هموم
محمود عبد الغفارمن الآداب الآسيوية إلى اللغة العربية
2021.01.01
من الآداب الآسيوية إلى اللغة العربية
توجد حركة ترجمة مستمرة في مصر والوطن العربي، ولكنها في النهاية وبحسابات عدد القراء وكذلك عدد سكان بلاداننا العربية، تظل حركة ضعيفة مقارنة بمثيلاتها في أوروبا وأمريكا. وقد أشارت دراسات عديدة غربية وعربية إلى ضآلة الناتج عن حركة الترجمة العربية بشكل لافت للنظر. طبعًا هناك حركة ترجمة آسيوية واضحة؛ لكن الإحساس بها محدود لأن عدد الذين يجيدون هذه اللغات ويهتمون بمعرفة ثقافتها وتراثها الإنساني والإبداعي محدود كذلك، ولكنه الـآن في تزايد غير مسبوق تجاه بعض الدول وبخاصة كوريا الجنوبية. هناك حركة ترجمة من الأدب الصيني والأدب الياباني لكنها في الغالب صادرة عن الأكاديميين الذين درسوا هذه اللغات قبل عقود. الآن ومع تأسيس أقسام اللغة الكورية في بعض الدول العربية ومنها مصر التي أسست أول قسم لدراسة اللغة الكورية في كلية الألسن بجامعة عين شمس عام 2005 هناك مترجمون من الشباب الواعد الذين يحملون طموحات كبيرة لنشر الثقافة الكورية وترجمة أدبها إلى العربية، وفي هذا السياق هناك جهود كبيرة يبذلها المعهد الوطني لترجمة الأدب الكوري بالعاصمة الكورية سيول لأنه يقيم دورات تدريبية لتعريف المترجمين الشباب بخصوصية الثقافة الكورية وكذلك تقديم محاضرات عن الأدب الكوري القديم والحديث وأيضًا عقد لقاءات حرة مع كتاب وكاتبات ومناقشة بعض أعمالهم وترشيح ما يروق للمتدربين منها للترجمة إلى لغاتهم بدعم ترجمة ونشر من المعهد. في مصر على سبيل المثال قرأت عددًا من الترجمات عن الصينية واليابانية والكورية أيضًا صادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب وكذلك عن المركز القومي للترجمة.
وقد كان العرب حتى وقت قريب مجرد رد فعل. يعني قبل احتلال فرنسا لمصر وقبل احتلال انجلترا لمصر كانت هناك حركة نقل وكتابة عن المصريين وكل ما يتعلق بهم بشكل مدهش وصفه علي مبارك في عمله المعروف بـــ»علم الدين»، بقوله على لسان علم الدين إنه يرى هؤلاء الأجانب في كل مكان بأعداد كبيرة وهم دائمًا ما يرسمون صورًا ويكتبون كلامًا عن كل ما يشاهدونه. لقد بدأنا رحلة التعرف علينا وعلى سماتنا الخاصة مما كتبه المستشرقون عنا. ثم مع البعثات العلمية إلى الخارج بدأت حركة الترجمة من لغاتهم وآدابهم إلى العربية. وهنا تحديدًا سنجد رسالة دالة جدًّا أوردها رفاعة الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». وهي رسالة من الخديو إلى المصريين المبتعثين للدراسة في فرنسا يحثهم على الاجتهاد، ويكاد يوبخهم على تأخرهم في كتابة التقارير الشهرية عن دراساتهم وأنشطتهم العلمية ويطالبهم بترجمة كل ما يستطيعون ترجمته في الآداب والفنون والمعارف والعلوم الغربية. ومن ثَم فحركة الترجمة المتبادلة وكذلك التعرف على الغرب الأوروبي تحديدًا بدأت منذ وقت طويل، وقد ساهم قرب المسافة بين الغرب والشرق في تدعيم هذا التعارف المتبادل في حين بدأت العلاقة مع شرق آسيا تحديدًا تأخذ طابع الاهتمام العلمي والثقافي قبل ثلاثة أو أربعة عقود على أقصى تقدير على الرغم من وجود علاقات سياسية وتجارية واقتصادية عميقة وبعيدة مع هذه الدول. وسيعزز المشترك الثقافي الواضح جدًّا بين العرب وبلدان شمال شرق آسيا في ازدياد حركة الترجمة المتبادلة في السنوات القليلة القادمة.
