دراسات

شريف إمام

مراسلات قراء مجلة الهلال (1892-1906) الجزء الرابع

2024.04.19

مصدر الصورة : آخرون

(دراسة من خمسة أجزاء-الجزء الرابع)

 

باب مراسلات الهلال وقضية حقوق المرأة

 

من القضايا التي أُفرد لها مساحة كبيرة في باب مراسلات الهلال، قضية حقوق المرآة، ولعل صاحب الهلال قد رام إلى جعل هذا الموضوع مادةً للنقاش بين قرائه عندما طرح في مسائله الثلاثين سابقة الذكر ثلاث مسائل تتعلق بالمرأة، كان أهمها سؤال الهلال: هل للنساء أن يطلبن كل حقوق الرجل؟ افتُتِح النقاش حول تلك المسألة بمراسلة تحمل توقيع (زكي م.) موطنه الآستانة العلية، ونعتقد أنه الأديب زكي مُغَامِز بك صديق جورجي زيدان ومترجم بعض أعماله إلى التركية، وكان مُغَامِز محل تقدير صاحبه، فأثنى عليه في كتابه "الرحلات الثلاث" قائلًا: "إنه من أدباء العرب الذين يحسنون الإنشاء بالتركية". بدأ المراسل بقوله: "توقعت منذ يوم صدور أول جزء من هلالكم الأغر، أن يوافينا أحد أفاضل القُرَّاء بحل المسألة: (هل للنساء أن يطلبنَ كل حقوق الرجال؟)، فانقضت السنة الأولى، وها نحن نقتطف ثمرات الهلال الأغر في سنته الثانية، ولم نقرأ لأحدٍ بحثًا في هذا الموضوع، مع أنه في مكان من الأهمية؛ لتعلقه بنصف النوع البشري أو أزيد. وكنت آمُل أن إحدى السيدات تتقدم منتصرة لذلك، فلمَّا لم أر أحدًا من الجنسين تقدم؛ فرأيتُ أن أكونَ لهما دليلًا". ومضى يُوضح رأيه في تلك المسألة بأنه يحق للنساء أن يطلبن كل حقوق الرجال، إذا كان لديهن الكفاءة للقيام بأعمال الرجال البدنية والعقلية، ثم يذهب بالشواهد إلى قدرتهن على فعل ذلك؛ لذا يحق لهنَّ أن يطلبن كل حقوق الرجال. 

لم يتأخر الرد، فكتب الطبيب والأديب أمين الخوري ردًّا على حجج زكي مُغَامِز، مؤكدًا على عدم سلامة القول بقدرة المرأة على القيام بأعمال الرجل البدنية والعقلية: "فبالنسبة للقوة البدنية؛ فإن التشريح يعلمنا أن عظم الذكر أثخن وأكثر اندماجًا، وألياف عضله أمتن، وقوة لحمه أغزر، وهيكله أكبر. أمَّا القوى العقلية فهي أشد فرقًا؛ فإن عقل المرأة محدود لا يتخطى ما تربت عليه وتلقته السنين الطوال. هذا، ولا ننكر على بعضهنَّ الذكاء (المحدود)، ولكني آسف جدًّا على استعماله بغير ما فيه فائدة لهنَّ وللهيئة الاجتماعية، فبدلًا من التطبيب والمحاماة وعلم الفلك والعروض والشعر إلخ، يتعلمن ترتيب المنزل وتدبير أمر الأولاد". وختم بقوله: "وإني أعدك أيها الصديق الوفي بما يكفيك مؤونة سخطهن، وهو كتابي الذي سيظهر قريبًا (المرأة إزاء الرجل)". 

