عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

أحمد صلاح الملا

مصر لا تخرج من التيه

2025.10.27

مصدر الصورة : آخرون

مصر لا تخرج من التيه

 

العالم العربي في اللحظة الحالية مجرد منطقة فراغ شامل تعول فيها الريح وتتناوشها الذئاب، وكل اللاعبين فيه من دون استثناء تتراوح أدوارهم بين كونهم أدوات في المشروع الأمريكي كدول الخليج، أو مجرد ساحات للقوى المتصارعة ضمن ذلك المشروع كالمشرق العربي، خاصة بعد حرب غزة والتطورات التي تمخضت عنها.

أما مصر، فمشكلتها منذ خمسين عامًا أنها حاولت -باعتبار أن حجمها وتأثيرها التقليدي في المنطقة يضمنان لها هذا الأمر- أن تكون أداة رئيسية للمشروع الأمريكي، وهو ما جرى بالتحالف مع دول الخليج النفطية المحافظة، منذ منتصف السبعينيات، وبتصور أنها قد ترث دور الخليج نفسه بعد حين، وبالمعيار نفسه تصور أنور السادات مع اتخاذه ذلك المسار الإستراتيجي المغامر، أنه بمزيد من الانبطاح -عبر أوهام «السلام» والرخاء الاقتصادي العميم- قد تنتفي على المدى القصير أو المتوسط الضرورة الموضوعية لدور إسرائيل نفسها، وبالتالي تحل مصر محلها في خدمة المشروع الأمريكي، باعتبارها القائد الطبيعي للمنطقة.

على هذا الرهان بالذات، قام التصور الجوهري الذي حدد مسار السياسة الخارجية المصرية على الأقل طوال النصف الثاني من عهد السادات، وهي الفترة التي جرت فيها تحولاته الإستراتيجية الكبرى.

بطبائع الأمور، لم يكن هذا التصور سوى وهم لم يستمر كثيرًا في عهد مبارك، الذي أدرك بسرعة، في ضوء مشاكل مصر الاقتصادية والطبيعة الرثة للطبقة الرأسمالية التابعة التي خلقتها الساداتية، فضلًا عن طبيعة الرجل نفسه كموظف عديم الطموح، أن الأسلم هو الاستمرار في الالتحاق بالإستراتيجية الأمريكية من دون أي تطلعات إستراتيجية، سواء بشكل مباشر أو عبر وكيلها الخليجي، الذي انتقلت إليه مع الوقت أدوار مصر القيادية في النظام العربي.

كانت مشكلة ذلك التصور الذي انطلقت منه الساداتية، رفضه بإصرار التعامل مع الحقائق الثابتة للجغرافيا والتاريخ، التي يجب أن تشكل أساس التصورات الإستراتيجية وجوهر الأمن القومي لأي بلد، واعتبار أن السياسة مجرد «شطارة» وقدرة على القفز المستمر خارج هذه الحقائق، ولهذا السبب بالذات لم تستطِع الساداتية -التي تحكم خياراتها السياسية والاقتصادية الأساسية مصر حتى الآن- أن تفهم حقيقة دور إسرائيل في المنطقة كشريك أصغر للولايات المتحدة، ووكيل إستراتيجي رئيسي عن مصالح الغرب كله، وقاعدة عسكرية متقدمة له في منطقتنا المنكوبة، وهذا يجعل كل أدوات أمريكا الأخرى في المنطقة مجرد خدم لتمدده، وهو ما خلق من إسرائيل حاجة وركيزة أساسية من ركائز المشروع الغربي الكوني إجمالًا، وربما جزءًا من تصوره عن ذاته وهويته، لا سيما إذا أضفنا إلى المصالح الصلبة التي تقف وراء هذه العلاقة، تلك الوشائج التاريخية والنفسية والدينية العميقة التي تربط الغرب، خاصة في شقه الأنجلوساكسوني المهيمن، بالمشروع الصهيوني.

