دراسات

شريف إمام

مراسلات قراء مجلة الهلال (1892-1906) الجزء الثالث

2024.04.05

مصدر الصورة : ويكيبديا

(دراسة من خمسة أجزاء-الجزء الثالث)

 

مراسلات القُرّاء كمصدر للمعرفة التاريخية
باب مراسلات مجلة الهلال نموذجًا (قراءة في المضمون)

 

بعد أن عرضنا لباب المراسلات من حيث الشكل، فإننا نعرض لبعض القضايا التي تناولتها رسائل القُرَّاء، ولعلنا نلمس من خلال قراءة تلك الرسائل أن الدوافع إلى إرسالها تقع في إطار ما وضعه بيل ريدر Bill Reader في دراسته عن هذا الموضوع؛ حيث نقد الآراء، أو تصحيح الأخطاء، أو التنفيس عن الإحباط، أو طلب معلومات، أو البحث عن المكانة من قبل بعض الكُتَّاب العاديين. ولقد اختيرت تلك العينة من القضايا بالذات؛ لكونها فتحت بابًا من المساجلة بين عددٍ ليس بقليل من القُرَّاء، وشهدت كتابة رسائل مطولة وحجج ودفوع، أكسبتها طابع المناظرة العلمية؛ لكونِ المُتبارين فيها من القامات الأدبية. 

ولعل هذا النوع من المساجلات الصحفية قد عرفته الصحافة قبل ظهور الهلال، وذلك في سبعينيات القرن التاسع عشر؛ حيث شنَّ يعقوب صَنُّوع محرر جريدة "أبو نظارة زرقاء" هجومًا على صاحب "الجوانب" أحمد فارس الشِّدْياق، ومن ذلك قوله: "كيف تحط الساق على الساق -اسم كتاب للشدياق- وتنجس قلمك بتحرير أقوال في مدح من لا يليق، مثل: رياض وتوفيق؟". لكن هذا النوع كان حكرًا على الأدباء فقط، وكان يقفُ عند حدود المناظرة بين اثنين، بينما مناظرات الهلال -عبر باب المراسلات- كانت متعددة الأقطاب، وأَمَّها الكثير من أهل المعارف والفنون، واستمرت لفترة أطول.

1- الإسلام والتمدُّن: إشكالية التمدُّن الإسلامي وما قام به

لقد شكَّل مصطلح التمدُّن منذ وُفوده إلى بلاد الشرق هاجسًا وجوديًّا أكثر منه تحديًا معرفيًّا؛ ذلك أنه بات شرطًا مُحددًا للحضور الفاعل في التاريخ، يلتقي في ذلك المتحمسون له والرافضون، ومنذ إطلالته الأولى وهو مُتسربل بغِلالة كثيفة من الغموض، وسط تشعب مدلولاته؛ حتى ليعسر على الباحث الإمساك بأطرافه، ولعلنا نَلْمس مدى إلحاح قضية التمدُّن والحداثة عند مُؤسِّس الهلال في أسئلته الثلاثين التي انطلق منها بابُ المراسلات؛ فقد وضع لها عنوانًا وهو: "مسائل تَحتمِل وجهين، وفيها مجال للبحث"، وفي ذلك إشارة للنسبية التي يقتضيها الاحتمال والعقل الذي هو عماد مجال البحث، وكل من النسبية والعقل مفردتان حداثيتان.

