غزة تقاوم

تيتي باتشاريا

إعادة إنتاج الحياة الفلسطينية

2024.08.30

مصدر الصورة : الجزيرة

ترجمة: محمد السادات

نسيت أن أموت! [1]

 

قبل هجوم حماس في السابع من أكتوبر، أعلن العديد من المصادر الإعلامية أن 2023 "العام الأكثر دموية على الإطلاق" بالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية، وتشكل جرائم القتل من هذا القبيل إنهاء مباشرًا للحياة، وتصعيدًا مكانيًّا وزمانيًّا لحرب بطيئة ومستمرة ضد الشعب الفلسطيني.

في هذا المقال، استخدم نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي (SRT)، حيث أبين أن الإعاقة (خلال السياسات) أو الإبادة (خلال العنف) لحياة الشعب الفلسطيني هي موروث في المشروع الصهيوني. بناء على ذلك، في هذه الحلقة المستمرة من العنف تستهدف إسرائيل نوعَينِ من طاقات الإنتاج الاجتماعي: مؤسسات الإنتاج الاجتماعي؛ مثل: المدارس والمستشفيات، والأجيال المستقبلية المتمثلة في الأطفال. تسعى إسرائيل إلى القضاء على كل من الحياة وإمكانية إنتاج حياة مستقبلية.

ازدهار حياة الفلسطينيين يتطلب أكثر من إيقاف القتل، فهو يتطلب ما اعتبره ماركس إدراك وجود أشكال الحياة، ومقاومة الفلسطينيين المبدعة غير القابلة للفناء تلقي الضوء لتوضح ماهية أشكال الحياة وما تعنيه بالفعل.

إعادة التفكير في إنتاج الحياة من خلال مفهوم ماركس

استخدمت بعض النسويات، المنتسبات لإعادة الإنتاج الاجتماعي، صيغة "صنع الحياة" لتحديد الطرق المتعددة التي يعمل بها البشر لتحويل الطبيعة، من أجل الحفاظ على أنفسهم وتلبية الاحتياجات. بينما أوظف هذا المفهوم لفهم المقارنات، والعلاقات، والنتائج الوجدانية بين نقاط العقد لدى العنف الصهيوني في كلا شكليه المباشر وغير المباشر. للاعتراف باستمرارية الاضطهاد العسكري والاحتواء العسكري لحياة الفلسطينيين، نحن بحاجة للبدء من زعزعة الاستقرار، وإضعاف وإفناء قدرات الفلسطينيين على إعادة الإنتاج الاجتماعي. توفر لنا صناعة الحياة كمفهوم النسيج الضام التحليلي بين العقد.

في "كراسات عام 1844 الفلسفية والاقتصادية"، يقودنا ماركس للتمييز الواضح بين العمل المغترب، والعمل غير المغترب. يشير الأول إلى أنه تحت الاتجاه الرأسمالي، يسبب الشعور "أن العمل هو شيء خارجي عن العامل"، بينما يشير الثاني إلى أن البشر يُكوِّنون "نشاطات حياتية هي في ذاتها تمثل إرادتهم ووعيهم". فإننا كبشر متدبرون، إذ إننا لا نندمج مع أعمالنا (كما يفعل العنكبوت). يركز العديد من الماركسيين على الطعام والمأوى والكثير من الأشياء عندما يشيرون إلى المنتجات التي نتجت عن استغلال البشر للطبيعة. على الرغم من ذلك يرى ماركس أن تلك الاحتياجات الأساسية نماذج محدودة لإنتاج الحياة.

استخدم ماركس كلمة روحاني 22 مرة في كراسته؛ حيث يشير إلى العمل الإنساني على أنه شكل من أشكال النشاط الذي "تتجلى فيه النشاطات الفردية الطبيعية والروحية والتعددية الاجتماعية". لقد صُدم تمامًا بتداول وعالمية العمل الإنساني، أينما نعمل ليس فقط "تحت هيمنة الحاجات المادية الملحة" لكن حتى عندما نكون "أحرارًا من الحاجات المادية".

