عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

ناثان جوسدورف

موازنة ممداني قد تُحدث الفارق

2025.11.08

موازنة ممداني قد تُحدث الفارق

 

يواجه العمدة الاشتراكي الجديد لمدينة نيويورك [i] قيودًا مالية حقيقية، لكن أمامه أيضًا فرصًا حقيقية. فبفضل قاعدة ضريبية قوية، وإصلاحات معقولة، وتفويض سياسي واضح، يمتلك زهران ممداني الأدوات التي تتيح له أن يحكم بثقة وكفاءة.

بالنسبة إلى إدارة ممداني، فإن النجاح لن يكون مجرد إدارة فعالة لآلة الحكم في المدينة، بل القدرة على تحويل جزء ملموس من أجندته التقدمية إلى واقعٍ سياسي.

فمدينة نيويورك معروفة بصعوبة إدارتها، إذ يعمل في جهازها البلدي المتشعب أكثر من 300 ألف موظف يخدمون 8.5 ملايين من السكان الذين اشتهروا بصرامتهم في الحكم على عمدتهم. وتزداد المهمة تعقيدًا مع قائمة ممداني الطموحة من المقترحات التي تشمل النقل المجاني بالحافلات، والرعاية المجانية للأطفال، وتجميد الإيجارات، وبناء وحدات جديدة للإسكان الميسّر، وكل ذلك بتمويل من ضرائب تُفرض على الأغنياء.

العقبات السياسية أمام تنفيذ أجندة ممداني معروفة على نطاق واسع. ففي ألباني، ستصطدم خططه إلى حد بعيد بحاكمة الولاية كاثي هوكول، وهي ديمقراطية وسطية دأبت على معارضة فرض ضرائب على الأغنياء. أما في واشنطن، فثمة الرئيس دونالد ترامب، الذي قد يستغل سلطات الحكومة الفيدرالية لإضعاف الإدارة الجديدة، سواء عبر حجب التمويل، أو تكثيف وجود شرطة الهجرة والجمارك في شوارع المدينة، أو إيجاد سبل أخرى لجعل الحياة في نيويورك أكثر صعوبة.

لكن التحديات الاقتصادية والمالية التي ستواجه الإدارة الجديدة لا تحظى بالفهم الكافي، رغم أنها تتطلب حلولًا سياسية واقعية وقدرًا من الحنكة في إدارة الأزمات. وفهم آفاق نجاح ممداني يتطلب جولة موجزة في ميزانيتي ولاية نيويورك ومدينة نيويورك. فعلى خلاف السياسات الفيدرالية التي تسمح للحكومة المركزية بتمويل العجز وتنظيم الاقتصاد الوطني، فإن السياسات على مستوى الولايات والمدن تدور أساسًا حول الموازنة: إيرادات محدودة يجب توزيعها بحذر. فالقوانين تُلزم هذه الكيانات بتوازن ميزانياتها، كما أن فشلها في ذلك قد يقود إلى أزمات مالية حقيقية إذا لم تكفِ الإيرادات الضريبية لتغطية النفقات. ورغم أن ممداني اقترح حزمة من الضرائب لتمويل مشاريعه، فإن نجاحها، حتى لو أُقرت قانونيًّا، يظل مرهونًا بالوضع المالي العام الذي سيرثه.

تمثل الميزانيات محور السياسات المحلية، لأن الحكومات المحلية هي التي توفر معظم الخدمات التي يستخدمها الناس يوميًّا: التعليم، والشرطة، والنظافة، والمواصلات. وفي الواقع، لا تكاد توجد قضية محلية كبرى لا تتصل بالميزانية على نحو أو آخر. فتمويل المستشفيات والمدارس العامة والشرطة وموظفي القطاع العام ودعم الإسكان الميسّر كلها تُحسم في الموازنة. واليوم، بات الإنفاق الحكومي للولايات والمدن مجتمِعًا يقارب حجم ميزانية الحكومة الفيدرالية الضخمة نفسها. ففي عام 2024، أنفقت الحكومة الفيدرالية 6.8 تريليونات دولار، بينما أنفقت الولايات والمدن مجتمعة 4 تريليونات دولار، ومع ذلك لم يُموّل من الضرائب الفيدرالية سوى 4.9 تريليونات دولار. بمعنى آخر، إن الإنفاق العام الممول من الضرائب في الولايات المتحدة بات موزعًا تقريبًا بالتساوي بين الحكومة الفيدرالية وبين حكومات الولايات والمدن.