بدورها فصَّلت الأسئلة تلك الإشارة، فجاء بعضها في هذا المسار، مثل: هل للمتقدمين فضل على التمدُّن الحالي أكثر مما للمتأخرين؟ هل يفيد دخول الأجانب بلادنا أكثر ممَّا يضرنا؟ هل نفعت العوائد الإفرنجية أكثر ممَّا أضرَّت؟ ونحوها. ومنذ أُولى المراسلات وقضايا الحداثة حاضرة، فرسالة أسبريدون أبو الروس التي أجاب فيها على سؤال: "هل الآداب بالطبع أم بالوضع"، انتصر فيها لرأى رواد عصر التنوير الفرنسي، بل واستشهد بأقوال أحد أعلامهم، فولتير؛ فقد ذهب المُرسل إلى أن الإنسان خُلق مجردًا عن كل مبدأ أدبي، وأن الآداب -والمراد بها: المعارف العامة والتزام حدود الحق والواجب- معانٍ اكتسابية عرضت للإنسان في دور الاجتماع، ولقد استتبع هذا الجواب ردًّا من الأديب نيقولا فياض ظهر فيه معبرًا عن الطرف الثاني للحداثة؛ حيث رمى أبو الروس بالنقل غير المُتبصِّر عن كتب الإفرنج، وأن الإنسان له قوة خلق مميز عن الحيوانات والجمادات، وهي التي رقته بما فيها من الاستعداد وما عساها أن تكون تلك القوة سوى العقل الإنساني الذي فطر عليه، والعقل مجتمع للعواطف، والعواطف منشأ الآداب، فدور الاجتماع وما فيه من تعامل أكمل صورة الآداب ولم يوجدها؛ لأنها لو لم تكن مطبوعة فيه بالاستعداد لما كان أهلًا لأن يدرك أسرارها. 

لكن أكبر المساجلات حول قضية الحداثة، جاءت عندما أرسل أحد القُرَّاء مُستهجنًا فهم البعض لقضية التمدُّن، فبات بعض الشباب لا يدركون من التمدُّن سوى التبهرج بأحسن الألبسة وأعلاها قيمة والمسابقة إلى الإسراف، إنهم يرون أن التمدُّن لا يكون إلا في محلات اللهو والطرب ومعاشرة أهل الخلاعة، كانت تلك الرسالة فاتحة لنقاش طويل أخذ شكل المساجلة، بعدما أماله أحد القُرَّاء عن قضية التمدُّن بصفة عامة إلى السؤال عن طبيعة التمدُّن الإسلامي في صدر الإسلام، وكيف قام؟ هل بالسيف أم بالقلم؟ واستملحت هيئة تحرير الهلال هذا السؤال، مطالبةً الأدباء الذين سيخوضون في عبابه أن يتوخوا فيما يكتبونه الاختصار المفيد. 

كان أول المجيبين المفكر رفيق العظم، الذي حاول التفرقة بين انتشار الإسلام وانتشار التمدُّن الإسلامي، وإن كان كلاهما انتشرا -حسب رأيه- بالدعوة لا بالسيف، فالإسلام أول ما ظهر ونودي به بين أقوام يأنفون الخضوع لأية رابطة كانت من روابط الاجتماع، سوى ما تدعو إليه العصبية المثيرة لنيران الشر الدائبة في هلاك نوع الإنسان، فاستقبلوه بما تُستقْبل به الشرائع عادةً من المقاومة والرد، حتى إذا أُخذ على أيديهم وأفواههم بالحق، وانصاعوا لكلمة التعاون والاجتماع، كانوا من أنصار هذه الدعوة، فقاموا لنشرها وتعميمها دون أن يُكرِهوا أحدًا على قَبولها؛ فالتمدُّن الإسلامي لم يكن في صدر الإسلام، وإنه قام بالقلم لا بالسيف، وإن الشريعة هي العامل الوحيد في ذلك، وهي إنما تعممت بواسطة الأمة العربية في صدر الإسلام، التي أثرت على أخلاقها وعوائدها تلك الشريعة تأثيرًا سريعًا يدل على مقدار العلاقة المعنوية التي بينها وبين التمدُّن الإسلامي؛ حيث جعلتهم في تلك المدة القصيرة يملؤون الأرض لغة ودينًا وعلمًا وأدبًا وغير ذلك من الأمور الرافعة لمنار التمدُّن الإسلامي. لكن جواب العظم لم يرق لأحد القُرَّاء وهو المُرسل (ر. ن.) الذي زعم أن الآيات والأحاديث المتواترات تفيد أن الإسلام انتشر بالسيف، وأن حركة التمدُّن التي اتبعته لم تكن لتقوم لولا فتح البلدان بالسيف، ثم نقل معارفهم وعلومهم التي شكلت نواة التمدُّن، وعليه تكون تلك الحركة قد مهد السيف لها السبيل، ثم نمت وتوسعت بعد ذلك بالقلم.