وفي الحقيقة ليس عندي معلومات دقيقة عن المتحكم في سوق الترجمة، لكنها باختصار حركة عرض وطلب، فضلاً عن أنها حركة بحث عن اهتمامات القراء وطبيعة ما يريدون التعرف عليه عن الآخر في العالم على المستويات الإنسانية والإبداعية والثقافية بشكل عام. هناك مؤسسات مصرية تبذل جهودًا واضحة منذ سنوات في هذا السياق؛ جامعة القاهرة مثلاً - بحكم انتمائي لها- لها دور في دعم الترجمة ونشرها في السنوات الأخيرة. وبكل تأكيد هناك جامعات ومؤسسات أخرى تسهم في هذه الحركة. هناك إلى جانب ذلك دور نشر لها سمعتها وحضورها الثقافي في مصر تقوم بجهود فردية لها الطابع المؤسسي بحكم حجم الصادر عنها من ترجمات. هذه الدور في الحقيقة تؤدي دورًا عظيمًا في حركة الترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية على كافة المستويات. طبعًا وبحكم البحث عن اهتمامات القراء سنجد أن أغلب إن لم يكن ما يتم ترجمته يدور في فلك العلوم الإنسانية بشكل عام وفي فلك الإبداع الفني والأدبي وتحديدًا الرواية والقصة وبعدهما الشعر بشكل خاص. وبحكم علاقتي بالثقافة الكورية يمكنني أن أقول إن المعهد الوطني لترجمة الأدب الكوري يقوم بدور عظيم في الترويج للأدب الكوري على المستوي العالمي. هذا المعهد كان له دور في تقديم أعمال الكاتبة الواعدة «هان كانج» التي حصلت على جائزة «مان بوكر» عام 2016م عن روايتها «النباتية». وللمعهد موقع إلكتروني ينشر خلاله قوائم طويلة من الأعمال التي يرشحها للترجمة إلى كل اللغات العالمية. وهناك أكثر من وسيلة للقيام بالترجمة من خلال المعهد وذلك عبر موقعه الإلكتروني؛ إذ يتقدم المترجم بطلب ترجمة أحد هذه الأعمال مشفوعًا بعدد من الصفحات المترجمة. وبعد مراجعة الترجمة من خلال لجنة مختصة وفي حال قبولها يتم التواصل مع المترجم لعمل خطة بمواعيد محددة للترجمة كما تُحوَّل دفعات من مقابل الترجمة إلى حسابه البنكي كلما انتهى المترجم من الجزء الذي حدده في خطته وكذلك يدعم المعهد تكاليف الطباعة. في برامج أخرى تتقدم دار النشر بطلب ترجمة أحد الأعمال وبعد توقيع الاتفاق مع المعهد تتولى الدار البحث عن المترجم ثم تبدأ عملية الترجمة من هذا المسار. يقدم المعهد دورات سنوية لتدريب المترجمين الأجانب بشكل احترافي، وهي برامج تكون مدتها من أسبوعين إلى ثلاثة أشهر. ويكون لها دور كبير جدًا في تعريف المترجمين الأجانب بخصوصية الأدب الكوري وتحسين قدراتهم في الإحساس باللغة الكورية وتحمسيهم لبذل الجهود في ترجمته إلى لغاتهم.
كذلك تلعب الترجمة عبر لغة وسيطة دورًا مهمًا في نقل الثقافات والآداب الأخرى، ولكن عندما لا يتوفر المترجمون عن اللغات الأصلية مباشرة. الترجمة ومهما اقتربت من روح النص الأصلي تظل غير قادرة على تمثله كما هو بلغته الأصلية، ومن ثَم فالترجمة عبر لغة وسيطة تزيد من هوة التباعد بين النص الأصلي واللغة المترجم إليها، ولذلك لا يمكن الاعتداد بها بدرجة كبيرة رغم قيمتها وأهميتها حال غياب المترجمين المباشرين. من الواضح أن الأجيال الجديدة في العالم العربي شغوفة بالتعرف على الثقافات الآسيوية وأننا في حاجة إلى مؤسسات ترعى المترجمين الشبان، وتدعمهم علميًّا وماديًّا، وبخاصة ممن درسوا اللغات الآسيوية لحاجتنا الماسة فعلاً إلى جهودهم مستقبلاً، خصوصًا وأن التعرف على الآداب الآسيوية يدعم فكرة المشترك الثقافي والإنساني الواضح جدًّا بيننا وبين هذه الشعوب. لدينا ولديهم ميراث مشترك وأصيل وعميق جدًّا على المستويات العقائدية والاجتماعية فيما يتعلق بالعادات والتقاليد تحديدًا. لدينا سياق حضاري ناصع بحكم عدم الدخول في صراعات عسكرية مع هذه البلدان، ومن ثَم فصورتها دائمًا في عقولنا مشرقة، تدعمها باستمرار جودة منتجاتهم التكنولوجية التي نستعملها ليل نهار. هذا إلى جانب تمويلهم المستمر لمشروعات علمية وخدمية في بلادنا. لا ننسى مثلاً المدارس اليابانية في مصر والخدمات التي تقدمها مؤسسة مثل «كويكا» لكثير من المصريين في شتى أنحاء البلاد. وأكثر الأجناس الأدبية التي تترجم عن اللغات الآسيوية هي الرواية بالطبع، ومع طولها النسبي مقارنة بالشعر فإنها تغدو أيسر في النقل مقارنة بالشعر الذي يكون محملاً بانزياحات لغوية وشحنات ثقافية لا نهاية لها، تتطلب من المترجم بذل الكثير من الجهد وتفرض عليه التأني الشديد عند اختيار كل كلمة.
