر المصرية والعربية.
لرحلتي في هذا الجزء حديث طويل؛ أي مترجم مبتديء سيعاني الأمرين كما عانيتُ في البداية، كنت أرسل السيرة الذاتية مع نماذج لقطع مترجمة للعديد والعديد من دور النشر، ولا حياة لمن تنادي. يتساوى في ذلك دور النشر الكبيرة والصغيرة منها، إلا أن الصغيرة منها كانت تجيب بأنها لا تتعامل في الروايات المترجمة بعد، أما الكبيرة فلا ترد حتى بكلمة..
وكانت الانفراجة عندما وجدت إعلانًا على أحد مواقع الترجمة يطلبون مترجمًا لكتاب مهم، فشحذت همتي وأرسلت سيرتي الذاتية إليهم، وأتتني الإجابة بإرسالهم لقطعة يطلبون مني ترجمتها كعينة.. وانتهى الأمر بتعاقدي مع دار العربي للنشر والتوزيع في معرض الكتاب عام 2018، لأترجم لهم كتاب «مختصر تاريخ الصين» الذي أتبعناه في العامين التاليين بكتابي «مستقبل النسوية»، و»لماذا النسوية مفيدة للرجال؟».
لقد حققت جزءًا من حلمي برؤية اسمي على كتاب ترجمته بيدي، ولكن يظل الباقي من الحلم؛ وهو أن أترجم ما أريده أنا؛ ما أحب أن أترجمه من الفانتازيا والميثولوجيا، وغيرها من العوالم المستغلقة علينا هنا كمتحدثين للغة العربية، ولكنني كالعادة، أصطدم بحسابات دور النشر، وعدم إيمانهم بجدوى ما أريد أن أفعله بشكل مادي. الحال نفسه؛ دور النشر الكبيرة كالعادة لا تجيب، والحكومية تستغرق وقتًا طويلاً وأنا - كما تعرفون - أريد أن أرى ثمار جهدي في حياتي، لا أن يحصدها ورثتي بعد رحيلي. ودور النشر الصغيرة تبحث عن موطيء قدم مستقر ماديًا، فلا يغامرون ولا يخاطرون بشيء قد يسبب لهم الخسارة. ونتيجة لذلك فلا زلت أدور في هذه الرحى، أصارعها وتصارعني، وأنا متأكدة من أنني لست وحدي؛ فأنا أتحدث عن جزء من مشكلات كل مترجم.. ولا بد أن كثيرًا منهم قد مر بجزء مما مررت به، وكل خطوة في هذا الطريق أعدتني وتعدُّني لما هو قادم، وأنا في انتظاره.