رؤى
أنس غنايممساءلات نقديّة: علم الاجتماع كما يراه فالرشتاين اليوم؟
2018.10.01
مساءلات نقديّة: علم الاجتماع كما يراه فالرشتاين اليوم؟
بحسب جيمس جودوين فإنّ العلوم الإنسانيّة، عادةً ما تلازمها إشكاليةٌ، يمكن تسميتها بالأساطير الأصلية Origin myths (1) أي تلك الأفكار الأساسية التي نهض عليها العلم أوّل أمره، ولم يستطع مفارقتها بعد ذلك إلّا قليلاً. وللطبيعة شبه الإطلاقية لهذه الأفكار بات من النادر العثور على نقدٍ كلّي، يُساءل هذه الأفكار، من ألفها إلى ياءها؛ من أمثال سكوت لاش، وآلفن وارد جولدنر، وجون أوري، وأنثوني إليوت.
ومن بين هذه الانتقادات، والمراجعات، المذكورة آنفًا، تبرز محاولة السوسيولوجيّ الأمريكيّ إيمانويل فالرشتاين(2)، التي أبان عنها في غير واحدٍ من كتبه، خصوصًا كتابه المعنون بـ (نهاية العالم كما نعرفه). يعمد فالرشتيان في هذا الكتاب وغيره(3)، إلى نقد مقولاتٍ، ومفردات، سادت علم الاجتماع الغربي، وأخذت صفة اليقينيات والمسلمات، وهو إذ يحاكمها من منظور نقدي سوسيولوجيّ؛ موجّهًا نقده إلى البنى المعرفيّة لثلاثة من روّاد علم الاجتماع المعاصرين:
1 - دوركهايم. 2 - ماركس، 3 - فيبر. وذلك باعتبارهم مرجعيات علم الاجتماع التقليدي، من شرق العالم إلى غربه؛ يدعو إلى إعادة صياغة جديدة للعلوم الاجتماعيّة، بعد مفاتشةٍ لموضوعها، وتراثها، وتحديداتها، ومنطلقاتها النظرية.
علم الاجتماع: خروجًا من الحدّين المنطقي والمؤسسي إلى التراث الثقافيّ.
ينتظم المنظور النقديّ لفالرشتاين وفق نسقية موّحدة لا تخفى؛ لا يفتأ فالرشتاين يذكرنا بها، وهي أنّ النسق العالميّ الذي نُكوّن واحدًا من أجزاءه، يعيش الآن الطور الأخير من عمره، ويعبر بالتأكيد مرحلة انتقال مؤكدة؛ إلى مستقبل غير مؤكّدٍ على الإطلاق. وخلف هذا الارتحال الذي يسير إليه العالم اليوم – وفقًا لفالرشتاين -؛ معرفة ترتحل هي الأخرى. ذلك أنّ الطرق التي درجنا من خلالها على تصوّر عالمنا، وأساليب تفكيرنا فيه، تواجه تحديًا جوهريًّا في هذه الآونة.
وفقًا لفالرشتاين فإنّنا نقسم المعرفة ونربط بين أجزائها بثلاثة طرقٍ مختلفة:
1 - فكريًّا بوصفها تخصّصات معرفيّة Disciplines.
2 - منطقيًّا بوصفها بُنىً مشتركــــــــة corporate structures.
3 - ثقافيًّا بوصفها مقدّمات/مسلّمات منطقيّة يشترك مجموعة من العلماء في تبنّيها premises.(4)
في التقسيم الأول (الفكري- تخصصات معرفيّة ) يمكن النظر إلى أيّ تخصّصٍ معرفي بوصفه بناءً فكريًّا أو أداةً موجّهة للبحث. فالتخصص طريقة لوضع المعرفة في إطار ما يسمى بـ “حقل دراسي” ذي مجال مخصوص ومناهج بحث ملاءمة، وحدود مرسومة، تسعى لضبط الفكر. ومعنى ذلك أنّها لا تحدد محتوى التفكير وطريقته فحسب، بل تحدد أيضًا ما هو خارج عن نطاقه. فالقول إن موضوعًا ما هو تخصص معرفيّ لا يكفي لتحديد ما هو التخصص المعرفي، فالأمر يتطلب أيضًا تحديد المجال الذي لا يشمله التخصص؛ أي أن يكون جامعًا مانعًا – وفق التعبير المنطقي -.
