أعداد خاصة

المرايا -1

من بنات وحدة المجتمع المدني إلى دينا جميل: سنحبك دومًا

2020.01.01

ياسمين سليم وندى الخولي

من بنات وحدة المجتمع المدني إلى دينا جميل:  سنحبك دومًا

 نحينا الدموع جانبًا فلا مكان لها الآن، فقط تتبقى الكلمات وهي من علمتنا كيف نغزلها جيدًا وكيف نصوغها بأسلوب صحفي لا تشوبه شائبة كي تبهر عين القارئ. علمتنا أسس الصحافة؛ نظيفة دون مصالح ولا مواءمات، نكتب للناس ومن الناس دون شعارات أو عبارات زائفة، نتعاطف أحيانًا مع مصدر الخبر، لكن لا مجال لمجابهة طرف على الآخر فالجميع أمام الصحافة سواسية.

معظمنا التقى أستاذة دينا، كما كان يحلو لنا أن نناديها، أواخر عام 2008؛ مع انضمام مجموعة كبيرة من المتدربات لصحيفة الشروق، بينما كانت الصحيفة لا تزال في طور إصدار الأعداد التجريبية ولم تر النور بعد. رويدًا رويدًا تعرفنا إليها؛ إنسانة بشوشة تضحك دائمًا، تتمتع بمهنية عالية، لا تخشى أحدًا، وتصدح بالحق مهما كانت العواقب، تحرص على أن يُعامل الجميع باحترام، الصغير منا قبل الكبير.. وهنا كانت البداية.

البداية:

دخلت الشروق عالم الصحافة الورقية بداية عام 2009، وبعد أشهر من العمل انضم إلينا زميل صحفي جديد، طُلب منه أن يشارك إحدى الفتيات المتدربات في تغطية حدث. وعادت الفتاة في اليوم الثاني لتشكو لدينا جميل، من سوء معاملة الزميل الجديد وتعاليه عليها، اصطحبت دينا الفتاة من يدها، وذهبت إلى رئيس قسم الأخبار في الصحيفة لتخبره أنه لا مجال للتعالي بين الزملاء وأن الصغير يجب أن يحظى بمعاملة الكبير. وعلى الرغم من أن دينا لم تكن مديرة الفتاة المباشرة وقتها، فإنها ذهبت معها وعضَّدت موقفها، وانتصرت لها.

بعد هذا الموقف حدثت بعض التعديلات في قسم الأخبار، وكُلفت دينا برئاسة وحدة المجتمع المدني في الشروق، ومن هنا بدأت حكاية «بنات دينا».

لسنوات عدة وحتى عام 2013، عندما غادرت دينا الشروق، كانت الوحدة قوامها الرئيسي من الفتيات الصغيرات التي لم تكن لهن أي تجربة بالصحافة من قبل. ومثل خطاط متمكن من قلمه، نقشت دينا ثوابت وأسس الصحافة فيهن، وعلمتهن أن الصحافة هي أن تكتب للناس، وأن المهنية ليست شعارات رنانة ولكنها فعل وممارسة، وأن أشكال الصحافة عدة عليهن إتقانها. وقبل كل شيء أحاطتهن بحب وعطف كبير، فعرفت مشكلاتهن وكانت دائمًا داعمة لهن، عاملت كل واحدة منهن على حسب طبعها وأسلوبها.

إذا سأل أحد لماذا كانت وحدة المجتمع المدني كلها فتيات؟ الإجابة: أن هذا لم يكن بقصد، أو لأن دينا كانت «فيمنست»، لكن الظروف هي من شكَّلت أعضاء الوحدة على ذاك الشكل، وكانت دينا تضحك دائمًا وتقول «الوحدة مش بيعيش لها ولد أبدًا». وبمرور السنوات كانت مواقف دينا مع الفتيات تتشكل، في كل موقف نكتشف صفة أو ميزة بها.

بلا تعالي:

إذا كنتِ عضوة في وحدة المجتمع المدني بصحيفة الشروق خلال رئاسة دينا للوحدة، فأنتِ بالتأكيد جلستِ على الأدراج المجاورة لها. كنا نجلس هناك نشاهدها وهي تصحح أخطاءنا، وتعيد صياغة الموضوع بالكامل، وتبدي الملاحظات الصحفية والإملائية، وتقترح أن نصقل الموضوعات ونتحدث مع مصدر آخر، وتفكر في العناوين معنا.