كان طَرْح موضوع حقوق المرأة قد تزامن مع تبلور حركة نسائية في الشام منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عبرت عنها الأديبة مريم خالد بوضوح بقولها: "إن صرير أقلامنا الحاضرة سيدوي في وديان سوريا، ويؤثر في آذان الهيئة الاجتماعية، فعلينا أيتها السيدات بالتحفظ في كل أمر يحط شأننا، وملازمة الخطة التي ترفع قدرنا ومقامنا. واعلمنَ بأن الأنظار تراقبنا، والإصلاحات تنتظرنا، والمرأة مرآة الوطن، فيها يظهر هيكله، ومنها يُعرَف كيف هو، ورجاؤنا أن نكون نحن الرابحات، والمعترضون الخاسرين". لذلك كان من المتوقع أن تُحدث رسالة أمين الخوري جَلَبة بين صفوف حركة نسائية يافعة تتلمس طريقها وتحشد أنصارها، فراسلت الهلال الأديبة أستير أزهري قائلة: "إني وايمُ الحق لذاهلة ومستغربة ومُخطئة زعمه -تقصد أمين الخوري- بتحديد عقل النساء ضمن دائرة محصورة، ولا أظن خَيَّاطة غير والدته خاطت له ثوب فطامه يوم أعدت له تلك الوالدة أول طعام ذاقه بعد الفطام، كيف وإنني كلما حولت نظري إلى السيدات -اللواتي شَرُفتُ بصداقتهنَّ- لا أرى حكم حضرة الدكتور ينطبق عليهن، فكم حضرت اجتماعات وسمعت منهن تفننًا في مواضيع تختلف بين علمية ودينية وفلسفية، وكم تبارى للجدال أمامي متناظران أحدهما من جنس حضرة الدكتور، والآخر من جنسنا الضعيف القاصر عن نيل اعتبار حضرته، فتبودلت البراهين، وتنقلت المناظرات من موضوع إلى آخر، وكانت المرأة نعمة المناظرة، إذا لم نقل: الفائزة". وقد شايع الأديب جرجس إلياس الخوري رأي أستير، واسِمًا رأي أمين الخوري بالتحامل النابع من قسوة القلب: "فمع قلة الوسائط التي توافرت للنساء في الماضي فقد اشتهرت الكثيرات منهنَّ، وهو دليل على أن في المرأة من جراثيم الهمة والإقدام ما لو توفرت لها الوسائط لسبقت غيرها بمراحل. ثم إنه ظهر من سياق عبارة المُناظر أنه يريد أن يكلف المرأة بأعمال الرجال وهي قائمة في مركزها كربة منزل، وهذا ظلم؛ لأن المسألة هي: هل يحق للمرأة أن تقوم بأشغال الرجل إذا تفرغت لها؟ وعندي أن المرأة تقدر أن تقوم بذلك ما دامت البراهين العقلية والنقلية تؤيد أن عقلها مساوٍ لعقل الرجل. وأمَّا قول المعترض بأن الرجل له من الصفات التشريحية ما يفوق المرأة، فذلك لا يقف في سبيل قيام المرأة بأشغال الرجل؛ لأن مراكز الهيئة الاجتماعية لا تتوقف على قوة اللحم وكبر الهيكل، بل على العقول الثاقبة والرايات السديدة، فلا تستضعفوا المرأة لضعف بنيتها، ولا تستقلوا قوتها للطافة جبلتها؛ إن الصواعق تصدر عن رقيق السحاب، والزلازل عن لطيف البخار".

كانت حجج أمين الخوري مبنيةً على أمور طبية مجردة، فعاود سردها مجددًا في معرض رده على مُناظريه، فقال: "إنني لم أخرج فيما قلتُهُ عن طريقة زملائي الأطباء بتشخيص المرأة تشريحيًّا وفسيولوجيًّا وأنثربولوجيًّا، فمما لا مُشاحة فيه: أن القوة العقلية تابعة لحالة الدماغ، ومركزها في الجزء المقدم منه، فلننظر في هذا العضو وبما يتعلق به تشريحًا في الرجل والمرأة نقلًا عن جمهور العلماء، فسعة جمجمة الرجل 1446 سنتيمتر، ووزن دماغه 1333 جرامًا، في حين سعة جمجمة المرأة 1226، ووزن دماغها 1210 جرامات. فعليه قرَّر جمهور الحكماء والطبيعيين بالإجماع أن الرجل أعقل من المرأة". وساق الخوري أقوال أهل الطب حتى وصل إلى داروين الذي قال بالفرق الكمي بين الرجل والمرأة، وهو مذهب شبلي شميل الذي عبر عنه صراحة في مجلة المقتطف.