يرى فالرشتاين أنّ العلوم الاجماعية ناضلت منذ نهايات القرن التاسع العشر وحتى اليوم، على انتزاع الاعتراف بكونها تخصصات معرفيّة. ومن هنا يمكننا الحديث عن الحدود التي تنماز بها العلوم الاجتماعية عن غيرها من العلوم، ونعني بالعلوم الاجتماعية هنا: علم الاجتماع – مناط بحثنا - علم السياسة، علم الاقتصاد. وعطفًا على ما سبق يمكن حدُّ العلوم الاجتماعية بثلاث حدود أساسيّة:
1 - حدٌّ على مستوى بعد الجماعي/ الفرديّ، وهنا تقوم العلوم الاجتماعية بالقطع أو الفصل مع التاريخ الفردي idiographic history
2 - حدٌّ على مستوى بعد المتحضر/ الآخر، وهنا تقوم العلوم الاجتماعية بالقطع أو الفصل مع علم الأنثروبولوجيا والدراسات الشرقية من خلال قطعها مع الآخر لصالح المتحضر، أو القطع مع غير الأوروبي لصالح الأوروبيّ.
3 - حدٌّ على مستوى بعد الحداثة/ما قبلها، وهنا تقوم العلوم الاجتماعية بالقطع أو الفصل مع المجتمعات ما قبل الحديثة التي لا تتوافر على مفاهيم (الدولة، والسوق، والمجتمع المدني) (5).
لكنّ المشكلة أنّ هذه الحدود تقوّضت جراء التغييرات في النظام العالمي بعد العام 1945، وتتحدد هذه التغييرات عند -فالرشتاين- بصعود الولايات المتحدة الأمريكيّة إلى الهيمنة العالميّة، والانبعاث السياسيّ للعالم غير الأوروبيّ، وتوسع اقتصاد العالم الذي صاحبه توسع في النظام الجامعيّ العالميّ. من هنا يرى فالرشتاين ألا معنى للحديث اليوم عن شيءٍ يُسمّى «علم الاجتماع» بوصفه تخصّصًا، لأنه لم يعد يمثل بوضوح حقلاً مختلفًا، لدراسة ذات مناهج مختلفة، وبالتالي ذات حدود مميزة. وحاصل الأمر أنْ تحوّل علم الاجتماع إلى مؤسسة؛ من تخصص إلى مؤسسة! مؤسسات راعية بدايةً من الجامعات، والكليات الأكاديميّة، والشهادات الأكاديميّة، والجمعيات الوطنية والعالميّة، ومجلات علميّة، وتصنيفات على رفوف المكتبات.(6) وهنا نلحظ أنّ فالرشتاين يتحدث بمزاج أناركيّ يرى أنّ الحفاظ على شيء يكون بمأسسته، وحتى لو كان هذا الشيء الذي نريد المحافظة عليه ميّتًا! إذ فيما يبدو أنّ علم الاجتماع دخل في لعبة المؤسساتيّة التي فضحها الأناركيّون من بوردون إلى إيفان إليش، أي (لعبة المماهاة بين القيمة والخدمة). (7)
غير أنّ تقويض الحدود التي بنيت عليها العلوم الاجتماعية، وحصرها في العالم الأكاديمي – لم يكونا السبيل الذي توسّله فالرشتاين في مساءلة علم الاجتماع اليوم. فهو لم يذهب ما ذهب إليه ميشيل فوكو في (حفريات المعرفة) ومساءلته لفكرة الحدّ المنطقي وتحليل كيفية تعريف التخصصات المعرفية الأكاديمية وتأسيسها، وإعادة تعريفها. وكذا لم يتّجه صوب ما ذهب إليه بيير بورديو في نقده لحالة الأكاديميات في كتابه (الإنسان الأكاديميّ Homo academicus) وإنما ذهب إلى مساءلة ما يسميه “ثقافة علم الاجتماع”. والتي ما تزال تفعل فعلها على الرغم من تقويض الحدود المنطقيّة التي ينبني عليها علم الاجتماع بوصفه تخصصًا، وذلك على الرغم من انحصار علم الاجتماع في الحياة الأكاديمية.(8)
