هموم
هبة شريفمهمة المؤسسات الحكومية
2021.01.01
مهمة المؤسسات الحكومية
الترجمة ليست دراستي الأساسية، فالنقد الأدبي هو تخصصي، ولكن النقد قادني إلى فهم أفضل للنصوص، ومن ثَم للقدرة على الترجمة. يعرف كل من درس الترجمة أن المدرسة الفرنسية في الترجمة تؤكد على أهمية توصيل المعنى من قبل المترجم، وتعتبره أكثر أهمية من نقل البنية اللغوية في النص الأصلي. أتعامل مع النصوص التي أرغب في ترجمتها على إنها مضمون أرغب في نقله والإعلام عنه لمن لا يتقن اللغة التي كُتِب بها النص الأصلي. ولهذا أطالب نفسي دائمًا بأن أفهم النص أولاً كي أستطيع أن أبلغ الآخرين بمضمونه وأنقله. ولكني أتشكك أحيانًا وأتوقف لحظة لأتساءل إذا كنت متأكدة من فهمي للنص وإذا كانت طريقتي في فهم النص هي الطريقة الصحيحة. ويقودني هذا إلى التساؤل التالي: هل هناك طريقة «صحيحة» في فهم واستقبال النصوص؟ فكل فهم للنص هو فهم ذاتي وكل استقبال للنص استقبال ذاتي، ولا يستطيع أحد أن يفرض قراءته الخاصة على الآخرين. فاستقبال النصوص له علاقة قوية بالخلفية الثقافية التي أترجم منها و اللغة التي أترجم إليها، فكيف يمكن أن أكون واثقة إلى هذا الحد أن ما فهمته صحيح؟
هنا أتذكر أمبرتو إيكو وكتابه عن الترجمة الذي أعطاه عنوانًا يلخص مفهومه عن الترجمة: «نفس المعنى ولكن بكلمات أخرى»، فهو يقول إن الترجمة ليست فقط مجرد التنقل بين اللغات ولكنها أيضًا تنقل بين الحضارات - أو بين دوائر معارف مختلفة. فعلى المترجم أن ينتبه للقواعد اللغوية في اللغتين: الأصل واللغة التي ينقل إليها، ولكن عليه أيضًا أن يراعي ويفهم العناصر الثقافية بمعناها الواسع. فهل تكفي إذن دراسة النقد واللغة وتاريخ الحضارة حتى يرتاح المترجمون في مهنتهم ويتمكنون منها ويبدعون فيها؟ قد تكفي دراسة الخلفية الثقافية لإعطاء المترجمين الثقة الكافية والمعرفة اللازمة للبدء في الترجمة، ولكن تبقى الترجمة على الرغم من ذلك مهمة غير سهلة في أي من السياقات الثقافية، فأنا أرى الترجمة ليست مهنة مريحة، أو مربحة في معظم المجتمعات. فبادئ ذي بدء، لا يمكن أن يكون العمل بالترجمة مهنة أساسية يعتمد عليها المترجم لتدر عليه دخلاً منتظمًا وثابتًا وكافيًا، ومع ذلك، أتصور أن المترجم لا يحركه الربح المادي، بل يحركه في الأساس الشغف بالترجمة، أو هكذا أ أتصور أنا. وأعتقد أن الشغف بنص ما هو ما يحرك لدى المترجمين رغبة ملحة في نقله والإخبار عنه، كأنهم لا يستطيعون الاحتفاظ بهذا النص لأنفسهم. والكلام عن أهمية نقل المعارف وأهمية التلاقح الثقافي والحضاري الذي تقوم به الترجمة كلام مكرر ومعروف، فلا أريد أن أكرر وأؤكد على أهمية الترجمة، فأهميتها لا تحتاج إلى تأكيد، ولكن ما يحتاج إلى النقاش والتأكيد هي تلك العقبات التي تواجه الترجمة والمترجمين والناشرين، وليست كلها عقبات مادية، فالمترجم لا يقف وحده ويعمل وحده وينجز العمل وحده، فهو طرف داخل صناعة بأكملها بها أطراف كثيرة تعمل كلها لصالح العمل المترجم وتحكمها علاقات قانونية ودولية وفنية إبداعية أيضًا. وأتصور أن كل من يعمل في مجال الترجمة في مصر - سواء كان مترجمًا أو ناشرًا - فهو في حال لا يحسد عليه مقارنة بوضع الترجمة في بلاد أخرى.