يعتبر التمييز بين صنع الحياة من خلال أنظمة العمل الرأسمالية، وصناعة الحياة في ظل ظروف الحرية؛ يشكل موضوعًا ثابتًا في فكر ماركس؛ فقد استخدم إطارًا أرسطيًّا، بواسطة هيجل؛ لمناقشة الحريات الشكلية المتاحة في ظل الرأسمالية، وانعدام الحرية والاغتراب الكامنَينِ تحتها. اتفق ماركس مع المنظِّرين الليبراليين على أن حالة الحرية تاريخية، وأنها حتى في إجراءاتها التمهيدية، لا بد وأن ترتكز على تلك الضروريات الأساسية للحياة. وعلى هذا فقد زعم أن "عالم الحرية" يبدأ حقًّا "فقط حيث ينتهي العمل الذي تحدده الضرورة والمصلحة الخارجية".

بينما يكون التميز واضحًا عند ماركس، إلا أنه من الواضح أنه في الحياة اليومية المعاشة تحت الرأسمالية، يمكننا بشكل متكرر أن نلقي نظرات على ما أدعوه ازدهارًا. إذا كانت العمالة المغتربة هي التي يُجبَر عليها العمال بواسطة قوى خارجية، إذن فالعمل غير المغترب هو ذاك الذي يتم اختياره بحرية وتقريره بواسطة العمال أنفسهم. في السياق العام لنظام الاغتراب ما نزال نغذي نباتاتنا وحيواناتنا وأطفالنا، ونصنع الفن ونمارس الجنس وكل أشكال العمل التي نشارك فيها بحرية نسبية. يشير ماركس في الجرونديسة إلى أن تلحين الموسيقي "عمل حر فعليًّا"؛ إذ يتطلب "جهدًا عظيمًا" و"يتطلب في ذات الوقت الجدية".

لذلك كتبت الشاعرة النسوية الفلسطينية رفيف زيادة: "نستيقظ نحن الفلسطينيين كل صباح لنعلم بقية العالم كيفية الحياة"، قرأت ذلك على أنه تنظير لاذع لسياسات إنتاج الحياة، قرأت ذلك على أنه نداء لاكتشاف ما حدث لإنتاج الحياة، في كل من إدراك الحياة وإدراك الازدهار في فلسطين.

النكبة وإنتاج الحياة

تستخدم إسرائيل ثلاث استراتيجيات واسعة النطاق حيال حياة الفلسطينيين: التهجير، القتل العمد للأجيال الجديدة، والتحكم في خصوبة الفلسطينيين. بينما يفسر المستوطنون المستعمرون كإطار تحليلي هذا المشروع الصهيوني البيوسياسي، تسمح لنا نظرية إعادة إنتاج الحياة ومفهومها الموسع عن إنتاج الحياة، بتوثيق الطرق المتعددة التي تسعى بها الدولة الصهيونية لمنع الفلسطينيين ليس فقط من البقاء أحياء، وإنما تمنعهم حتى من البقاء بشرًا.

خلال دراسة لحياة السود والفلسطينيين، تعرض لنا جاسبر بوار -وهي أستاذة أمريكية متخصصة في الجندر ودراسات المرأة- نظرية اقتصادية سياسية عن القدرة الجسدية. بالنسبة إلى بوار، فإن آليات الدولة القمعية تضع الموت والضعف في علاقة مثمرة مع بعضهما البعض، وتحتفظ الدول بالحق في أن تكون المصدر الوحيد للموت، لكن بوار تظهر أن عدم قتل الفلسطينيين ليس "تجنيبًا إنسانيًّا للموت"، بل هو بالأحرى خطوة لجعلهم "ضعفاء بشكل منهجي وكامل"، إنه "استخدام وتعبير بيولوجي سياسي للحق في التشويه". يخلق هذا الضعف المستمر "نظامًا اختناقيًّا للسلطة" يربط المكان والزمان من خلال العلاقات الاجتماعية المعقدة للعنف والاحتلال.