من جانبه، حاول رفيق العظم التأكيد على أن مشروعية الجهاد في الشريعة الإسلامية ليست حجة على أنها قامت بالسيف، ويمكن إدراك ذلك من مطالعة سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع من أخذوا يقفون له ولأصحابه في كل مرصد، وينالونهم بأنواع من الإيذاء؛ كما أننا علينا التفرقة بين الفتح الإسلامي ونشر الإسلام، فالأخير لم يُحمَل عليه أحد. وعضَدَ الشيخ أحمد محمد الألفي كلام العظم حاشدًا الكثير من الآيات التي تؤكد على حرية الاعتقاد، وذاكرًا الكثير من الأمثلة التي حفظ فيها المسلمون للشعوب المفتوحة حقهم في اختيار معتقداتهم، وعاود معارضهما المراسلة مجددًا، مفرقًا -مثل خصمه رفيق العظم- بين انتشار الإسلام وانتشار التمدُّن الإسلامي، فبالنسبة له انتشر الإسلام بالدعوة أولًا، ثم نزلت الآيات تِباعًا على مقتضى الأحوال مصرحة بالجهاد؛ إذلًالًا لنفوس الأقوام العاتية وإعلاء لكلمة الحق، فإذا سلمنا بأن انتشار شريعة الإسلام بالدعوة أولًا، فلا نرى ذلك الانتشار إلا يسيرًا جدًّا بالنسبة إلى ما كان من انتشارها بالسيف بعد ذلك، فالإسلام لم يأخذ في الانتشار الواسع إلا بعد الهجرة، وكان ذلك بالغزوات والسرايا. أمَّا التمدُّن الإسلامي فقد قام بعضه بالشريعة، وبعضه نقل عن علوم الأعاجم بالقلم، وكلاهما يدخلان في حكم القلم، ولكن نظرًا لقيام الدولة الإسلامية بالسيف، ولولا قيام الدولة ما توصل المسلمون إلى استخراج العلوم الأعجمية، ولا توسيع نطاق العلوم الإسلامية؛ فقلنا: إن التمدُّن الإسلامي تأسس ونشأ بالسيف، وتوسع بالقلم.

حاول رفيق العظم تبصرة مناظره: بأن القاعدة في الجهاد هي "الإسلام، أو الجزية، أو السيف"؛ إذ الشرط الأخير بينه وبين الإسلام شرط الجزية، الذي يندفع به القبول بالإكراه على الإسلام، أو قيام الإسلام بالسيف؛ ففي مصر عَمِل أهلها برأي ملكهم المقوقس، واختاروا دفع الجزية إلى عمرو بن العاص، وخضعوا لسلطان المسلمين ودخلوا في عهدهم دون أن يُكرَه أحد منهم على الدخول في الإسلام. أمَّا التمدُّن الإسلامي فإنه قام في عهد العباسيين ولم تكن من الدول الفاتحة في الإسلام. وناصر الشيخ الألفي صاحبه، وأورد نصوص المعاهدات التي صالح المسلمون عليها أهل البلاد التي فتحوها، وفيها التأكيد على عدم الإكراه في الدين. وسجل (ر. ن.) رفضه لتلك الحجج، مُدَّعيًا أن قاعدة الجهاد بمنطق مناظره تخرجه عن الدعوة بالموعظة الحسنة؛ لأن في تخيير المدعوِّ بين الإسلام أو الجزية تكليفه ثمنًا ربما لا يستطيع القيام بأدائه، فلا يزال مهددًا بالسيف.

كان آخر فصول تلك المناظرة رسالة لرفيق العظم جاء فيها: "إن مناظرنا الفاضل يتمسك بظاهر القاعدة في الجهاد، الذي اعتبره دعوة إلى الدين بالسيف، مع صرف النظر عن الأحكام المقررة في مشروعية الجهاد، والتي تلزمه الحجة وتنفي ما توهمه وذهب إليه.. إن مشروعية الجهاد لم تختص بها الشريعة الإسلامية فقط، بل سبق أن شُرِع الجهاد في شرائع الأنبياء السابقين". وختم العظم رسالته: "فقد عزمت إجابة لداعي الحق ودفعًا لما يخالج الضمائر من هذا القبيل، على وضع رسالة خاصة؛ لهذا أرجو من مناظرنا اعتبار جملتي هذه الآن ختام مناظرتنا التي لا يساعد على الإفاضة فيها، بأكثر مما مر في الهلال الأغر". واستجابت الهلال فعقبت بالقول: "ورد علينا رد آخر من الشيخ الألفي كنا نود درجه لو لم يختم سعادة رفيق بك المناظرة".