علم الاجتماع بوصفه ثقافةً؛ المساهمات الثلاث:
بالقفز عن التقسيم الثاني (منطقيّ-بنى مشتركة)، يركز فالرشتاين في مساءلته هذه على علم الاجتماع بوصفه ثقافة، أي مجموعة من العلماء يتفقون على بعض المسلّمات المنطقيّة premise يُرجع فالرشتاين الثقافة إلى معناها الأنثروبولوجيّ، فيرى أنّها «جملة من المقدمات المنطقية أو الفرضيات والممارسات المشتركة؛ مشتركة ليس بالضرورة بين كل أفراد المجموعة في كل وقت، ولكن مشتركة بين معظم الأفراد في معظم الأحيان، علنية، لا شعورية، بسيطة جدًا” بحيث يندر أن تصبح هذه الفرضيات/ المقدمات محل نقاش أو خلاف، ولو كانت راقية فإنه من الصعب أن يشترك فيها الكثيرون، ويكونوا بالتالي قادرين على إنشاء مجموعة عالمية من العلماء”(9) ويعتقد فالرشتاين أن هذه المقدمات المنطقية المشتركة، أمور مستلهمة من هؤلاء الذين نعتبرهم مفكرينا المؤسسين لعلم الاجتماع في العالم بأسره، وتضم قائمة هذه القائمة ثلاث شخصيات أساسيّة (دوركهايم Durkheimوماركس Marx وفيبر Weber) ويرى فالرشتاين انّ فكرة وجود قائمة متّفق عليها للعلماء المؤسسين - القائمة الثلاثيّة - تكاد تكون وقفًا على علم الاجتماع، حيث لو سألت المؤرخين وعلماء الاقتصاد والانثروبولوجيا والجغرافيا عن مفكريهم المؤسسين، لجاء كل واحدٍ منهم بقائمة مختلفة، لا تتفق واحدة مع أخراها!(10)
تعاهد العلماء المؤسسين الثلاث – كما يرى لفالرشتاين – بصورة غير مباشرة على توطيد ثلاث معانٍ أو أفكار سوسيولوجيّة صارت بدهيات ثقافية داخل «علم الاجتماع». بحيث كان نصيب كل عالم اجتراح بدهيّة أو مسلّمة في إطار ما يعرف بعلم الاجتماع:
البدهية الأولى: وفيما يرى فالرشتاين فهي تعود إلى دوركايهم، وتحدد من خلال الصيغة الآتية (توجد جماعات اجتماعيّة ذات بنيات عقلانية قابلة للتفسير).
البدهية الثانية: وفيما يرى فالرشتاين فهي تعود إلى ماركس، وتحدد من خلال الصيغة الآتية: (تحتوي كل الجماعات الاجتماعية على جماعات فرعية subgroupsوهي مرتبة في شكل هرم، في صراع مع بعضها بعضًا).(11)
البدهية الثالثة: وفيما يرى فالرشتاين فهي تعود إلى فيبر، وتحدد من خلال الصيغة الآتية: ( إن قدرة الجماعات/الدول على احتواء صراعاتها تعود إلى حد كبير إلى أن الجماعات الفرعية subgroups ذات المواقع الاجتماعية الدنيا تعطي الشرعية لبنية سلطة الجماعة الأوسع/الدولة من منطلق أن هذه الشرعية ستضمن استمرارية الجماعة ككل، كما أن هذه الجماعات الفرعية ترى منافع طويلة المدى في هذه الاستمرارية).(12)
وبعيدًا عن بسط الحجاج الذي ساقه كل واحدٍ من هؤلاء العلماء الثلاثة في توكيد فكرته، إلّا أنّ ما أراد توضيحه فالرشتاين هنا، أن ثقافة علم الاجتماع التي نشترك فيها- جميعًا-، تحتوي على ثلاث مسلمات بسيطة: واقعية الحقائق الاجتماعية، ودوام الصراع الاجتماعي، ووجود آليات إضفاء الشرعية لاحتواء الصراع. وتشكل هذه المسلمات في مجموعها حدا أدنى من أرضية متناسقة لدراسة الواقع الاجتماعي. التي وإن كان فيه نقاط قوة، فلا تخلو من الهشاشة أيضًا.