كل هذا في إطار ودي للغاية، لم تتذمر يومًا منا، لم تبدِ أي ملاحظة بعجرفة، أو ترفع صوتها على أي منا، كنا أحيانًا نأتي بكارثة فتستقبلها بضحكتها المعهودة، وتقول «هنحلها».

تقفز دروس دينا أمامنا دائمًا في كيفية معاملة الآخر، نتذكر كيف أخذت بأيدينا في بداية عملنا الصحفي، وكيف علمتنا أن نتعامل بالإنسانية أولاً، ثم يأتي العمل فيما بعد.

 لا مجال للنمط الواحد:

ذات يوم أجرت زميلة حوارًا صحفيًّا مع مصدر مسؤول في وقت كان يواجه مشكلة كبرى في مكان عمله، نُشر الحوار، وتعرضت الزميلة للسخرية من زميل آخر لأنها بدأت الحوار بطريقة وصفية للمكان الذي كان يجلس فيه المصدر. وقال الزميل إن الحوار يجب أن يبدأ بـ»قال، وليس بوصف للمكان الذي يجلس فيه المصدر»، لكن دينا دافعت بضراوة عن الزميلة، وقالت إن الصحافة لا مجال فيها للأسلوب الواحد، وأنه إذا تشابهت طريقة كتابة المواد الصحفية فسيذهب القارئ ولن يعود للصحيفة.

وهكذا كانت دينا دائمًا، تشجعنا على الكتابة بطرقٍ مختلفة، وتطلب منا أن نغطي الأمور الخبرية، وأن نكتب القصص، ونحول الفكرة إلى تقرير صحفي وأن نكتب «الفيتشر».

تحثنا على الكتابة السلسة البسيطة، والجمل القصيرة، والكلمات والأفعال الصريحة المباشرة.

التزمنا جميعًا في وحدة المجتمع المدني بنمط كتابة محترفة، على غرار وكالات الأنباء والصحف العربية الكبرى، بل كان القسم ملتزمًا بـ»ستايل بوك».

 «البنت زي الولد»:

كنا في ذروة ثورة 25 يناير، وبعد أيام قليلة من موقعة الجمل، اتخذ رئيس قسم الأخبار قرارًا بأن الفتيات لن يذهبن للتظاهرات مرة ثانية خوفًا عليهن. لم نشاهد دينا غاضبة مثل هذا اليوم، ذهبت مباشرة إلى رئيس التحرير، لأن فتياتها كن المقصودات، قدمت حجتها بكل قوة وشراسة. وتساءلت ما معنى هذا؟ ولماذا لم يصدر هذا القرار من قبل الثورة عندما كانت الفتيات تذهبن لتغطية التظاهرات القليلة أمام مكتب النائب العام؟ ولم تعد إلا وقد حصلت على موافقة من رئيس التحرير بأن «البنت زي الولد». وهكذا كانت دائمًا، داعمةً قوية لحقوق فتياتها لم ترض قط أن تُظلم أحداهن.

«مش مهم مين يزعل.. اكتبي الحقيقة كاملة وواضحة»، جملة مقتضبة لكنها كانت المنهج الذي حرصت دينا على تعليمنا إياه منذ بداية عملنا في الصحافة.

زرعت بداخلنا مبدأ المهنية في عملنا مهما كانت الصعوبات والمغريات، فالصحافة، وعلى حد قولها تعطي لكل مجتهد.

طلبت زميلة في يوم من الأيام دعمًا منها بألا تنشر أخبار إحدى هيئات الوزارة التي تغطيها بسبب عدم الحيادية في تعامل مسؤولي الهيئة مع الصحفيين.

نقلت الزميلة الصورة كاملة فأيدتها وقررت الدفاع عن رغبتها، مع أنها قد تؤثر على علاقة المصدر والصحيفة، لكنها كانت تقول «كرامة الصحفي جوة مصدره أهم من الخبر»، وبالفعل نجحت في إقناع رئيس التحرير برغبة الزميلة.

قالت لزميلتنا: عدي (واحد اثنان ثلاثة) قبل أن تتكلمي. ثم ضحكت بصوت عالٍ وهي تحني رأسها قليلاً للخلف وتقول: بل من الأفضل أن تعدي من واحد إلى عشرة أو.. مئة.

كانت تعرف شخصياتنا جيدًا، تعرف أن البعض منا مندفع ينطق ما يجول في خاطره دون تفكير في عواقب ما تحمله الكلمات.

كان هذا يوم علمت الزميلة بأن اسمها وبعض المحررين، ليس في كشف التعيينات الجديد في الصحيفة الذي عُرض على رئيس التحرير، على الرغم من تأجيل تعيينها دفعتين دون أسباب واضحة.