وحاول الخوري أن يخفف من وطأة كلامه على أنصار المساواة بالقول: "فالمرأة -ولا مُشاحة- بهجة الكون وزينته؛ فهي الزهرة الزاهرة التي تبهرج الكون بألوانها وتنعشه بشذا ذكي عطرها، وهي المحافظة على تجديد بل ديمومة الجنس البشري، بل هي شعاع الحب الذي يبدد بنوره ظلمة بلادة القلب، فهي التي أمهرها الله جمال الصورة وكمال الشكل، فبجمالها الساحر ودعتها الآسرة ونتاجها المعزى نالت دولة عز لا تدول، وسلطان كرامة لا يقيد، وقوة نفوذ لا ترد. ولا يُستنتَج أني أضاد تعليم البنات، كلا، بل إنني من الجازمين المعضدين لهذا المشروع المعترفين بلزومه، لكن وضعها في المدرسة تُمْضي زهرة عمرها وسني نموها منكبة على الدرس والمطالعة قائمة بغرف فاسدة الهواء؛ مما يضعف قوتها، وتقل صحتها فتذبل زهرة خمائلها، وتزول نضارتها، وينهد ركن عزها، فتأبى منظرَها العينُ، ويتجنبها الجنس القوي". 

جاء الرد الأكثر بسطًا على منطق أمين الخوري من قبل الأديب جبر ضومط صديق جورجي زيدان، فكتب رسالة مطولة، ومما جاء فيها: "لا شك أن الحقوق مترتبة على العدالة، فإذا عُدمت العدالة عُدمت هذه الحقوق المترتبة عليها. وإذا حددنا مجمل حقوق الرجل في الهيئة الاجتماعية، حينئذٍ ننظر فيما إذا كان يحق للنساء أن تطلب تلك الحقوق أم لا، وفيما إذا كان من العدالة أن يساوين الرجال فيها أم لا". ثم عرض ضومط إلى حقوق ثلاثة أساسية وبديهية من وجهة نظره، وهي: "حق المحافظة على الحياة، وحق المحافظة على سلامة العقل وسلامة البدن، وأخيرًا حق تقوية قوى العقل والبدن بكل الوسائط الممكنة؛ ليبلغ كلاهما إلى أشدِّ ما يمكن أن يبلغاه من القوة. وتلك حقوق لا يلزم من التسليم بأن للمرأة أن تطلبها وتساوي فيها الرجل أن تساوي الرجل فعلًا في قواه العقلية والبدنية، ولا أنها تبلغ بالتربية والتهذيب مبلغ الرجل القوي منها عملًا وبدنًا، كما لا يبلغ الرجل الضعيف بالتربية والتهذيب مبلغ الرجل القوي إذا تربيا كلاهما وتهذبا. وإذا سلمنا للنساء بتلك الحقوق، فإني لا أرى وجهًا لسلبها سائر حقوق الرجل من حق التملك والتنقل والاعتقاد وغيرها؛ ذلك لأن الحقوق جميعها مترتبة إمَّا رأسًا أو مآلًا على الحق الأول، وهو حق المحافظة على الحياة". وختم المُرسِل بقوله: "فإني أرى أن حجة الضعف لا تقوم دليلًا، ولا تكفي لوحدها في منع النساء من طلب حقوق الرجال في الهيئة الاجتماعية".

ولقد تواصلت الرسائل النسوية المنتقدة لمنطق أمين الخوري، واختار بعضها عدم مراسلة الهلال، وإن لم تتجنب في افتتاحيتها التأكيد على أنها مرسلة في سياق الجدل الذي أثارته الهلال، فكتبت زينب فواز تقول: "وجدت في الهلال مقالة للدكتور أمين أفندي الخوري، وقد تحامل فيها كل التحامل على جنسنا النسائي، وأظهر ما في قلبه من الحقد، فليس للمرأة مانع من صغر جسمها ورفاهية قواها يمنعها من التداخل بأشغال الرجال، وإنما جعل الله هذا لرقة في جسمها زيادة في جمالها، لا لأجل أن يمنعها بها عن الاشتراك في أعمال الرجال. وأمَّا أسفُك على استعمال النساء بغير ما فيه فائدة لهنَّ ولا للهيئة الاجتماعية، فبدل التطبيب والمحاماة وعلم الفلك والعروض... إلخ يتعلمن ترتيب المنزل وتدبير الأولاد. أثابك الله أيها النصوح، يجب أن تعلم أننا نصف العالم الإنساني أو نزيد، فإن كنَّا كذلك فقد أتعبنا المتكلين بأرزاقنا من جهة، وبتحمُّلنا أثقال الفاقة من جهة أخرى، فإذا وجدت الطبيبة مثلًا تتعاطى صنعتها، فانظر إلى منفعتها للهيئة أولًا، وكم تنفع نفسها وزوجها وأولادها ثانيًا. أمَّا منفعتها للهيئة فكما تعلم أنها في الولادة لو تعثر الأمر على الداية استعانت بالطبيبة، فيكون بحسن صناعتها وتوفيق الله نجاة الوالدة والجنين معًا، ولها مسائل خصوصية في مداواة النساء، وفي أشغال الأقسام، مثل: كشفها على المتوفَّيَات وغير ذلك، ولولا منفعتها لما اختصتها الحكومة في خدمتها".