التحديات الست؛ من الفرويدية إلى اللا حداثة:
يورد فالرشتاين ستة تحديات تثير أسئلة خطيرة جدًا – كما يرى – حول مجموعة البدهيات، التي سمّاها (ثقافة علم الاجتماع) ويرى أنّها تأثيرها لا محالة حاصل في ميدان علم الاجتماع، وبشكل أعم في العلوم الاجتماعية. وبالطبع أنّ هذه التحديات ليست حقائق، ولكنها تصبح مهمة وجدية إذا طرحت على العلماء مطالب معقولة، تدعو إلى إعادة فحص مقدمات علومهم. وعندما نسلم بأنّ هذه التحديات مهمة فلربما يضطر العلماء للقيام بصياغة جديدة للمقدمات، تجعلها أقل عرضة لتلك التحديات، أو لربما يجد العلماء أنفسهم مضطرين إلى التخلي عن تلك المقدمات، أو على الأقل القيام بمراجعتها جذريًّا. وبالتالي، فالتحدي هو بداية العملية وليست نهايتها.
1 - التحدّي الأول؛ الفرويديّة ولعبة المعقول واللا معقول(13):
إحدى أهم مساهمات فرويد دخوله ميدان ما عرف اجتماعيًّا بالسلوك غير العقلاني والعصابي neurotic behavior وتمثلت طريقة فرويد في كشف اللثام عن العقلانية القابعة وراء السلوك الذي يبدو غير عقلاني – ميكانيزمات الدفاع- . واستمر في بحثه حتى فيما هو أكثر لاعقلانية، أي الذهان، فوجد هناك أيضًا تفسيرًا ربما نسميه عقلانيًّا، وهو الهروب من الخطر مرَّة أخرى. وبالطبع، فإن التحليل النفسي يرتكز على الافتراض بأن هناك أنماطًا أفضل ومع ذلك، فإن فرويد قادنا، مكرسًا منطق البحث في التفسير العقلاني، إلى ما يبدو غير عقلاني؛ إلى طريق يتمثل في استنتاجه المنطقي أنه لا يوجد أي شيء غير عقلاني من وجهة نظر القائم بالسلوك.
والحاصل أنّ التحدي الضمني الفرويدي لمفهوم العقلانية ذاتها، فقد نعت دوركهايم نفسه بالعقلانية، أما فيبر فقد جعل من الشرعية العقلانية القانونية ركيزة تحليله للسلطة. وسخّر ماركس نفسه لما سماه بالاشتراكيّة العلمية (أي العقلانية). إن هذا التحدي من القوة بحيث يمكنني القول إننا لم نبدأ بعد مواجهته. إن الاستنتاج الثابت والوحيد الذي يخرج به فالرشتاين، هو أنّه ليس هناك من شيء يدعى عقلانية رسمية، أو بعبارة أخر يمكن القول إنه لكي، يقرر ما هو الشيء العقلاني رسميًّا، فإنه يجب على المرء بالضرورة أن يشرح -بتفصيل كامل التعقيد والخصوصية- غاية الشخص ومراده. وفي هذه الحالة فإن كل شيء يعتمد على وجهة نظر القائم بالسلوك، ومحاولته الموازنة بين همومه.
