بروفايلات

محمود هدهود

هنية والسنوار: المرايا المتقابلة

2024.08.17

تصوير آخرون

هنية والسنوار: المرايا المتقابلة

 

تخلق المرايا المتقابلة خداع المتاهة بفعل الانعكاسات اللامتناهية للصور التي تنتهي إلى شعور بالتشظي، كأن الذات مفتتة ومكسرة بين تلك الصور اللامتناهية. فلسطين هي إحدى ضحايا خدعة المتاهة، فقلب الخريطة محاط بالمرايا المتقابلة: الأديان الإبراهيمية الثلاثة التي تتعانق وتتلاكم في اللحظة نفسها في القدس، والقارات المتقاطعة، وملتقى البحرين. لكن التشظي الأكبر لم يصب الفلسطيني إلا بعدما داهمه الاستعمار البريطاني الصهيوني الذي انتهى في النكبة إلى تمزيق الشعب الصغير. "التشظي" كلمة تكثف مأساة الذات الفلسطينية الجمعية بقدر ما تصف مأساة الذات الفلسطينية المفردة، فإذا كان الفلسطيني يعاني تمزق الشعور بالاحتلال والغربة والخذلان والمصير المعلق والمؤجل دومًا، فإن الذات الفلسطينية الجمعية يتجسد تشظيها جغرافيًّا بين شتات في مخيمات اللجوء، وشتات في المهجر العربي أو الأوروبي، وداخل هو نفسه مقسم بين الضفة الغربية وغزة، والداخل حيث الذات الفلسطينية المنقسمة بين وثيقة السفر الإسرائيلية والهوية العربية.

وُلدت حماس متشظية تمامًا كشعبها؛ فالشيخ المؤسس أحمد ياسين كان قد بادر إلى إعادة تشكيل تنظيم الإخوان المسلمين في غزة على أمل تحويله إلى حركة وطنية مقاومة للاحتلال. تولى أحمد ياسين قيادة تنظيم الإخوان المسلمين في غزة منذ منتصف الستينيات تقريبًا، وهو التنظيم الذي احتفظ بصفة «الفلسطيني» بينما التحق شقيقه في الضفة بالتنظيم الأردني. وفي عام 1978، مع تأسيس الجامعة الإسلامية والمجمع الإسلامي في غزة، بدا واضحًا أن هذا المُعلِّم المُقعَد في طريقه لإعادة رسم ملامح تنظيمه الصغير، ولم يحتج الأمر أكثر من 4 سنوات قبل أن يدخل هو نفسه السجن في المحاولة الأولى لإطلاق الكفاح المسلح. العام نفسه 1982، شهد أولى محاولات تشكيل حماس من الخارج مع تطور الحركة التصحيحية الفلسطينية في تنظيم الإخوان المسلمين الأردني، ودفعها في اتجاه استقلال التنظيم الفلسطيني وانخراطه في المقاومة. وبحلول عام 1985، كان قد تشكل جهاز فلسطين بقيادة خيري الأغا؛ ليتوحد تحته التنظيم الفلسطيني في الخارج، وفي الضفة، وفي قطاع غزة.

على مدى سنوات، ظلت عملية التواصل والالتئام بين الأقاليم الثلاثة عرضة للمد والجزر؛ فرغم انعقاد مجلس الشورى الأول للحركة عام 1991، ومحاولة تثبيت هياكل الحركة التنظيمية ودوائرها القيادية، توالت الضربات الأمنية، فكاد تنظيم غزة يتفكك بعد أسر الشيخ أحمد ياسين، كما عانى تنظيم الضفة من القبضة الأمنية الثقيلة للسلطة الفلسطينية القائمة من بعد أوسلو. حتى الخارج لم يسلم من المعاناة؛ إذ تعرض رئيس الحركة موسى أبو مرزوق للاحتجاز في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تعرضت الحركة للطرد من الأردن سنة 1999، لتنتقل إلى سوريا، ولم تكد الحركة تلتقط أنفاسها، حتى جاءت الانتفاضة الثانية التي طحنت التنظيم في رحاها.

شكل عام 2007 لحظة حاسمة في عملية تشكل حماس وتطورها، فالسيطرة العسكرية على قطاع غزة فيما دعته الحركة بالحسم العسكري، كان حسمًا أيضًا لترتيبات البيت الداخلي لحماس. تقوض التنظيم في الضفة الغربية بفعل التصفية المضادة التي قامت بها السلطة الفلسطينية ضد الحركة وكوادرها منذ ذلك الوقت، وعانت حماس من بعد ذلك إلى اليوم في محاولة إعادة بناء تنظيمها في ذلك الإقليم في ظل ملاحقة أمنية منسقة مستمرة بين أجهزة السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي. أما إقليم الخارج فتحول إلى جهاز رديف مهمته تزويد غزة بما تحتاجه في تجربتها/مغامرتها للحكم الذاتي تحت سلطة المقاومة.