طويت صفحة التمدُّن الإسلامي، وعادت من جديد المناظرة حول التمدُّن الغربي المعاصر، فأرسل الشاعر محمد حسني العامري مُعرِّضًا بالتمدُّن الغربي وآفاته، داعيًا الشباب إلى الانصراف عن تقليد الغربيين والتمسك بالآداب الشرقية. وعلى نفس المنوال نسج الأديب السوري عبد الله سليم يازجي، لكنه ذيَّل رسالته بالقول: "ولا ينتج مما ألمعت إليه أنى أذم الغربيين وأمدح الشرقيين؛ إذ لا يختلف اثنان في أن الغربيين ما زالوا مشمرين عن ساعد الكد والجد؛ لتعزيز شأن العلم، وهدم أركان الجهل، فلا يمر بنا يوم لا نطلع على اختراعاتهم واكتشافاتهم ومآثرهم المفيدة، لكنهم وإن كانوا حائزين قصب السبق على غيرهم من الأمم، فإن لهم عوائد مخلة بعيدة عن التمدُّن الحقيقي، لا ينبغي أن يقتفي الشرقيون آثارهم بها". وبالمثل أرسل عطا الله أفندي أثناسيوس رافضًا الكثير من متلازمات التمدُّن الغربي، لكنه ذكر أن "أهل التقوى منهم يجاهرون بمضارِّ تمدُّنهم، ويبذلون ما في وسعهم لاقتلاع تلك العوائد الذميمة المحيطة بشأن تمدينهم، لكن ما ينبغي أن نشدد النكير على الشرقيين فيه هو تقليد الغربيين في مثالبهم دون حسناتهم؛ مما قد يعود علينا بالدمار والخراب".

وتماشيًا مع اتجاهات رسائل القُرَّاء أفرد جورجي زيدان مقالين تحت عنوان: "آفات التمدُّن الحديث"، لكن افتتاحية مقالته الأولى يُفهَم منها الانتصار للتمدُّن الغربي فذكر: "لو نظرنا في أنواع التمدُّن على اختلاف العصور، لمَا رأينا تمدُّنًا خلا من آفات ما زالت تنخر في بدنه نخر السوس حتى أماتته، وذهبت بأهله إلى مهاوي الانحطاط. وضرب المثل بآفات التمدُّن المصري القديم والتمدُّن العربي، ثم عقَّب بالقول: "ويزعم أصحاب التمدُّن الحديث أنه أفضل ضروب التمدُّن وأقربها إلى البقاء؛ لأنه مؤسَّس على العلم والعدل والحرية، وهو قولٌ معقولٌ نرجو أن يكونَ صحيحًا". ثم قال مدافعًا عن التمدُّن الغربي: "إن التمدُّن الغربي جاء هذه البلاد وهي في مهاوي الانحطاط، على أثر استبداد المماليك ومن جرى مجراهم، ولم يتناول في أول عهده إلا التعليم والتربية، مع المحافظة على الحشمة الشرقية، وأمَّا التهتك وخرق الحجب فلم يظهر إلا في أواخر القرن الماضي، لمَّا كثر تقليدنا للإفرنج حتى فيما ينافي طبع الشرقي".