يمتد مفهوم الضعف الذي تطرحه بوار ليشمل تشويه المؤسسات التي تصنع الحياة، وهذا المعنى ضمني عند بوار عندما تناقش "الحرب على البنية الأساسية" أو هجوم إسرائيل على البنية الأساسية باعتباره "عنصرًا أساسيًّا، بل حتى مركزيًّا، في التنظيم البيولوجي السياسي للانهيار الإنساني القابل للتغيير". وتستند في كتابها إلى العمل الذي قام به عمر جباري سالامانكا، حيث تعيد إنتاج إشارته إلى السياسي الإسرائيلي دوف فيسجلاس الذي وصف السياسة الإسرائيلية بأنها "موعد مع أخصائي تغذية، سوف يصبح الفلسطينيون أكثر نحافة، لكنهم لن يموتوا". استمرار هذا الهجوم على صنع الحياة، وهذه القوة الطاردة للحياة، وهذا التناقص هو ما آمل أن ألتقطه هنا.

الاختلاف في الولادة

ويتم اتباع النهج البيولوجي السياسي المعاكس تمامًا في التعامل مع السكان اليهود المحليين في إسرائيل. منذ عام 1948، كرست إسرائيل سياسات تشجيع الإنجاب في مؤسساتها العديدة، وأسست نظامًا إنجابيًّا من خلال المكافآت المالية واللجان التي تضمن معدل ولادة متزايد.

تعقب المنظِّرون النقديون أمثال: سيجريو فيرتومين ونيرا يوفال ديفيز تلك المبادرات، ضمن أمور أخرى، فمنها جائزة البطلة 1949 للأمهات اللاتي أنجبن 10 أطفال، والمركز الديموغرافي 1968 الممول للتشجيع على الإنجاب، وفي الآونة الأخيرة، المجلس الديموغرافي الإسرائيلي 2022. ذكرت ميرا فيز شيئًا مماثلًا عن تحسين النسل المعمق في وريد الصهيونية والذي يهدف، تاريخيًّا، عبر "ثورة جسدية" إلى "خلق أفراد جدد يلائمون الأرض الجديدة". ظهرت فكرة الجسد اليهودي نتيجة لهذه السياسات التي كانت "ذكورية، ويهودية، وأشكينازية، وممتازة، ومتكاملة" وذاك ما تدعوه فيز "الجسد المختار".

بينما يحق لكل الأمهات في إسرائيل الحصول على إجازة وضع، وعدد كبير منهن يحصلن على إعانة الأمومة. يتحدث مواطنو تل أبيب عن المدينة على أنها "معروفة بتدليلها للأمهات الجدد". تحتوي كافيهات المدينة على "نشاطات أنا وأمي، مثل: الفنون والحرف اليدوية والعلاج الطبيعي والتدليك والرضاعة وعيادات النوم". وكجزء من هذا الازدهار فإن الطفل اليهودي الإسرائيلي يضمن الحصول على تعليم مجاني في نظام تعليمي يحتل الترتيب الخامس عالميًّا (قبل كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة).

لا يقتصر التوليد الاجتماعي لإنتاج الحياة الإسرائيلية على تكنولوجيا الإنجاب وحدها؛ حيث تضمن جميع البنى التحتية للدولة والاجتماعية ازدهار الحياة الإسرائيلية وإبادة/ إضعاف الفلسطينيين. اختلفت أساليب إضعاف الفلسطينيين على مدار تاريخ فلسطين؛ فالتقطيع العمد لفلسطين إلى أنظمة سيطرة مختلفة؛ إذ تضمن ممارسة العنف يوميًّا تجاه الفلسطينيين في تلك الأراضي غير المعترف بها، ذلك ما دفع نورا إيكرات لتقدير أن ما تحاول إسرائيل تحقيقه في غزة "عن طريق الحرب، هو ما تسعى إلى تحقيقه في الضفة الغربية من خلال القانون العسكري، وفي القدس الشرقية من خلال القانون الإداري، وفي تاريخ فلسطين من خلال القانون المدني". بطرق مختلفة ومركبة مع بعضها تمامًا، وبسبب هذا الاختلاف، فإن إستراتيجية إسرائيل تمنع الفلسطينيين عنوة من الازدهار عبر التحكم في مسارات إنتاجهم للحياة.