هذا كله يعني -ببساطة- أن دور إسرائيل في منطقتنا بلا بديل بالنسبة إلى الغرب، وأن أي محاولة مصرية أو عربية لوراثته أو تحجيمه عبر الانبطاح والتماهي مع الإستراتيجية الأمريكية وأهدافها، محض خيال أجوف لا معنى له.

ثمة نقطة ثانية بالغة الأهمية لم تستوعبها الساداتية وهي تمارس بنزق لا حد له قفزاتها الإستراتيجية المغامرة، وهي موقع مصر الفعلي من منظور «الحليف» الأمريكي، وفي هذا السياق تعد مصر بلا شك أهم بلد في المنطقة من نواحٍ كثيرة، في الدور التاريخي والثقل الحضاري والموقع الجغرافي المتميز حد العبقرية والقوة البشرية الضخمة والمتنوعة، وبالإضافة إلى كل ذلك، فهي أيضًا بلد يتمتع بخاصية فريدة، وهي أنها مع أي فرصة مواتية تستطيع النهوض بسرعة وتتجه على الفور لإنهاض وتوحيد المنطقة، وهذه السمة بالذات خطرة جدًّا ليس فقط على دور إسرائيل كقاعدة عسكرية غربية، إنما أيضًا على مصالح الغرب الاقتصادية والإستراتيجية المباشرة في بلادنا، بل وحتى على «التوازن الأوروبي» عبر المتوسط، وبالتالي فالمطلوب غربيًّا باستمرار كان -ولا يزال- إبقاء مصر في حالة «طفو» دائمة من دون أن تغرق نهائيًّا -لأن غرقها الكامل خطر على جميع الأطراف- ودون أن تنجو سفينتها أيضًا، مع عدم منحها أي فرصة جدية للنهوض وإغراقها في الديون والمشاكل وترسيخ تبعيتها طول الوقت، ضمانًا لأمن إسرائيل من ناحية، وللمصالح الغربية المباشرة في المنطقة من ناحية أخرى.

تلك العملية التاريخية التي مارسها الغرب -ممثلًا في الإمبرياليتين البريطانية ثم الأمريكية بشكل خاص- بدأب وضراوة في مواجهة مصر على امتداد ما يقرب من قرنين، التي تراوحت بين كسر محاولاتها للانطلاق بشكل متكرر، وبين احتلالها كليًّا لأكثر من سبعين عامًا، تعد في الواقع نقيضًا لخيارات تاريخية أخرى جرى اعتمادها مع دول مثل ألمانيا واليابان -على سبيل المثال- بعد الحرب العالمية الثانية، كان جوهرها السماح بإنهاض تلك الدول ومنحها مفتاح التطور الرأسمالي أو على الأقل التغاضي عن احتمالات امتلاكها إياه، بهدف احتواء جار آخر أكثر خطورة بمعايير الحرب الباردة -التمدد السوفييتي في وسط أوروبا في حالة ألمانيا والتمدد الصيني في شرق آسيا في حالة اليابان وسواها من «النمور الآسيوية» الصاعدة- ولعل خلاصة هذين المسارين سواء عبر المنع والإضعاف في حالة مصر، أو عبر الدعم وتقديم إمكانات التطور الرأسمالي في الحالات الأخرى تثبت حقيقة جوهرية واحدة، أن الحقائق الإستراتيجية الكبرى -في خاتمة المطاف- التي تحرك الاقتصاد وليس العكس.

ما نود قوله هنا بوضوح، إن النظام الرأسمالي «له أصحاب» هي قواه الغربية المركزية، تتصدرهم دائمًا دولة عظمى رئيسية كانت بريطانيا في البداية، ثم صارت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وسادة الرأسمالية هؤلاء لا يحددون مواقفهم من أي دولة حسب مدى ولائها أو انبطاحها السياسي والاقتصادي، بل حسب تقديرهم لإمكاناتها الكامنة الفعلية، ومدى تناسب -أو عدم تناسب- السماح لها بالتقدم مع المصالح الجوهرية للنظام الرأسمالي ككل.