وعلى عكس ما يظنه كثيرون من اليسار، فإن الجزء الأكبر من هذا الإنفاق العام يُوجَّه إلى سياسات اجتماعية مطلوبة، وليس إلى السجون أو الشرطة أو الجيش. فمن أصل ميزانية اتحادية بلغت 6.8 تريليونات دولار للسنة المالية 2024، جرى إنفاق 3 تريليونات -أي 44 في المئة- على برامج «ميديكير» و«ميديكيد» والضمان الاجتماعي. أما ميزانية ولاية نيويورك التشغيلية لعام 2025 البالغة 134 مليار دولار، فقد خُصص منها 67 مليارًا للتعليم العام و«ميديكيد». وتشمل بنود الإنفاق الرئيسية الأخرى رواتب موظفي الوكالات الحكومية وجامعة ولاية نيويورك، إضافة إلى النقل والصحة النفسية والخدمات الاجتماعية. وفي ميزانية المدينة الحالية البالغة 116 مليار دولار سنويًّا، يذهب 35 مليارًا إلى وزارة التعليم، و15.5 مليارًا إلى الخدمات الاجتماعية. وحتى إدارة شرطة نيويورك -وهي من أكبر بنود الإنفاق الفردية- لا تمثل سوى 6 في المئة من الميزانية، أي نحو 7 مليارات دولار سنويًّا.

كل هذا يعني أنه لا توجد طرق سهلة لخفض النفقات الحالية. بل إن الأمر سيزداد صعوبة مع ارتفاع تكاليف البرامج القائمة سنويًّا لتغطية زيادات الأجور المقررة لموظفي القطاع العام. لذلك ستكون التحديات الأولى والأهم أمام ممداني، قبل أي إنفاق جديد على النقل أو رعاية الأطفال أو بناء المساكن، هي إدارة هذه المفاضلات والحفاظ على توازن الميزانية.

موازنة المدينة

قبل أن تباشر الإدارة الجديدة عملها، سترتفع أصوات تحذر من أن ميزانية المدينة غير متوازنة أصلًا. فمنذ أزمة 1975 المالية، تعتمد مدينة نيويورك وولاية نيويورك أسلوب «الخطة المالية الأربع سنوات» الذي يتنبأ بالإيرادات والنفقات المستقبلية. وعادة ما تلجأ مكاتب الموازنة إلى التقليل المتحفظ في تقدير الإيرادات المستقبلية، ما يجعل التوقعات تظهر كأن النفقات تنمو أسرع من الإيرادات، بحيث تعجز المدينة أو الولاية لاحقًا عن تغطية مصروفاتها. وفي ميزانية بحجم 116 مليار دولار، فإن أي انحراف بسيط في معدل نمو الإيرادات المتوقع يمكن أن يُحدث فرقًا بمليارات الدولارات خلال ثلاث سنوات فقط. ولهذا تشير الخطة المالية الحالية لمدينة نيويورك إلى أن نفقات المدينة ستتجاوز إيراداتها بمقدار 17 مليار دولار بين العامين الماليين 2027 و2029، وهو رقم سيُستخدم للقول إن على ممداني خفض النفقات بدل التفكير في برامج جديدة.