تستخدم المؤسسات –مثل: الأمم المتحدة والبنك الدولي- مقاييس محددة للحكم على ما يدعونه تطويرًا، وما أدعوه أنا بالازدهار. يعد النفاذ إلى الطعام، والماء النظيف، والإسكان، والرعاية الصحية، والتعليم أكثر العناصر المسجلة تقييمًا. في فلسطين، الوصول إلى أيٍّ من تلك المصادر يتم عبر تكنولوجيا استعمارية. أكثر من ذلك، بينما تلك السجلات تشكل نموذجًا "قائمة" بالأنواع، أود أن أجذب الانتباه إلى أن إسرائيل تنظم المساحات والأفراد بطرق محددة، بحيث تضمن نمو وتعزيز سلطتها الاستعمارية.

العيش مقابل الازدهار

علَّمَتْنا الدراسات المناهضة للاستعمار أن المشاهد الطبيعية تتكون من السياسات التي أنتجت الطبيعة، ليس فقط على أنها موقع عمل الإنسان، وإنما أيضًا على أنها تصنيف للفكر والخيال. بالأخذ في الاعتبار مكان الأسماك في فلسطين؛ فإن مذاق ورائحة الأسماك تقبع في الخلايا المعمارية للتاريخ الفلسطيني. تنسج الحكايات الشعبية هذا التاريخ مع قصص عن ملك السمك، بينما الشبت والثوم والفلفل الحار تسند التاريخ إلى الحواس، لكن المياه التي تحيط بغزة ليست محايدة ولا هي بدون أطر استعمارية. مسموح للصيادين الغزاويين بالصيد على مسافة ستة أميال بحرية فقط أو أقل من الشاطئ، بينما تتواجد الأسماك على الأقل على مسافة تسعة أميال بحرية في البحر. المحيطات، والصحاري، والصخور، والأسماك يمكنها أن تتصل مع الفلسطينيين عبر السيطرة الإسرائيلية فقط، وبالتالي أوجدت تلك السيطرة، أولًا وقبل كل شيء، ما تدعوه إليزابيث بوفينيلي "الأنطولوجيا الجغرافية" للسلطة الاستعمارية.

 أصدرت إسرائيل قرارًا في 1967 يقر بأن الفلسطينيين لا يمكنهم بناء أي مرافق جديدة للمياه بدون ترخيص؛ مثلًا: تلك التراخيص ما يزال من غير الممكن الحصول عليها، وبالتالي حُظِر الفلسطينيون عن حفر الآبار أو تركيب المضخات؛ فنهر الأردن يمثل الآن جرحًا لإنتاج الحياة للفلسطينيين؛ فهم ممنوعون من الوصول إلى مياهه، فأكثر من 180 قرية فلسطينية في الأراضي المحتلة من الضفة الغربية تعاني من صعوبة الوصول إلى المياه.

الوضع أكثر مأساوية في غزة؛ حيث يشربون المياه "مالحة ملوحة البحر". أكثر من ذلك، منذ 2007 حافظت إسرائيل على وضع الأطفال الفلسطينيين فيما تدعوه قوات الاحتلال الإسرائيلية "نظام الجوع الغذائي"، ما يقرب من 80 في المئة من أطفال غزة يعيشون على تكلفة أقل من 1 دولار لليوم، وبناء عليه فإن نسبة محددة منهم تعاني من الجوع يوميًّا؛ إذ تتضائل فرص حصولهم على السعرات الحرارية الكافية تحت الحصار المستمر.

بينما تشوه نقاط التفتيش الأرض، فالعديد من الأطفال الفلسطينيين في تلك الأثناء، عليهم الترحال لمسافات طويلة للوصول إلى أقرب مدرسة. الموارد المخصصة للمدارس العربية هي أقل من نظيرتها العبرية بنسبة 40 في المئة (على أساس كل طالب). في 2018 مرر الكنيست الإسرائيلي قانون الدولة القومية الذي جرد العربية من مكانتها كلغة رسمية، مجبرًا الطفل العربي على عيش حياة غريبة عنه.