وطبقًا لهذا النموذج تبدو مصر بلدًا سيئ الحظ جدًّا، فإمكاناتها الكامنة استنفرتها تجربة محمد علي فاندفعت في مشروع طموح للتصنيع والتحديث والسعي إلى توحيد المنطقة العربية بشكل اصطدم مع التوازن الأوربي وهدده بقوة، ولهذا طُوق المشروع بسرعة عبر «معاهدة لندن» في يوليو 1840، ثم استولد المشروع الصهيوني في فلسطين في تلك اللحظة بالذات لخنق مصر من الأساس، ومنعها من تكرار التجربة، ولعل هذا يضع تجربة جمال عبد الناصر أيضًا في سياقها الواقعي رغم أي أخطاء وقعت فيها، كتجربة تأسست على إدراك صحيح لموقع مصر وحقائقها الإستراتيجية، سعيًا إلى التصنيع والتحديث المستقل وتوحيد المنطقة مجددًا، باعتبار ذلك الأمل الوحيد للإفلات من الهيمنة الرأسمالية وتوازناتها المعادية.

معنى هذا كله -في المحصلة- أن ليس ثمة أمل لمصر إطلاقًا في النهوض والتطور عبر استمرار الانبطاح والتبعية للمركز الرأسمالي، لن يعطي أحد لبلدنا مفتاح التقدم عبر الرأسمالية طالما هي دولة كبيرة مركزية على حدود إسرائيل وتشكل خطرًا محتملًا دائمًا عليها، كما أنها تعد أيضًا مع أي صعود لها -حسب سوابقها المشار إليها- خصمًا محتملًا دائمًا للمصالح الغربية في العالم العربي، وبالتالي فإن كل يوم تستمر فيه سياسات التبعية الساداتية الراهنة هو خطر داهم على مستقبل مصر -بل وعلى بقائها ذاته- لأن جوهر هذه السياسات يمثل قبولًا لاستمرار إضعافها بلا أي ضوء في آخر النفق، كما يمثل في العمق إنكارًا لحقيقة أساسية أكدتها التجربة التاريخية، مفادها: أن نهوض مصر وتنميتها وتقدمها لا يمكن أن يتم إلا خارج السيطرة الغربية وعبر الصراع معها.

نخلص من كل ذلك إلى أنه في ظل ظروف المنطقة في اللحظة القاتمة الراهنة، بعد حرب غزة وتدمير محور المقاومة وانهيار النظام في سوريا والهيمنة التركية على مركز القرار فيها وتمدد إسرائيل وصولًا إلى الاقتراب من دمشق ذاتها، فضلًا عن استمرار هيمنة الكيانات الخليجية العاجزة بنيويًّا على النظام العربي، ليس لاستمرار الساداتية في مصر سوى معنى واحد، هو حتمية تحول هذا البلد المنكوب -مع تتابع محطات إضعافه- من أداة للإستراتيجية الأمريكية تتضاءل قيمتها مع الوقت بفعل بروز أدوات أخرى أكثر كفاءة ووقاحة لخدمة المشروع نفسه، إلى مجرد ساحة للصراع الإقليمي وللتمدد الإسرائيلي المحتمل على النمط ذاته الحاصل حاليًّا في المشرق العربي، وهذا الاستنتاج ليس خيالًا سوداويًّا أو إفراطًا في التشاؤم، بل مطلبًا واضحًا طرحه علنًا بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية الحالية -وحتى رئيسها نفسه- فيمَا يمثل التكريس النهائي لحلم «إسرائيل الكبرى»، ولعل هذه اللحظة -طبقًا للمواضعات القائمة- لم تعد بعيدة على أي حال.