وخصصت مجلة "الفتاة" ردًّا مُسهبًا على رسالة الخوري بقلم الأديبة مردم الأنطاكي؛ ومما جاء فيه: "بينما أقلب الطرف في مجلة الهلال، عثرت على مقالة للدكتور أمين الخوري، فتلوتها ثلاثًا لعلي أجد في الإعادة إفادة، فلم أرَ بها قصدًا إلا إذلال المرأة تعمدًا، ونسبة جنسها النسائي إلى الحيوانات البُكْم. ومن قوله: إن المرأة ذات عقل محدود، وهذا السهم الخارق للقلب بل للعظم على جنس يبلغ مقدارهُ 750 مليونًا، لا أظن امرأة من اللواتي اشتهرن بنفائس الأفكار ودرر الأقلام؛ ألا تنهض مطالبة بشرفها وشرف جنسها. إن عمل الرجل ليس بدليل على قوة بدنية، بل هو من قوة الاستمرار المدفوع إليه بالحاجة، والبرهان ظاهر على أن المرأة قادرة على كل عمل يقدر أن يعمله الرجل في المركز الذي هي به، من حيث طبقات الناس، أو من حيث العلم والتربية، أو من حيث العادة التي ألفها كل منهما، قبل أن يدب، وبعد أن يشب". 

وفي المقابل، استبسل أمين الخوري في الدفاع عن موقفه، حاشدًا أدلة طبية تؤكد صحة مذهبه. وهو الأمر الذي اعتبرته أستير أزهري في مراسلة جديدة دليل إفلاس، فقالت: "إن مسألة الدماغ من المسائل الغامضة، ولا يصح الاعتماد عليها في هذه المناظرة؛ فللعلماء فيها مذاهب شتى من حيث علاقتها بقوى العقل. إن غذاء العقل إنما هو العلم، والعلم إنما يحصل بالاكتساب؛ فنمو العقل إذًا موقوف على الاكتساب، ولما كان نمو العقل يزيد في حجم الدماغ حملًا على أن كل عضو يزداد نموه بزيادة عمله، لزم من ذلك أن زيادة حجم أدمغة الرجال منوط بأسباب الاكتساب، والاكتساب لا يتفاوت بين الرجل والمرأة إلا من حيث الاجتهاد. ونحن نعلم أن النساء مُنِعنَ وسائل الاجتهاد وأسباب التحصيل أحقابًا عديدة ظلمًا واستبدادًا، فلا بِدعَ أنَّ أثَرَ ذلك في نقص أدمغتهن على توالي القرون لا يعتد به. ثانيًا: لأن الدماغ لا يصح اتخاذه دليلًا على نمو القوى العاقلة؛ لأن البهائم أكبر دماغًا من أكثر الناس عقلًا". وشايعت كاتبة -اختارت لنفسها اسم: معتدلة- منطق أستير، وطالبت الخوري بالعدول عن موقفه. 

طيلة المناظرة لم يجد الخوري من يَشُد من أزره، إلا أن مراسَلة من امرأة سكندرية تُدعى بهية كانت له نصيرًا؛ إذ قالت بهية: "إن الرجل يفرق عن المرأة، وهي تفرق عنه بالطبع، وهذا الفرق يبقى إلى ما شاء الله لا يعتريه نقصان، ولا يخالطه بهتان، وهو -وايمُ الحقِّ- حكمة؛ فقد اختُصَّ الرجل بشيء، واختُصَّت المرأة بشيء". ثم تقول مستنكرة: "فهل تريد فتاة الشرق -وما أظنها تريد- أن تساوي الرجل في حقوقه السياسية والإدارية والعملية، مثل: تخصيصها في تولية أمور الممالك، ومنصة الأحكام والقضاء، والبقاء خارج منزلها تقضي وتحكم وتنظر في خير الأمة والشعب؟! وعلى فرض قَبِل الرجل بذلك، وعلى فرض كنا قادراتٍ عليه؛ فمن يدبر أعمال البيت -تلك المملكة الصغيرة؟ من يُجير الطفل الصارخ الطالب لبن أمه؟ من يحنو على الرضيع؟ ومن يربيه ويعتني به؟ الرجل؟! ماذا نطلب؟ أن نتعلم ونتنور في حالة بيوتنا لنقوم خير قيام بواجباتنا؟ ما أظن الرجل بمانعنا بذلك. أخشى على حقوقنا من الضياع إذا طلبنا فوق حقوقنا، فبالله ألَا اقتصرنا مطالبنا على المفيد النافع، وعلمنا ماذا نطلب لنطلبه بحرارة وصدق، بدلًا من أن نقتل الوقت الثمين، ونملأ أعمدة الجرائد في طلب مساواتنا للرجل؟". 