لذلك فإن الفلسطينيين يتوالدون بلا توقف على أنهم لا محل لهم في وطنهم، حتى الطرق تسن وتؤمن الإقصاء العنصري؛ فلون لوحات أرقام السيارات يحدد حدود التنقل: السيارات ذات اللوحات الفلسطينية غير مسموح لها بالمرور في الطرقات الإسرائيلية، بصرف النظر عن هوية سائق السيارة. جدار الفصل العنصري ونقاط التفتيش المتعددة تساعد على خلق متاهة هذيان من الشرعية عبر الأراضي المشوهة، والفلسطينيون يتوالدون فيها قانونًا وشعوريًّا على أنهم دخلاء على هذه الأرض.

تلك السياسات المختلفة للتوليد الاجتماعي أدت إلى نتائج صارخة: في 2020 كانت تعد أكثر من نصف العائلات العربية فقيرة، مقارنة مع 40 في المئة من العائلات اليهودية. أود أن أؤكد على العلاقة الاستعمارية كمنتجة ومولدة عوضًا عن أن تكون ثابتة. إنها تولد نفسها ليس فقط عبر القوانين وسياسات الدولة، وإنما خلال التقسيم النظامي، والإحاطة بكل الجسد الاجتماعي.

نسيان الموت

تعبِّر إسرائيل اليوم عن جوهر الرأسمالية العالمية: التزام الدولة بالسيطرة غير المهيمنة، وتسميمها للبيئة الفلسطينية، ورفضها الصريح لمعظم أشكال الديمقراطية، كل هذا يجسد الجوهر النظامي للرأسمالية عندما يتم تجريدها من الأشكال البرجوازية. يحتوي ازدهار حياة اليهود الإسرائيليين على غايات أبعد من وراء تهجير الفلسطينيين من الجسد الاجتماعي، ذلك الازدهار -الطرق الجميلة، المروج المروية جيدًا- يسمح للمجتمع الإسرائيلي بمحاكاة الغرب بشدة، ومِن ثَم يمارس استعارات المستشرقين القدامي للحضارات الغربية ضد الشرق البربري. تلك الهوية أيضًا تجعل الغرب أكثر تعاطفًا مع إنتاج الحياة الإسرائيلية؛ حيث إنه في دفاتر حسابات الغرب تستمر قيمة الحياة الإسرائيلية بالعلو أكثر من قيمة حياة الفلطسينيين.

حاولت أن أبين في هذا المقال لماذا تكون البنية التحتية لإنتاج الحياة في فلسطين مميزة وسياسية جدًّا؟ وكيف أن ازدهار الحياة الإسرائيلية مرتبط بإضعاف إنتاج الحياة الفلسطينية؟ في قصة أورسولا ك. لي جوين القصيرة "الذي رحل بعيدًا عن أوميلاس" تصور الكاتبة هذه العلاقة العنيفة؛ إذ تقدم لنا قصة خيالية عن مدينة أوميلاس؛ حيث الحياة فيها ممتازة ووافرة لكل المواطنين، على الرغم من ذلك فأوميلاس تخفي سرًّا؛ ففي هذه المدينة دُفِنَت فظائعها الأكثر وحشية، طفل يعيش في حالة مزرية وحرمان، وعندما يكبر مواطنو أوميلاس من العمر بما يكفي يخبرونهم بحقيقة ازدهارهم، ويوافق أغلبهم على ضرورة هذه التضحية من أجل رخائهم، بعضهم رحل بعيدًا عن أوميلاس، ولكن الأغلبية منهم رضيت بالبقاء. إن صور الإسرائيليين وهم يحتفلون بمنع المساعدات من الوصول إلى غزة، تعيد رؤية لي جوين وتزعزع الفهم التقليدي للعنف الاستعماري.

لكن إذا كانت هذه المقارنة مع أوميلاس تنطبق تمامًا على الإسرائيليين، فإنها تعجز عن أن تمثل حال الفلسطينيين، فحال الفلسطينيين أسوأ من ذلك الطفل.