عملت فترةً رئيسة لمكتب المؤسسة الثقافية السويسرية بالقاهرة (بروهلفتسيا). وفي خلال تلك الأعوام التي ترأست فيها المكتب كنت أُشرف أيضًا على برامج دعم ترجمة الأدب السويسري إلى اللغة العربية، والمنح التي تقدمها الحكومة السويسرية لترجمة الأعمال السويسرية إلى العربية، وعرفت عن قرب كيف تتعامل الحكومات والدول مع منتجاتها الثقافية، وكيف تروِّج لها في الداخل والخارج. وبدأت أفكر في واقع الترجمة في مصر، ومقارنته بدول صغيرة وتعاني من قلة الإنتاج الثقافي مثل سويسرا إلا أنها استطاعت نشر العديد من أعمالها الفكرية والأدبية في العالم.
وهنا لفت نظري أننا في مصر في وضع يستقبل الترجمة عن اللغات الأخرى، ولا نروِّج لترجمة الكتب العربية المصرية مثلما يفعل العديد من الدول الأخرى، فهل يعود ذلك إلى أننا نوجد حاليًا في ظرف تاريخي يحتم علينا أن نأخذ عن الثقافات الأكثر تقدمًا في المعارف والعلوم والفنون، لأننا لا ننتج هذه المعارف لأسباب كثيرة يطول شرحها؟ هل موقعنا المتأخر في السياق الحضاري الحالي هو ما جعل دعم الترجمة عن اللغات الأجنبية - عادة الإنجليزية - هو الهدف الأساسي في المؤسسات الثقافية الحكومية المخصصة للترجمة مثل المركز القومي للترجمة؟ هل عدم اهتمام المؤسسات الحكومية الثقافية في مصر بالترويج للأعمال الفكرية والأدبية المصرية وتوجيه الاهتمام إلى الثقافات الأخرى له علاقة بوضعنا في عالم المعرفة وترتيبنا المتأخر وسط مجتمعات المعرفة؟ فقد قرأت في تقرير التنمية الثقافية العاشر الذي تصدره مؤسسة الفكر العربي أن حجم إنفاق الدول العربية مجتمعة على ما تقوم به من أنشطة بحثية لا يتجاوز 9 مليارات دولار أمريكي، وهي نسبة تساوي 0.4 من الناتج المحلي للدول العربية. فهل هذا القصور في الإنفاق على إنتاج المعرفة هو السبب في عدم وجود منتجات ثقافية عالية الجودة مما يجبر كل محب للمعرفة التحول إلى قراءة الكتب الأجنبية بلغتها الأصلية أو إلى الإقبال على الكتب المترجمة؟ وهل يهتم القارئ العربي بالكتب المترجمة لأن الكتب العربية دون المستوى المتوقع ولإدراكنا للتفوق الحضاري الأوروبي واعترافًا به؟ يذكر تقرير التنمية الثقافية العاشر أيضًا أن عددًا من بلدان العالم العربي؛ مثل مصر والجزائر والمغرب وتونس والسودان اعتمدت على نظم التعليم والبحث الغربية، فقد أنشئت في مصر والعراق وسورية خلال العقود الأولى من القرن الماضي معاهد وجامعات وفقًا لنماذج الجامعات البريطانية والفرنسية، وعلى الرغم من أن هذه المعاهد والجامعات قد استطاعت أن تبني قدرات ملموسة في البحث العلمي فإن مستواها تدهور لعديد من الأسباب التي لها علاقة بطرق الإدارة ونقص التمويل المخصص للأبحاث العلمية. فهل أسهم تبني هذا النموذج الثقافي المعرفي الغربي في تقوية إدراكنا لألا موقع لنا على خريطة المعرفة؟ ولكن هل هذا تبرير كافٍ لغياب الاهتمام بالترويج للأعمال الفكرية العربية المصرية والأدب العربي المصري؟ لماذا نجد دولاً صغيرة تهتم بالترويج لآدابها وأعمالها الفكرية وتراثها ولا نجد ذلك الاهتمام في مصر؟
التقيت في أثناء معرض القاهرة للكتاب في عام 2019 بأحد ممثلي الحكومة المالطية، وهو يحاول أن يروِّج لترجمة الكتب المالطية، وأثار تركيزه على الترويج للكتب المالطية في مصر اهتمامي، فبحثت قليلاً في الفضاء الرقمي ووجدت أن مالطا، تلك الدولة الصغيرة جدًا، قد خصصت أربعين ألف يورو لدعم ترجمة الكتب المالطية إلى اللغات الأخرى. ومالطا دولة صغيرة للغاية (عدد سكانها 493.559 نسمة في 2019) وهي بهذا الشكل دولة لان يمكن أن يقارن إنتاجها الفكري بدولة مثل مصر. ووجدتني أتساءل فورًا عن السبب في أن كل دول العالم، حتى تلك الدولة الصغيرة جدًا، تهتم بالترويج لكتبها وترجمتها إلى اللغات الأخرى، بينما لا تهتم المؤسسات الثقافية الحكومية في مصر إلا بالترويج للترجمة إلى العربية.