2 - التحدّي الثاني؛ تفكيك المركزيّة الأوروبيّة؛ سعيد وأنور عبد الملك(14):
يرى فالرشتاين، أنّ ما قام به مفكرون كبار من طينة إدوارد سعيد ومن قبله أنور عبد الملك - الذي كثيرًا ما يسحتضره فالرشتاين خصوصًا في مؤلفه «الجدليّة الاجتماعيّة» - وغيرهما من نُقّاد المركزيّة الأوروبيّة، من تفكيك الادّعاءات العالميّة للغرب، التي تحكي تمركزًا نرجسيًّا حول الذات، يصح فيها وصف عالم الاجتماع الإسباني «إيمانيويل ليسكانو» الحضارة الغربيّة بـ «القبيلة الأورو-أمريكيّة». وكلمة قبيلة تشير إلى اشتراك محدود بين مجموعة من الناس برباط مكاني وزماني وسياق وتاريخ مشترك. والمعنى الذي يريده ليسكانو من استخدام هذا المصطلح؛ نقد الادّعاء الحداثيّ بأنّ القيم الأوروبيّة هي قيم كونيّة وعالميّة! على أيّ حال، يرى فالرشتاين أنّ افتضاح المركزيّة الأوروبيّة يعيدنا مرّة أخرى للتفكير في عموميّة واطّراد القوانين الاجتماعية، ويعيدنا مرّة أخرى للتفكير في جدل الخصوصيّات والعموميّات. وبتعبير فالرشتاين فإنّ تحدي المركزية الأوروبية يدفعنا نحو جغرافيا أكثر تعقيدًا.
3 - التحدّي الثالث؛ مع بروديل أو إعادة التفكير بالزمن(15):
من المعروف بداهة أنّ موضوع الزمن، وإعادة التفكير فيه –على المستوى التاريخيّ- صار موضوعًا رئيسيًّا لم يقتصر على المؤرخين فحسب (بروديل، لوغوف، بودان) بل كان محل اهتمام العديد من الفلاسفة من أمثال هايدجر وجادماير.
حيث اعتبر هايدجر في كتابه “الوجود والزمان” أن الزمان ليس وعاءً مطلقًا تجري فيه الأحداث وتقع التغيرات، بل هو تابع للتغيرات ذاتها يتنوع بتنوعها ويتخصص بتخصصها، لأنه زمان علائقي ليس انسيابيًا أو صيرورة(16)، فليس هناك زمان واحد بل أزمنة كثيرة تعكس كثرتها تعدد مستويات الانتظام البنيوي. وفي ذلك ميّز بروديل بين ثلاثة أزمنة تاريخية: هناك أولاً “التاريخ المستقر»، الذي لا يكاد الإحساس بـتقلصاته ممكنًا. وهذا الزمن التاريخي يخص بالتحديد العلاقة مع البشر ومع الوسط المحيط، أما الزمن الثاني فيخص التاريخ “المتحرك ببطء»، ويقصد فيه بروديل الزمن الاجتماعي الذي يخص فعل المجموعات الإنسانية الضمني، أي الذي يحدث في عمق المجتمعات بحيث لا يبدو منه الشيء الكثير على السطح. وأخيرًا الزمن الثالث الذي يخص “التاريخ المتحرك على السطح”، أي الذي يعرف “أحداثا ـــ منعطفات” في تاريخ المجتمعات كنتيجة العمل البطيء للمجموعات الاجتماعية على المدى الطويل.
ويرى فالرشتاين أنّ علماء الاجتماع عادة ما يقعون أسرى “التاريخ المتحرك على السطح” الذي يحدث في رحم “التاريخ المستقر” دون لحاظٍ لتاريخ “المتحرك ببطء» - يُلاحظ تقاطع مفهوم الزمن “المتحرك ببطء» عند بروديل مع مفهوم الأبستيمة عند فوكو – (17)، والذي كثيرًا ما يجعل التحليلات السوسيولوجيّة هي تحليلات لا تاريخيّة.