لاحظ المناضل المسلح الجنوب أفريقي باري فينسينت فاينبيرج "أنه من الغريب أن عددًا كبيرًا من القصائد نابع من الشعراء الفلسطينيين". يرد الشاعر الفلسطيني على تعليق فاينبيرج قائلًا: "الشيء الوحيد الذي لم ينسه شعبي هو الحق في الحلم". إن هذا استثناء ولكنه سمة ثابتة في الحياة الفلسطينية على الرغم من مئة عام من عنف الاحتلال.

كلمات الشاعر الفلسطيني، مثل العديد من الشعراء الآخرين، تحمل العديد من التناقضات. يؤرخ الفن الفلسطيني للتهجير العنيف/ السيطرة على الفلسطينيين من داخل الجسد الاجتماعي، لكن من ناحية أخرى، وجود هذا الفن في ظل شروط الإضعاف هو رفض للتهجير الفلسطيني. تحثنا تلك التعبيرات عن حياة الفلسطينيين في الفن والحياة اليومية على التفكير عما ادعاه ماركس من أن الموسيقى "عمل حر"، ومثل تلك الأعمال تمثل أفكارًا مهيمنة دائمة داخله على الرغم من الاغتراب الرأسمالي.

أزعم أن فلسطين اليوم تحقق ضغطًا بشريًّا جامحًا على الرأسمالية، وهذا سبب وراء ما يشابه ثورة العبيد في زمن ماركس ومقاومة الفيتناميين في الستينيات؛ فالنضال الفلسطيني يتردد صداه اليوم عند رقعة واسعة من المضطهدين الذين يرون نضالهم أو إنسانيتهم واضحة في نضال الفلسطينيين.

يعلم المستعمر الصهيوني جيدًا مدى قوة الإنسانية الفلسطينية. صرح الجنرال موشيه ديان ذات مرة بأن قراءة قصيدة فدوى طوقان كانت مثل "مواجهة عشرين عدوًّا من القوات الخاصة"، وهكذا تتكلم فدوى طوقان عن فلسطين:

هذه الأرض امرأة

في الأخاديد وفي الأرحام

سر الخصب واحد

قوَّةُ السرِّ التي تُنبتُ نخلًا

وسنابلْ

تُنبتُ الشعب المقاتلْ

(قصيدة حمزة)

يتجاوز حلم الفلسطينيين هذا بالتأكيد الطاقات الإبداعية المعتادة (تأليف تلك القصائد وتلحين الموسيقى)، لكن حلم العودة إلى الوطن والتاريخ يشير إلى مجموعة من الأعمال الواعية الهادفة للحفاظ على ذلك "الحلم". تلك "العقلانية" العمل، تهدف إلى الازدهار الكامل للإنسان، إنها جوهر الأشياء للإنسانية. 

يحدد بيرتيل أولمان أنهم الأقرب إلى تعريف ماركس "الطبيعة البشرية في العموم" حينما قال: "الشخصية الكاملة للأنواع... في طبيعة نشاطها الحياتي، والنشاط الحر الواعي هو طابع الجنس البشري". وهذا ما ندعوه البشر الذين دائمًا، وبلا كلل، وعلى الرغم من كل المحاولات ضدهم يستمرون في فعل "نشاطات واعية حرة" في زمن آخر ومكان آخر، كنا نسميهم العبيد المتمردين أو المقاومين الفيتناميين، اليوم بلا شك نحن نسميهم الفلسطينيين. إنهم شعبنا الذين على الرغم من استمرار العنف والاضطهاد لهم يستمرون في التعبير عن جوهر الطبيعة البشرية، ما هي عليه الحرية؛ فكما قال محمود درويش:

صاحت فجأة جنديّةٌ:

هُوَ أَنتَ ثانية؟ أَلم أَقتلْكَ؟

قلت: قَتَلْتِني... ونسيتُ، مثلك، أن أَموت!

1- النص الأصلي للمقالة منشور على موقع "Spectre Journal" - لينك المقالة:

 https://spectrejournal.com/i-forgot-to-die/