لكن هذه «الفجوات» المتوقعة نادرًا ما تتحقق فعليًّا، كما يوضح بحث «معهد السياسات المالية». فعند التفاوض على الموازنة، يجري عادة تحديث التوقعات بإيرادات أكثر واقعية تُظهر أن المدينة قادرة على تغطية نفقاتها الجارية. وتشير الأعوام الأخيرة إلى أن ميزانية المدينة متوازنة هيكليًّا ما لم يحدث ركود اقتصادي كبير.

ومع ذلك، تنتظر الإدارة الجديدة تحديات حقيقية خلّفها تردد إدارة إريك آدامز السابقة في تنفيذ بعض السياسات التقدمية القائمة. فالقانون الصادر عام 2022 لتقليص أعداد الطلاب في الفصول الدراسية سيتطلب توظيف أكثر من 14 ألف معلم إضافي بتكلفة تقدر بمليار دولار بحلول عام 2028. كما يُتوقع أن تكلف برامج قسائم الإسكان الطارئ مثل «CityFHEPS» مليار دولار إضافي فوق المخصصات الحالية، وقد تصل التكاليف إلى مليارات أخرى إذا توسعت معايير الأهلية. أما تجميد التوظيف الذي استمر طوال فترة آدامز فقد ترك نحو 15 ألف وظيفة شاغرة، ما وفر أكثر من مليار دولار سنويًّا، لكنه أضعف معنويات القوة العاملة في المدينة وأثر في كفاءتها.

هذه التحديات المالية جدية، لكنها ليست مدعاة للتشاؤم. فأساس المدينة الضريبي قوي، وتزداد إيراداتها سنويًّا بفضل ارتفاع دخول سكانها، مدعومة باستمرار ازدهار قطاع الأوراق المالية. ورغم ميل المحافظين الماليين إلى استحضار شبح أزمة السبعينيات، فإن تلك الأزمة نشأت حين كانت المدينة تعتمد على اقتراض قصير الأجل لتغطية نفقاتها الجارية. أما اليوم، فإن المدينة والولاية تحققان فائضًا سنويًّا وتغطيان نفقاتهما من الإيرادات الحالية.

تأثير التخفيضات الفيدرالية

تتعقد الصورة أكثر على مستوى الولاية. وكما هو الحال في المدينة، تميل توقعات ميزانية الولاية إلى التقليل من الإيرادات المستقبلية، ما يؤدي إلى تقارير إعلامية عن «فجوة» تبلغ 26.8 مليار دولار، وهي غالبًا فجوة تقديرية تزول ما لم تقع أزمة اقتصادية.

ومع ذلك، تواجه ألباني تحديًا حقيقيًّا بسبب التشريع الفيدرالي الجديد المعروف باسم «قانون الفاتورة الواحدة الجميلة (OBBBA)»، الذي خفّض الضرائب الفيدرالية بمقدار 4.5 تريليونات دولار خلال عشر سنوات، ممولًا ذلك من خلال زيادة العجز وخصم 1.1 تريليون دولار من برامج «ميديكيد» و«المساعدات الغذائية (SNAP)».

هذه التخفيضات ستنعكس مباشرة على نيويورك، إذ تُقدّر الولاية خسارتها من التمويل الفيدرالي بنحو 4.5 مليارات دولار سنويًّا، معظمها نتيجة إلغاء دعم التأمين الصحي للمهاجرين المقيمين بصفة قانونية. وقد تكون الخسائر الحقيقية أعلى بعدة مليارات، بسبب أساليب احتساب تقلل من حجم الفاقد الفعلي.

لحسن حظ إدارة ممداني، فإن هذه التخفيضات لن تمس مباشرة التمويل الفيدرالي السنوي المخصص للمدينة والبالغ 7 مليارات دولار. لكن إذا عجزت الولاية عن ضبط موازنتها، فقد تعوّض خسائرها بتقليص الـ19 مليار دولار التي تحولها سنويًّا إلى المدينة. لذا سيكون أحد أهم أولويات ممداني الضغط سياسيًّا على حكومة الولاية لمنعها من تمرير آثار تخفيضات «OBBBA» إلى البلديات عبر خفض الإنفاق.