4 - التحدّي الرابع؛ بريجوجين وعلوم التعقيد واللا متوقع(18):
خلافًا لما تعارف عليه التقليد العلميّ في العلوم الطبيعيّة (الفيزياء، الكيمياء) من دراسة حالات الانتظام والاضطّراد والوضوح في الطبيعة، كان بريجوجين الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، يدعو وحده تقريبًا لأكثر من أربعة عقود، وبإصرار عجيب، على التعامل مع مشكلات عدم التوازن والتعقيد في الطبيعة (فيزياء الشواش – مثلاً -) مدشّنا وعيًا جديدًا في العلوم الطبيعيّة يقوم على «منطق الخلل» الذي يدفع تجاه دراسة ظواهر الفوضى واللامتوقع في الطبيعة. وجوهر المشكلة هنا كما أدركها فالرشتاين يكمن في الترابط البنيويّ بين العلوم الاجتماعيّة والعلوم الطبيعيّة. حيث إن تأثر العلوم الاجتماعية بنموذج العلوم الطبيعيّة معروف بداهةً في تاريخ علم الاجتماع (وضعية كونت ومادّية دوركايهم- مثلاً –) والسؤال هنا: هل ستتأثر مفردات علم الاجتماع بتغير مفردات العلوم الطبيعيّة وطبيعة البحث فيها؟
5 - التحدي الخامس؛ فلسفة العلم النسوية(19):
يعرض فالرشتاين هنا بعض الآراء النقديّة لعالماتٍ نسويّات حاولن التأكيد فيها على وجود تحيز ذكوري ليس في مجال المعرفة الاجتماعية فقط (حيث كان من الممكن توقعه من الناحية النظرية) ولكن هذا التحيز موجود أيضًا في ميدان معرفة العالم الطبيعي حيث (من الناحية النظرية ما كان ينبغي له أن يوجد) وذلك من خلال إثارة الشكوك حول الاعتقاد المسبق بأن الجنوسة لا صلة لها بالممارسة العلمية. وعلى الرغم من رخاوة الحجاج الذي قدّمنه - كما يُلمّح فالرشتاين لذلك - إلّا أنّ المستفاد من نقدهنّ هو عرض معظم الممارسة الأساسية للعلم على معايير التثبت الميداني (الإمبريقي) للحكم عليها، وإعادة التفكير في التحيّزات التي يمكن أن تتورط فيها ثقافة علم الاجتماع.
6 - التحدي السادس: برينو لاتور، لم نكن حداثيين قط (20) !
يستند فالرشتاين في نقده الأخير «انتفاء الحداثة» إلى كتاب برينو لاتور «لم نكن حداثيين قط”. فرضية لاتور في بحثه أن كلمة حداثي تشير إلى مجموعتين مختلفتين من الممارسات، ويجب لكي تبقيا فاعلتين أن تظلا متمايزتين، المجموعة الأولى تخلق بواسطة (النقل/ الترجمة) مزيجًا من أجناس كائنات جديدة بالكامل، هجائن من الطبيعة والثقافة. والثانية تخلق من خلال (التنقية) نطاقين أونطولوجيين متمايزين بالكامل، نطاق الإنسان من جهة ونطاق غير الإنسان من جهة ثانية.
وهدف لاتور أن يبين أن القطع المفترض بين العلم والإيمان قبله، أو بين الطبيعة والمجتمع، ليس بتلك الحدية التي بنينا عليها نظرتنا لثقافتنا المعاصرة، وأن الحداثة المفترضة التي قطعت جذورها الدينية والدوغمائية وانطلقت حرة من كل ارتباط تاريخي بمعرفة سابقة، ليست كذلك، أنّها ليست حداثيّة، بل هجينة، أي ما قبل حديثة. وحاصل ما رآه لاتور أن “الحداثة” نقلت الفكر من إطار إلى إطار آخر، ليس إلا.
وختامًا؛ هل تستطيع البدهيات الثلاثة، المأخوذة من دوركهايم وماركس وفيبر كما اقترحتها فالرشتاين، والتي تشكل “ثقافة علم الاجتماع” أن تتعامل بكفاءة مع تلك الأسئلة، وإذا لم تستطع ذلك، فهل هذا يعني انهيار ثقافة علم الاجتماع؟ وإذا حدث ذلك، فماذا سيحل محلَّ هذه الثقافة؟
يرى فالرشتاين بأنّ هذه التساؤلات التي طرحها، تبشر بثلاثة وعود عبر ثلاثة توقعات، تبدو ممكنة، ومرغوبًا فيها في الوقت نفسه، بالنسبة للقرن الحادي والعشرين، وهي:
1 - توقع إعادة توحيد إيبستيمولوجي لما يدعى بالثقافتين، أي توحيد إيبستيمولوجيا العلوم والإنسانيات.