كان هذا المشهد يتطلب شخصية يمكن أن تكون محل إجماع داخل الحركة، وربما بين الشعب الفلسطيني بأسره، وكان إسماعيل هنية هو الوجه الأقرب للعب هذا الدور. وُلِد إسماعيل هنية في مخيم الشاطئ سنة 1963، وكان من بين الطلاب الأُوَل الذين التحقوا بالجامعة الإسلامية في غزة لدراسة اللغة العربية. ومن المفارقات، أن هنية درس في الجامعة في نفس الاختصاص والوقت اللذين كان فيهما يحيى السنوار من بين منتسبيها (يكبر السنوار هنية بعام واحد). الشابان العضوان في الحركة الإسلامية اتخذا سبيلين مختلفين مع ذلك يناسب شخصية كل منهما. هنية الذي غلبت عليه النزعة الصوفية والشخصية السلسة كان مناسبًا أكثر لمساعدة أستاذه أحمد ياسين في نشاطه الدعوي والسياسي، أما السنوار ذو القسمات الصارمة فقد اعتمد عليه أحمد ياسين في إدارة العمل الأمني للحركة. سرعان ما دخل السنوار السجن، أما هنية فقد عمل معيدًا في الجامعة الإسلامية قبل إبعاده سنة 1992 إلى مرج الزهور. شكلت تجربة مرج الزهور مسبكًا لكثير من كوادر حماس الشابة؛ فقد أصقلت خبرتهم السياسية واحتكاكهم الإعلامي والشعبي في لبنان، وهو ما ساعد كثيرًا من المبعدين لاحقًا على لعب أدوار سياسية مهمة في الحركة.

كان هنية من بين المتطلعين الأوائل من الحركة للالتحاق بالسلطة الفلسطينية كأحد المسارات الممكنة للعمل الوطني بعد اتفاقية أوسلو، حتى وإن لم تعترف بها الحركة، وقد حاول هنية بالفعل في عام 1996 أن يخوض الانتخابات تحت لافتة «حزب الخلاص الوطني الفلسطيني»، لكن قيادة الحركة لم تدعم الخطوة، بل اندفع الجناح الرافض للمبادرة في قطاع غزة إلى إصدار بيان قاس ضد هنية ورفاقه يتهمهم فيه بالخيانة، ويعلن إبعادهم عن الحركة. لكن تحول تنظيم غزة سنة 2006 إلى خيار الانتخابات، وأعاد هنية إلى الواجهة بحكم مبادرته السابقة، وبحكم شخصيته التي لا تثير الخلافات سواء داخل الحركة أو خارجها. هذه السمة ستظل محورية في شخصية هنية؛ فهو الوجه الذي يجمع ولا يفرق، ولا يرتبط اسمه بأي عنف أو صدام أو خصومة أو عداوة.

كانت الحركة قد صارت بفعل تجربة الانتفاضة والحسم جُزرًا معزولة بين أقاليمها الثلاثة، وتضاعف الثقل التنظيمي لإقليم غزة، ما وَلَّد بالضرورة شعورًا بضرورة أن ينعكس ذلك في دوائر الحركة القيادية. تعزز هذا الاتجاه بفعل الصدمة الجديدة التي أصابت قيادة الخارج بعد الخروج من سوريا في 2012، والقطيعة مع النظام الإيراني، وخسارة العلاقة مع مصر بعد تغير النظام في 30 يونيو 2013. وهكذا أخذت حماس تتحول عمليًّا إلى مظلة تجمع تنظيمات لكل منها ظرفه السياسي والتنظيمي الخاص. كانت الحركة بحاجة إلى شخصية توحدها، خاصة بعد مضي عشرين عامًا على قيادة خالد مشعل للحركة، وضرورة تغيير الوجوه.

كانت قيادة الخارج بالطبع هي الأكثر زخرًا بالخبرات السياسية والتنظيمية، بحكم استقرار قياداتها في العمل لسنوات طويلة، وكان من بين الأسماء البارزة قادة كمحمد نصر وماهر صلاح وعزت الرشق ومحمد نزال وأسامة حمدان، لكنَّ أيًّا من تلك الأسماء لم يكن يحمل الرمزية والشعبية التي تؤهله للعب الدور التاريخي الذي كان هنية هو الشخصية المثلى له: رمز وحدة وتماسك الحركة. وقد تضاعفت مركزية هذا الدور في 2021، بعد عودة القائد التاريخي للحركة خالد مشعل لقيادة تنظيم الخارج، في مقابل سيطرة شخصيتين تاريخيتين في الحركة؛ هما: يحيى السنوار وصالح العاروري على قيادة تنظيمي الضفة وغزة. تكاثرت الرؤوس والتوازنات الصعبة، وكان وجه هنية البشوش، وشخصيته المحبوبة، وعلاقاته المنزهة عن الخصومات، هي رمانة الميزان التي يمكن أن تضمن ذلك التوازن الحساس.

ربما لم يكن هنية أبرع سياسيِّي حماس أو أقوى قادتها أو أكثرهم شعبية، لكنه كان أقدرهم على لعب دور تاريخي محوري، وبرحيله انفتح فراغ للحركة يضع أسئلة كثيرة حول مستقبل قيادتها، خاصة بعد أن خلفته شخصية تتمتع بميزات كبيرة، لكنها تمثل الصورة المقابلة لصورة هنية: يحيى السنوار، رجل التنظيم القوي، والقائد ذو الشعبية الجامحة. ربما الدرس الإنساني الأكبر في حياة هنية، هو أن النقاء والإخلاص والسلاسة ربما تشكل رأس مال سياسي وتنظيمي لا يقل أهمية عن القوة والبراعة والعلاقات.