وكتب الخوري رسالته الأخيرة -بناء على طلب المجلة- في هذا الموضوع مستفتحًا إياها بقوله: "لم أتعرض للرد على هذه المسألة إلا لإثبات حقائقَ تجاهلَها العارفون تزلفًا، وجهلها الساذجون .. ومن سوء البخت أنني لم ألق -في رسائل المناظرين- إلا شرودًا مغالِطًا، أو نفورًا ساخطًا، أو سوادًا ناقمًا.. ولم أر بين حضرات المناظرين من تعرض لدحض ما قلته".

ويبدو أن الهلال لم تَنل مَرامها من تلك المناظرة، فأرادت أن تجعل لها جولة ثانية، فطرحت سؤالًا ظاهره المغايرة عن القضية الأولى، وباطنه المسايرة، وكان السؤال: هل تعلو منزلة المرأة بالعلم أكثر أم بالمال؟ ومن الرسالة الأولى اشتبك مُرسِلها سليم بشارة الخوري مع القضية الرئيسة لهذا السؤال؛ وهي حقوق المرأة في المجتمع الشرقي، فقال: "في عصرنا هذا زادت منزلة المرأة علوًّا بما اقتبسته من العلوم، حتى إنها قامت تجاري الرجل أعماله، وتنازعه حقوقه .. ولقد اعتنى الرجل على توالي الأيام باكتساب الوسائط المادية، تاركًا للمرأة الاهتمام بالأدبية منها، فبعد أن عاشت أجيالًا تحت نَيْر الجهل، همَّت رويدًا رويدًا في اكتساب المعارف، فخلعت عنها أثواب الخمول، واجتهدت بأن تسير على طريق التقدم والعلم، حتى أظهرت كفاءة طبيعية لاقتباس العلوم على اختلاف مواضيعها، فنالت منزلة اعترف بعلوها الرجل، ولمَّا يكن للمال من ذلك نصيب". هكذا سُحب النقاش إلى حيث أرادت هيئة تحرير المجلة. وكتب الصديق القديم لجورجي زيدان؛ المحامي إبراهيم جمال، رسالةً محافظةً ذكر فيها قائلًا: "إن التعليم الحالي لنساء بلادنا إذا لم يكن مضرًّا لهنَّ فهو وعدمه سيان، وإن الفتاة العاقلة المهذبة عندنا، هي أفضل بكثير من المتعلمة التي خرجت من المدرسة بعد أن قضت فيها سِنِي الصبا، وقد نسيت لغتها الوطنية، وأبدلتها بلغة أجنبية، فلا يهمها غير قراءة كتب الرومان وإتقان الإتيكيت والدنص. هذا هو العلم الذي ينفق أهلهن عليه المال، وينفقن هنَّ على تحصيله السنين الطوال، ونتيجته أنهن يتعلمن ما لا حاجة به لهنَّ، ويغفلن ما تقتضيه وظيفتهن! أليس الأجدر لهنَّ أن يبقَينَ على التربية القديمة، ويتعلمن على أيدي أمهاتهن ما تقتضيه وظيفتهن من الأعمال المنزلية، والأشغال البيتية؟". ومرة أخرى وجد الدكتور أمين الخوري في تجدد النقاش ضالته؛ لاستكمال مناهضته للنسوية العربية الناهضة. ومن البداية طالب من يقدم على الكتابة في هذا الموضوع ألا يتهيب ثورة الجنس اللطيف، وألا يعمد إلى المصانعة، وبالنسبة له فإن: "قوة المرأة في قلبها ومركزه العواطف، وقوة الرجل في دماغه ومركزه القوى العقلية، ومما أكدته التجارب أن نمو أحد هذين المركزين يضعف الآخر؛ فمن نما عقله قلَّت عواطفه، ومن نمت عواطفه قلَّ عقله. ومعلوم أن العلم ينير العقل ويقويه ويزيد الإدراك؛ فيضعف العواطف، وهذا من حاجيات الرجل التي لا غنى له عنها لحفظ مركزه، كما أن العواطف من حاجيات المرأة التي تستجلب بها رضا زوجها وشغفه، وتصبر على مضض تربية أطفالها".