2 - توقع إعادة توحيد تنظيمي وإعادة تقسيم للعلوم الاجتماعية.
3 - توقع أن يكون للعلوم الاجتماعية دورًا مركزيًا في عالم المعرفة.(21)
الهوامش1
جيمس جودوين، تاريخ علم النفس الحديث، ص37
2 إيمانويل فالرشتاين Emmanuel wallerstein رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (1994-1998) ورئيس لجنة (جولبنكيان) الدولية لإعادة هيكلة العلوم الاجتماعية (1993-1995)، ويعتبر فالرشتاين من أشهر علماء الاجتماع اليوم ليس في الولايات المتحدة الأمريكيّة فحسب، وإنما في العالم ككل.
3 يعتبر هذا الملف (نقد/إعادة التفكير في العلوم الاجتماعية) بالإضافة إلى ملفّيّ التطور التاريخي للنظم العالمية المعاصرة، والأزمة المعاصرة للاقتصاد الرأسمالي العالمي، أبرز ثلاث ملفّات يشتغل بهنّ فالرشتاين.
4 إيمانويل فالرشتاين، نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الحادي والعشرين، ترجمة: فايز الصايغ، هيئة البحرين للثقافة والآثار 2017، ص407-408
5 فالرشتاين، المصدر نفسه ص408-409
6 فالرشتاين، المصدر نفسه ص410-411
7 أنظر على سبيل المثال: عمل إيفان إليش، مجتمع بلا مدارس، ص30 وما بعدها، والذي شرح فيه طرفًا من هذه اللعبة، وتطبيقاتها في النظم التعليميّة.
8 فالرشتاين، المصدر نفسه ص410-411
9 فالرشتاين، المصدر نفسه ص412
10 فالرشتاين، المصدر نفسه ص412-413
11 هنا تجدر الإشارة إلى أنّ مقولة ماركس، لا تتحدد بمحض الصراع فقط، كما ذهب إلى ذلك فالرشتاين. إذ يرى فالرشتاين في معرض ردّه على الفكرة القائلة بأنّ تحوّل منطق الصراع كما تتصوره الماركسية من صراع الطبقي لصراعٍ هويّاتي أو قوميٍ أو ايديولوجي أو فئوي؛ لا يعود بالنقض على فكرة وجود صراع. وهذا جوهر المقولة الماركسيّة، وهو بذلك يرى أنّ هذا النقد لا يقطع مع جوهر الماركسية، بل على العكس يؤكد مقولتها. أيّ أنّ هناك صراع يحكم الاجتماع الإنساني، وخلافنا هنا في تدويله لا في أصله. ( فالرشتاين، ص420-424) والحقيقة أنّ حجاج فالرشتاين تعوزه الدقة، إذ جوهر الإفادة الماركسية في تدويل مقولة الصراع: أن الصراع محكوم أساسًا بالصراع الطبقي، أو الاقتصادي بغية السيطرة على وسائل الإنتاج. أمّا مقولة الصراع فهي سابقة على ماركس، إذ هي من القوانين الأساسيّة التي لاحظها المؤرخ يوناني ثوسيديديس مؤرخ تاريخ الحرب البيلوبونيزيّة، قبل ماركس بألفي سنة.
12 فالرشتاين، المصدر نفسه ص414-427
13 فالرشتاين، المصدر نفسه ص428-436
14 فالرشتاين، المصدر نفسه ص436-440
15 فالرشتاين، المصدر نفسه ص 440-442
16 أنظر: د.محمد صهود، التحقيب التاريخي إسهام في التأصيل الابستمولوجي والمنهجي، مطابع الرباط
17 أنظر: ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير
18 فالرشتاين، المصدر نفسه ص 443-447
19 فالرشتاين، المصدر نفسه ص 448-456
20 فالرشتاين، المصدر نفسه ص 457-463
21 فالرشتاين، المصدر نفسه ص 463-478