قضايا
صلاح الأنصاريمصطفى عبد الغفار.. درة تاج الحركة العمالية المصرية
2021.12.01
مصطفى عبد الغفار.. درة تاج الحركة العمالية المصرية
في حفل تأبين المناضل الراحل مصطفى عبد الغفار الذي نظمته دار الخدمات النقابية في نادي شركة مصر حلوان، ألقيت كلمة بعنوان «يا مصطفى.. أنا بحبك يا مصطفى»، ومرت السنين.. ولا تزال في قلوبنا يا مصطفى.
في يوم 5 سبتمبر 2003 لم يشيع العمال والنقابيون ونشطاء وقيادات دار الخدمات النقابية وحدهم جنازة مصطفى عبد الغفار، بل كان هناك جيل كامل يسير في موكب مهيب. كان هناك عمال ونقابيون، وكان هناك رجال فكر وكتَّاب وصحفيون، ومناضلون سياسيون، ونشطاء في حركة المجتمع المدني. ما أكثر ما دمعت العيون لفراقه وتفجرت كانت ذكريات ربع قرن ويزيد.. كم من مرة اجتمعوا في تظاهرات سياسية، أو في ساحة معتقل، أو في تنظيم سياسي أو نقابي، أو في كتابة منشور ثوري، أو في ندوة أو جلسة تدريبية، أو في لجنة استماع، أو في جدال فكري، أو تحليل نقدي، أو إضراب، أو حركة تضامن مع الانتفاضة الفلسطينية، أو المقاومة العراقية!
على مدى حياته كان مصطفى عبد الغفار بينهم، شديد الصلابة، لا يخشى شيئًا، ولا يعرف الخوف أبدًا.. حتى تظن أنه صخري، ربما بسبب تكوينه الصعيدي، وربما لأن فكره مرتب ومنظم، وقضيته دائمًا هي الحرية. ومع ذلك كان من السهل إيلام قلبه، ومن السهل أن تفيض دموعه. وكم بكى إزاء المذابح التي يرتكبها العدو الصهيوني، أو عندما سقطت بغداد. كما كان شديد الصلابة كالجرانيت الصخري، فلم ندرك ما يعانيه من آلام المرض.
فقد كان دائمًا قادرًا على كتمان ما يعانيه من عذاب المرض، وكتمان انفعالاته، بل وأحيانًا إظهار عكسها.
وعندما كان هذا التاريخ الحي يسير خلفه لوداعه، لم يكن يودع فيه مرحلة من تاريخ الحركة العمالية المصرية، بل كان يمجد فيه هذه المرحلة التي لم تمت برحيله، لكنها سوف تبقى حية متجددة بذكراه وذكرى نضاله.
إن مصطفى عبد الغفار، بما يمثله في تاريخنا، وما كان يتمناه لمستقبلنا، لن يكون ماضيًا أبدًا.. بل هو حاضر في حاضرنا، ومشارك في رسم المستقبل.
والحديث عن مصطفى عبد الغفار هو في الحقيقة حديث عن مرحلة من أغنى المراحل في تاريخ مصر، على الرغم من تعقيداتها، والمتغيرات التي حدثت فيها.. مرحلة طرحت مناضلين مثل مصطفى عبد الغفار.. وقد صاغت هذه المرحلة ملامح حياته، كما شارك هو في صياغة ملامحها، فلم يتوقع أحد أن يكون رحيله على هذا النحو، حتى هو نفسه.. لكنها إرادة الله ولا راد لمشيئته.