كانت آراء الخوري سَبْحًا عكس تيار النسوية الآخذ في الانتشار، بعد أن تلقفه عدد ليس بقليل من المثقفين بالقبول الحسن. فراسل الأديب فرح أنطون الهلال للرد، وجاء رده محافظًا اتفق مع الخوري في الأدوار الاجتماعية للمرأة، لكنه أكد على أن السبيل لتنميتها المزيد من العلم: "فالزوجة لا تعجب الزوج العاقل ولا ترضيه إلا بصفاتها وأخلاقها، ومقدرتها على تربية أولاده وتدبير منزله، ولا يتم ذلك إلا بالعلم الصحيح، والتربية الصحيحة". وأمَّنت لبيبة ماضي على هذا القول، وزادته في الحجج بسطة: "فالمرأة لا تحتاج إلى رقة العواطف أكثر من الرجل؛ لأن الواجبات العائلية المطلوبة منها تستلزم عقلًا ودراية مع الثبات والصبر، وذلك لا يُنال عن غير طريق العلم، أمَّا رقة العواطف فهي غريزية فيها، ولا يستطيع العلم أن ينزعها منها، بل هو يزيدها كمالًا". وعضَدَت قولها الأديبة عفيفة أظن برسالة أوضحت فيها فضل العلم في ترقية سلوك المرأة. 

ورغم إحجام الهلال -في شخص صاحبها- عن ولوج باب المناظرة، فإن جورجي زيدان كان له موقفٌ واضح من الحركة النسوية ومطالبها؛ فقد أورد المؤرخ توماس فليب خطبة لزيدان إبَّان دراسته بكلية الطب بين عامي 82/ 1883 في إحدى جمعيات بيروت، شدَّد فيها على تساوي القدرات العقلية بين الرجل والمرأة، وأشار إلى نجاحات الطالبات والباحثات في أوروبا وأمريكا. وفيما يتعلق بصغر حجم دماغ المرأة، فقد جادل بأنه إذا حصلت المرأة على فرصة لاستخدام دماغها بشكل أكبر، فسوف تتطور وتنمو أكثر؛ كما عبر جورجي زيدان عام 1901 عن سعادته بما كتبه قاسم أمين، واعتبر النجاحات التي حققتها الحركة النسوية في الشام دليلًا على صدق دعوى صاحبها، فكتب: "هذا ما أصاب المرأة في سوريا في أثناء انتقالها من عصر الجهل إلى عصر العلم، ولم يعترف الناس بفضل علمها حتى اكتهل أهل الجيل الأول، وشبَّ أهل الجيل الثاني، فأصبح تعليم المرأة عندهم أمرًا مستحسَنًا، بل هو فرض واجب لا يختلف في صلاحيته اثنان، وأصبحت المرأة السورية ربة عائلتها، وزينة منزلها، وواسطة عقد الاجتماع". بل إن زيدان له مقالة ضافية عندما نُشر كتاب قاسم أمين "أسباب ونتائج"، بيَّن فيها بجلاء مسايرته لما كتب قاسم، فقال: "ظهرت كتابات قاسم فشغلت الألسنة والأقلام عامًا أو عامين، تنبهت فيها العقول وثارت الخواطر، وقد لاقى من العقلاء إعجابًا كثيرًا، فنصره بعضهم بألسنتهم وأقلامهم، وسكت الآخرون مجاراة للعامة ونصرائهم. ثم سكت الناس لا عن إهمال أو إغفال، ولكنها فترة الحضانة ريثما تتكيف عقول الأمة لقبول تلك الآراء، كالتلقيح بالجواهر النافعة؛ فإنه يحدث عند دخوله البدن تهييجًا، وقد يولد صديدًا ثم يسكن في الظاهر، ويعمل عمله رويدًا رويدًا".