ولقد كان نقاش الهلال حول تلك القضية مُغريًا لأترابها من المجلات إلى مناقشة القضية عبر مقالاتها، فنشرت مجلة الجامعة العثمانية عن مضار التمدُّن الحديث الذي أفسد أخلاق الإنسان عبر زيادة حاجاته، فسعى إلى نيلها -الضروري وغير الضروري منها- بالغش والخداع والرذائل، لقد أصبح إنسان هذا الزمان يتخذ من جثث إخوته مَراقيَ إلى أغراضه ومصالحه. ومن نافلة القول أن نقول: إن هذا النقاش كان باعثًا على أن يضعَ رفيق العظم رسالةً عن موضوع المناقشة، افتتحها بالقول: "نشرت في جريدة الهلال جوابًا عن سؤال مؤدَّاه: هل التمدُّن الإسلامي في صدر الإسلام قام بالسيف أم بالقلم؟ ولم أتصدَّ للجواب عن سؤال السائل وقتئذٍ إلَّا رغبةً لكشف حقيقة يظهر من نفس السؤال أنها تهم السائل كما تهم كثيرين غيره، فلم يقع جوابي عند بعض الكُتَّاب موقع القَبول، فتصدى للرد عليَّ فيما كتبت «ر. ن.»؛ حيث حاول فيها إقامة الدليل النقلي على قيام الإسلام بالسيف، وأن التمدُّن الإسلامي قام معه كذلك، فعندئذٍ لم أرَ بدًّا من ولوجي في باب المُناظرة توصلًا لإقناع حضرته بأنه مخطئ فيما توهمه وذهب إليه، وما زلت معه في أخذ وردٍّ، حتى إذا اعترى قلمه الكلال أو كاد رأيته جعل يكتب بالبنان ما لا يوافقه عليه الجنان، فاختتمت مُناظرتي معه بالوعد بوضع رسالة خاصة آتي بها على تفصيل ما أجملناه، وإنني وفاءً بالوعد وضعت هذه الرسالة المختصرة".

ولعل تلك المساجلة تحديدًا قد دفعت بأحد قُرَّاء الهلال إلى مراسلة المجلة طالبًا أن تُعبر المجلة عن رأيها، فردت عليه بأنه لا تتجلى علاقة التمدُّن الإسلامي بالتمدُّن الحديث إلا بعد درس كل منهما درسًا جيدًا، وسنفعل ذلك في جزء كامل من تاريخ التمدُّن الإسلامي. وهو الكتاب الموسوعي الذي شرع زيدان في كتابته ونشره على شكل حلقات متصلة في الهلال، ولم يقف الموضوع عند هذا الحد، فبعد إغلاق باب المراسلات، راسل الأديب السكندري سعيد أفندي سليم المجلة من أجل مزيد من الاستجلاء عن رأي زيدان من قضية الإسلام والحداثة، فأرسل له سؤالًا يستطلع فيه رأي الهلال فيما ذكره كرومر في كتابه "مصر الحديثة" وجدلية العلاقة بين الإسلام والمدنية الحديثة، وهل الإسلام يخالف مجاري التمدُّن أو يقف في سبيل الارتقاء الاجتماعي؟ وجاء رد زيدان: "إذا تخالف الدين والمدنية ولم يكن بدٌّ من اجتماعهما، فلا مندوحة عن تعديل أحدهما حتى يوافق الآخر، فإذا اقتضت المدنية أمرًا يخالف قاعدة من قواعد الدين، فعلينا أن نعدِّل ذلك الأمر حتى يوافق تلك القاعدة، أو نؤولها حتى توافقه. وإن أهل الإسلام اضطروا إلى تأويل بعض الآيات لتلائم بعض الأغراض السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، فالإسلام دين متجدد؛ فإذا اقتضى التمدُّن الحديث ما يخالف أحكامه يمكن تجاوز ذلك عبر التأويل والتفسير؛ فاللورد كرومر لو أنصف الإسلام لاكتفى بانتقاد ما هو شائع بين المسلمين من عوائق التمدُّن، واعترف بالنهضة التي نهضها عقلاؤهم لإزالة هذه العوائق، فلقد كتب قاسم أمين بوجوب رفع الحجاب عن المرأة المسلمة وترقية شأنها بالعلم والتربية، وجاهر الشيخ محمد عبده بوجوب تفسير القرآن تفسيرًا يوافق العلم الحديث، وأفتى بمسائل عديدة تسهل المعاملة بين المسلمين وغيرهم من أرباب التمدُّن الحديث، وكتب آخرون يقولون بفصل الدين عن السياسة لئلا يتخالفا؛ فالمسلمون في نهضة إصلاحية إذا ظلوا فيها، لا يبقى بين الإسلام والمدنية تخالف، ولا يخشى وقوفه في سبيل الارتقاء الاجتماعي".