إذا ألقينا نظرة على الموقع الإلكتروني الخاص بالمركز القومي للترجمة، لوجدنا أنه يحدد رؤيته في الترجمة عن اللغات الأجنبية بهدف يعلن عنه بوضوح وهو «سد الثغرات المعرفية الموجودة في ثقافتنا المعاصرة، وفي المجالات العلمية التي تدخل في نطاق اهتمامات المؤسسات الأكاديمية الحريصة على مواكبة التصاعد غير المحدود» في ظل ثورة المعرفة، ويهدف المركز إلى رفع معدلات إنتاج الكتب المترجمة بوجه عام.
وأنا لا أعترض على هذه الحقائق لأن الفجوة الثقافية بيننا وبين مجتمعات المعرفة كبيرة بالفعل، ولأن توفر الكتب المترجمة عن اللغات الأجنبية ضرورة وليست رفاهية أبدًا في عالم متسارع الخطى ومترابط بهذا الشكل ولأن كل دول العالم تترجم عن اللغات الأخرى. ولكن يبدو إن الحالة المتأزمة في هذه اللحظة التاريخية التي تتواجد فيها الثقافة المصرية تجعلها في وضع يفرض عليها تلقي المعارف ولا تصدرها، نظرًا إلى تفوق الحضارات الأخرى، بخاصة الغربية في مجال الفنون والعلوم، وعلى الرغم من تسليمي التام بكل هذا، فإني ما زلت لا أفهم مع ذلك غياب الاهتمام بالترويج لترجمة الأدب المصري والأعمال المصرية إلى اللغات الأخرى، رغم اهتمام عدد لا بأس به من الناشرين الأجانب بترجمة الأدب العربي. غاب الترويج للأدب المصري العربي تمامًا عن رؤية المؤسسات الثقافية المصرية وتركت هذه المهمة ليتولاها ناشرون أجانب في الدول الأخرى، واكتفينا نحن في مصر بانتقاد وإدانة دور النشر الأجنبية والوكلاء الأدبيين لأنهم لم يهتموا بالأعمال الفكرية التي نرى نحن من وجهة نظرنا هنا في مصر ومن موقعنا كقراء مصريين إنها الأفضل لقراء آخرين في مكان آخر من العالم، وننسى أو نتناسى إن دور النشر الأجنبية التي تترجم الكتب العربية دور قائمة على الربح، لأنها دور نشر خاصة وليست حكومية، ولهذا فمن حقها تمامًا أن تختار تلك الأعمال التي ترى أنها قادرة على تسويقها وقادرة على جذب انتباه القراء في هذا السياق المختلف، وهم قراء لهم خلفية ثقافية مختلفة، ويختلف بالتأكيد ما يثير اهتمامهم ويجذبه. والأعجب من ذلك أنه لا أحد من منتقدي دور النشر الأجنبية أو المؤسسات والمراكز الأجنبية التي تهتم بترجمة الأدب العربي، يوجه هذا الانتقاد الحاد إلى المؤسسات الثقافية الحكومية في مصر والتي من المفترض أن يكون هذا هو دورها، وأن تعمل هي على الترويج والتسويق للأدب العربي المصري والكتب الفكرية، فإذا كان هناك من يجب أن يعمل على الترويج للأعمال الأدبية والفكرية المصرية، فهي المؤسسات الحكومية المصرية، وإذا كان هناك من يجب أن يُنتقد لتقصيره في نشر هذه الأعمال في الخارج أو لإغفال أعمال مهمة لم تترجم إلى اللغات الأخرى، فهي المؤسسات الحكومية في مصر التي اكتفت بالترجمة إلى العربية بدلاً من تقديم برامج دعم وتسويق للأعمال الفكرية المصرية ووضعت هذا الهدف جنبًا إلى جنب مع الترجمة عن اللغات الأخرى.