دافعت عن زميلتنا في كل مرة خلا كشف الأسماء منها، قبل أن تنتصر أخيرًا في كشف التعيينات الثالث، لتكون سببًا في تعيينها والتحاقها بنقابة الصحفيين.

زميلة أخرى كانت غير متوافقة مع رئيستها السابقة، دينا كانت تلحظ هذا في هدوء، وبحكم تفاعلها اللا إرادي مع كل صاحب مظلمة في محيطها، تحدثت معها. وعلى انفراد في شرفة الطابق الثالث المقاربة لمكتب دينا، كانت الزميلة تقف غاضبة، وقد بكت طويلاً وهي بجانبها.

كانت الزميلة تمسك كوبًا من القهوة، قبل أن تباغتها بالقول «إذا كان إلقاؤه وكسره سيريحك ويمتص غضبك.. افعلي هذا». ابتسمت لها الزميلة وسحبت كلمات دينا شحنات الغضب التي كانت تتمكن منها. وما إن هدأت حتى أخبرتها أنها ستطلب نقلها لوحدة المجتمع المدني، وستكلفها بتغطية ملف العمال، وستساعدها وستمدها بالمصادر.

 تشجيع ومغامرة

في عام 2010، انفردت زميلة لنا في الوحدة بسبق صحفي تسبب في استجواب في مجلس النواب عن جرارات لقطارات دخلت مصر وهي غير مطابقة للمواصفات. كانت الزميلة صغيرة في السن، ولم تعِ كيف أن الخبر والمستندات التي أتت بها، تحوَّل لأزمة كبيرة؛ ودخل انفرادها الصحفي للبرلمان واستشهد النواب به على وجود فساد في الحكومة. وعلى مدى الأيام التي تلت نشر هذا الخبر، كانت دينا داعمًا قويًا للزميلة، تحمسها، وطلبت لها مكافأة، أشعرتها بأنها بجوارها، وأنه لن يمسها سوء ما دامت هي موجودة.

بالإضافة إلى التشجيع كانت تدفعنا لأن نغامر، في نوفمبر 2012، كانت قافلة شعبية تستعد للانطلاق من مصر إلى غزة للتضامن معها بعد العدوان الإسرائيلي عليها. كان لدينا مقعدٌ في الحافلة، لكنها لم تتمكن من المشاركة، فرشحت زميلة بالوحدة لتحل محلها، وخاضت معركة أن يتم اعتبار الزميلة في مهمة عمل رسمية أسوة بزميلين كانا قد سبقاها إلى هناك، كما تحملت مسؤولية تكليفها بالسفر من قبل وحدة المجتمع المدني المكونة من فريق محررين كلهن إناث.

سافرت الزميلة إلى غزة في القافلة الشعبية في مقعد كان في الأصل مخصصًا لدينا، وعادت وفي جعبتها ثلاثة موضوعات صحفية نشرت جميعها في الصحيفة، لتحتفظ بأهم رحلة صحفية في أرشيفها الصحفي والأمر يعود لدينا.

معظمنا شعر بالفقد والتوهة عندما غادرت دينا، صحيفة الشروق وانضمت إلى موقع أصوات مصرية، في 2013.

كأن الجدار الذي كان يحاوطنا سقط، كنا قد مررنا بأزمات خلال فترة عملنا معها لكنها لم تتخلَ قط عنا، بل كانت مدافعة على طول الخط.

تشرذمت الوحدة فيما بعد وتبدلت بنا السبل، لكن ظلت علاقة إنسانية تربطنا جميعًا حتى يومنا هذا، كان أساسها دينا جميل.

نحن ممتنون لأننا كنا هنا في وحدة المجتمع المدني بصحيفة الشروق عدة سنوات، ممتنون لبصمتك الواضحة في طريقة عملنا إلى اليوم.

نشعر بالحزن من رحيلك المفاجئ، لكن الأديب الجزائري واسيني الأعرج، يذكر في روايته «طوق الياسمين» إنه «عندما يرحل الذين نحبهم، يأخذون معهم كل أشيائهم الصغيرة إلا ابتساماتهم وأسئلتهم فهي تبقى معنا».

أستاذتنا الجميلة صحيح صعدت روحك لبارئها، لكنك لا تزالين بالقرب منا، نتذكر ضحكتك المميزة وعينيك البراقتين. شكرًا جزيلاً على كل شيء. سنبقى على العهد وسنحبك دائمًا.