بدأ مصطفى معي حياته النقابية في عام 1979؛ هو في شركة الحرير، وأنا في شركة الحديد والصلب.. وعمل مع نقابيين ومناضلين نعتز بهم، ونذكر منهم على سبيل المثال رشاد الجبالي وسيد فايد.. وكان مسلحًا للحياة النقابية بأكثر من سلاح؛ مسلحًا بتاريخ الطبقة العاملة والحركة العمالية والجذور التاريخية لنضال عمال النسيج، مؤمنًا بالطبقة العاملة وبرسالتها ودورها التاريخي، كان يجمع بين الثقافة السياسية والنقابية، ولم يكن يدري أنه يبدأ مرحلة سياسية جديدة تعمل وتناضل من أجل إحياء وبعث الفكر الاشتراكي، وتعمل وتناضل من أجل قواعد نقابية صحيحة.. مرحلة ثورية جديدة، تختلف تمامًا عن مرحلة الأربعينيات من حيث ظروفها ومعطياتها وأهدافها.. لكنها استلهمت الجذور والقدوة من مناضلين أمثال يوسف درويش ويوسف المدرك ونبيل الهلالي ومحمود العسكري، وطه سعد عثمان وعطية الصيرفي، وغيرهم من الرواد الذين اختاروا العمل بين صفوف العمال، وبين الذين جمعوا بين العمل السياسي والنقابي.. ومثلما نفخر بجيل الرواد، نجد أنه من حقنا أيضًا أن نفخر بقيادات جيل السبعينيات وشهداء الطبقة العاملة من هذا الجيل.. من حقنا أن نفخر بمصطفى عبد الغفار، إحدى العلامات المضيئة والبارزة في تاريخ الحركة العمالية في فترة السبعينيات واليوم وغدًا.
ومثلما وجدناه فارسًا نقابيًّا، وقائدًا عماليًّا، وسياسيًّا مناضلاً، شديد الكبرياء، شديد الانتماء إلى العروبة، نجده شديد النقاء.. شديد العشق لأشعار أحمد فؤاد نجم، وفؤاد حداد، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، وغيرهم. وعندما تتردد أشعار أحمد فؤاد نجم في أي محفل يرتفع صوته الجهوري مرددًا أغاني الشيخ أمام التي يحفظها ويستمتع بترديدها:
حنغني ودايمًا حنغني.. ونبشر بالخير ونمني
ونلف الدنيا الدوارة.. على صوت النغمة الهدارة
هو احنا كده.. وحنبقى كدا.. ماشيين
عارفين.. مع مين.. على مين.. دايمًا واضحين
مش بين دا ودا.. هو احنا كدا
وحنبقى كدا
مصطفى عبد الغفار درة غالية ومشرقة في تاريخ الحركة العمالية المصرية. ونموذج أصيل للمناضل العمالي الذي لا يفصل بين فكره وحياته.. وبين آرائه ومواقفه وسلوكه، متسق مع نفسه.. يجعل من رأيه معركة حية، لا يتهم من يختلف معهم أو يختلفوا معه.. لا يصنِّف البشر، ولم تعرف فكرة المؤامرة طريقًا إلى سلوكه.. واضح كالشمس.. شخصية جامعة، لا تفرق، لذلك التفت حوله كل ألوان الطيف السياسي. حتى في رحيله نجح في تجميعنا وكأنه يقول:
آه يا رفاق ياللي علمتوا الصلابة للحجر
بانده لكم وسط الكآبة والرتابة والضجر
يا مقربين الفجر نوره ومطلعه
مدوا المسامع ف المجامع واسمعوا
صرخة مغني الحي من جوف العدم
اتجمعوا.. اتجمعوا.. اتجمعوا
عاش مصطفى عبد الغفار حياة عظيمة من أجل أهداف عظيمة، من أجل تحقيق الديموقراطية والحرية كأوسع وأرحب ما تكون الحريات.. من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية كأعمق وأشمل ما تكون هذه العدالة.
وأخيرًا، استقرت سفينة المناضل مصطفى عبد الغفار، وتوقف المجداف مبكرًا.. ليتسلمه أحد الرفاق.. ظل الموت دائمًا هو الحقيقة، وثمن الرحلة والطريق.. وظلت حياته دائمًا هي الحب والصراع والمقاومة المستمرة حتى النهاية.. فمن رآه رأى نفسه، فهو قطعة منا.. ولذلك وجب الاستمرار في رحلة الحب والبناء والصراع.. والمقامة من أجل وطن ترفرف عليه رايات الحرية.