والأغرب أيضًا هو إن هذه المؤسسات لا توفر حتى المعلومات الكافية عن الكتب المصرية باللغات الأجنبية، وهذا أقل ما يمكن أن تقوم به، ويبذل الناشرون الأجانب جهدًا كبيرًا للحصول على أي معلومات عن الكتب المنشورة في مصر بلغة غير العربية، ولا يجدون المعلومات الكافية في معظم الأحوال، فكيف نلوم على الناشرين الأجانب اختياراتهم في حين إننا لا نقوم حتى بدور صغير من أجل الترويج لأعمالنا الفكرية، بل إننا لا نخاطبهم من الأساس؟ وأنا هنا لا أتحدث عن برامج دعم الترجمة إلى اللغات الأخرى كما تفعل دول أخرى، بل أتحدث فقط عن توفير المعلومات الذي يبدو أنه أمر شديد الصعوبة لسبب غير مفهوم ويعكس غياب دور الدولة في المجال الثقافي بشكل كاشف. ولكن إذا كانت الدولة قد قررت أن تتخلى عن دورها الأصلي في مجال الثقافة عن طيب خاطر فلماذا تصر على أن تلعب دورًا آخر غير دورها الأصلي وتنافس دور النشر الخاصة في صناعة النشر بدلاً من تقديم الدعم وإنشاء مكتبات عامة وإتاحة الكتب المصرية وغير المصرية فيها ؟ والغريب أن الترجمة للعربية قد أصبحت إحدى وسائل وأدوات المؤسسات الثقافية الحكومية للربح. فهل أصبح الربح المادي هدفًا لهذه المؤسسات متناسية أن دورها يجب أن يكون خدميًا وداعمًا وحاميًا للثقافة وليس منتجًا للتعبيرات الثقافية. وهل من المعقول إن نقرأ على موقع المركز القومي للترجمة إن من أهداف المركز أن يتحول إلى مركز استثماري وأن هدف المركز هو « الانتقال من مرحلة الاعتماد على الدعم المالي من الدولة إلى تحقيق معدلات كافية من الدعم وذلك بالتحول التدريجي بالمركز إلي مشروع استثماري، يغطي نفقات تشغيله من بيع الكتب المنتجة من ناحية ويحقق أرباحًا بزيادة فاعلية التوزيع والتسويق من ناحية ثانية، وأداء خدمات الترجمة بالأجر للمؤسسات والهيئات القومية والعالمية من ناحية أخرى».
وهنا أتساءل عن الرؤية التي تحكم المؤسسات الثقافية الحكومية المعنية بالترجمة، فهل التوزيع والربح هو الأساس الذي أنشئت لأجلهما هذه المؤسسات كي «تغطي نفقات تشغيلها» وتحقق الربح أم إن «نفقات تشغيلها» كمؤسسة حكومية تُحسب وفقًا لما تقدمه من خدمة، والربح يترجم وفقًا للدعم والإتاحة وهو دور من المفترض ألا أحد يستطيع القيام به غيرها. وهل دور المركز ترجمة الكتب وبيعها، أم أن هذه مهمة يمكن أن تقوم بها دور نشر خاصة ويقدم المركز لها الدعم المناسب في حالة ترجمة كتب لا تحقق أرباحًا كالكتب الفلسفية والأكاديمية؟ وإذا قام المركز بالتركيز على الربح، فإلى أين سوف ينتهي به المطاف؟ هل سينتهي به المطاف إلى شكل مشوه مختلط بين النشر الخاص الذي تحكمه آليات الربح والخسارة والنشر الحكومي الذي من المفترض إنه لا يعمل وفقًا للربح؟ أعتقد أن مشكلة غياب رؤية متكاملة لدور المؤسسات الحكومية هي العقبة الرئيسية أمام صناعة النشر ومن ثَم الترجمة. فقد كان من الأفضل أن تترك دور النشر الحكومية مهمة النشر وخاصة نشر الكتب المترجمة لدور النشر الخاصة ولا تنافسها في ذلك، وكان من الأفضل للقراء ولصناعة النشر أن تتجه المؤسسات الثقافية الحكومية إلى ما تقوم به المؤسسات الثقافية الحكومية في كل العالم: الترويج للمنتج الثقافي المحلي في الخارج والداخل ودعم المنتجين الثقافيين.
في مصر نحن في وضع يستقبل الترجمة عن اللغات الأخرى، ولا نروِّج لترجمة الكتب العربية المصرية مثلما يفعل العديد من الدول الأخرى
من الأفضل أن تترك دور النشر الحكومية مهمة النشر وخاصة نشر الكتب المترجمة لدور النشر الخاصة ولا تنافسها في ذلك
والغريب أن الترجمة للعربية قد أصبحت إحدى وسائل وأدوات المؤسسات الثقافية الحكومية للربح. فهل أصبح الربح المادي هدفًا لهذه المؤسسات متناسية أن دورها يجب أن يكون خدميًا وداعمًا وحاميًا للثقافة وليس منتجًا للتعبيرات الثقافية