في إطار، تجربتي؛ في الترجمة عن الكورية لا يمكنني الإقرار بأن بعض الأعمال الأدبية العربية التي تترجم وتنشر في اللغات الآسيوية الأخرى يجري إنجازها من قبل جامعات وباحثين يتعاملون مع الأدب كمواد تعكس ظواهر سياسية واجتماعية أكثر منها بوصفها أدبًا، فما تُرجم من الأدب العربي الحديث في مصر ولكتاب مصريين لا يعكس توجهات سياسية معينة. الأمر في الغالب يعود إلى ذائقة المترجم وقدرته على التعامل مع هذا النص أو ذاك وتصوراته عن قيمة ترجمة هذا العمل إلى لغته. فترجمة المعلقات السبع على سبيل المثال لا يمكن أن يحمل أغراضًا سياسية أو اجتماعية معينة اللهم إلا تعريفه بشكل من أشكال الإبداع الأدبي العربي في الماضي. حتى اختيار ترجمة أعمال سلوى بكر مثلا في التسعينيات أو ترجمة بعض روايات لعلاء الأسواني مع مطلع الألفية الجديدة لا يحمل أية أبعاد سياسية ولا يهدف لإظهار صورة مؤدلجة عن مصر. أقول هذا بحكم معرفتي خلال إقامتي في كوريا بالأساتذة الذين ترجموا مثل هذه الأعمال من العربية إلى الكورية ومن قبيل حسن الظن بهم لأني لم أر لهم أية توجهات أخرى ولا أنشطة غير الانكباب على تعليم العربية للطلاب الكوريين وترجمة الأدب العربي إلى الكورية.
وأعتقد كذلك أن أغلب ما يترجم هو اقتراحات مترجمين، لأنه وبكل أسف ليس لدينا خطط طويلة الأمد. كان عندنا في مصر مشروع ترجمة الألف كتاب ضمن سلسلة كانت تحمل الاسم نفسه، وكذلك ترجمة «ألف كتاب» في المركز القومي للترجمة فترة رئاسة الأستاذ الدكتور جابر عصفور له لكن في حركة الترجمة العكسية لا أعرف بالضبط كيف يتم الاختيار. في إطار معرفتي بالجانب الكوري أستطيع أن أقول أن الأعمال يتم اختيارها بشكل فردي ثم يتم البحث عن جهة تمويل كورية لنشر تلك الترجمة. لقد ترجم الكوريون مثلاً القرآن الكريم من الإنجليزية والعربية إلى الكورية، وترجموا روايات حديثة لكتاب وكاتبات عصريات تتم كلها بشكل فردي ومن خلال خبرة الأستاذ الكوري بالأدب العربي الذي في الغالب ما يكون أكاديميًّا يعمل بأحد الجامعات الكورية. وتجري عملية التمويل من خلال الهيئات والمؤسسات الكورية المهتمة بالترجمة من اللغات الأخرى إلى الكورية. تتولى هذه المؤسسات دفع المقابل المالي للمترجم وللناشر وكذلك حقوق الملكية الفكرية والنشر ... إلخ.
كل ما يمكنني أن أوصي إذن به في عبارات موجزة:
دراسة تجربة المعهد الوطني لترجمة الأدب الكوري والسير على خطاها.
زيادة الدعم المالي الممنوح للمؤسسات الرسمية التي يتعلق عملها بالترجمة.
قيام المؤسسات الرسمية بدور فعال في ترجمة الآداب العالمية ومن بينها الآداب الآسيوية حسب خطط مدروسة وتوزيع علمي لحاجات القراء على المستويين الثقافي والإبداعي تحديدًا.
تدريب دارسي اللغات الآسيوية من الشباب على الترجمة باستقدام أساتذة ترجمة من هذه اللغات في دورات تدريبية ولو مرة في العام.
دعم ترجمات الشباب وتشجيعهم ماديَّا على التفرغ للترجمة من خلال مشروعات ترجمية مدفوعة الأجر لسنة أو سنتين حتى ثلاث إلى خمس سنوات بمرتب شهري.
ترسيخ مبدأ أساس لدى كل المؤسسات الرسمية المعنية بالترجمة حول أهمية الترجمة ودورها العبقري باعتبارها جسرًا حقيقيًّا في التواصل الثقافي والإنساني، ومن ثَم فكل مليم تنفقه الدولة على ترجمة عمل من أعمال هذه الشعوب سيعود علينا بالنفع بعشرات ومئات بل وآلاب الجنيهات مستقبلاً.
هناك حركة ترجمة آسيوية واضحة؛ لكن الإحساس بها محدود لأن عدد الذين يجيدون هذه اللغات ويهتمون بمعرفة ثقافتها وتراثها الإنساني والإبداعي قليلي للغاية
الترجمة ومهما اقتربت من روح النص الأصلي تظل غير قادرة على تمثله كما هو بلغته الأصلية، ومن ثَم فالترجمة عبر لغة وسيطة تزيد من هوة التباعد بين النص الأصلي واللغة المترجم إليها