الضرائب ضرورة لا مفر منها

يمكن تجاوز هذه الصعوبات، لأن اقتصاد المدينة والولاية قوي بما يكفي لزيادة الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة والمتوسطة العليا. غير أن تنفيذ هذه السياسة يعني مواجهة نفوذ حركة اليمين المتطرفة المناهضة للضرائب، التي نجحت خلال عقود في فرض سلسلة من التخفيضات الضريبية للأثرياء وأدت إلى تضخم العجز الفيدرالي.

حتى تركيز الديمقراطيين المحدود في فرض ضرائب على المليارديرات يعكس مدى نجاح تلك الحركة في تغيير الخطاب السياسي. فتمويل البرامج الاجتماعية الديمقراطية مكلف، ويقتضي مساهمة أوسع من جميع الشرائح. وكان جزء من إستراتيجية قانون OBBBA منح تخفيضات ضريبية كبيرة للأثرياء وليس فقط للمليارديرات. ولهذا كان القانون باهظ التكلفة إلى درجة فرض تقليصات قاسية في الإنفاق. فهناك ببساطة عدد أكبر من «الأمريكيين الميسورين» من المليارديرات. إذ يحصل أعلى 20 في المئة من أصحاب الدخل -الذين تتجاوز دخولهم 120 ألف دولار سنويًّا- على 70 في المئة من فوائد التخفيضات الضريبية. بينما يذهب تريليون دولار من أصل 4.5 تريليونات إلى أعلى 1 في المئة من الأغنياء. ومع ذلك، فإن جذور أزماتنا المالية تكمن في رفضنا الإقرار بالحاجة إلى نظام ضريبي واسع النطاق لتمويل البرامج الاجتماعية.

يشير قانون OBBBA إلى تحوّل محتمل في السياسة المالية الأمريكية، إذ ستُجبر الولايات على الاختيار بين رفع الضرائب -وهو أمر مكروه حتى لدى معظم الديمقراطيين- أو مواجهة أزمة اجتماعية مزدوجة تتمثل في تصاعد الجوع وفقدان التأمين الصحي. وإذا تم الاعتراف بهذه الحقيقة، فسيكون في وسع ولاية نيويورك استعادة جزء من التخفيضات التي حصل عليها الأثرياء بفرض ضرائب إضافية تغطي خسائر الدعم الفيدرالي. ولن يفرّ الأغنياء من الولاية كما يُشاع، فالإحصاءات تظهر أن أعلى 1 في المئة من سكان نيويورك هم الأقل حركة مقارنة ببقية الشرائح، وإن غادروا فهم غالبًا ينتقلون إلى ولايات مرتفعة الضرائب مثل نيوجيرسي وكاليفورنيا.

تمويل مقترحات ممداني

ستعتمد أجندة الإدارة الجديدة على قدرتها على تجاوز هذه التحديات. ويتطلب ذلك قدرًا عاليًا من الانضباط المالي، مقرونًا بإدراك أن هذه العقبات قابلة للإدارة ما دمنا نستطيع تجاوز «فوبيا الضرائب».

إذا استقر الوضع المالي، فإن تمويل خطة ممداني يبدو واقعيًّا. فالنقل المجاني بالحافلات سيكلّف نحو 700 مليون دولار سنويًّا، وهو مبلغ يعادل تقريبًا الإيرادات التي ستُفقد من أجور التذاكر. أما الرعاية المجانية للأطفال فهي المقترح الأكثر تعقيدًا ماليًّا، إذ تتراوح تقديرات تكلفته بين 2.5 و6 مليارات دولار سنويًّا بحسب معدلات الإقبال ومستويات الأجور. ولا يكلّف تجميد الإيجارات المدينة مباشرة، لكنه سيتطلب دعمًا للمباني المؤجرة لتجنّب تدهورها. أما خطة بناء 200 ألف وحدة سكنية جديدة عبر اقتراض 70 مليار دولار، فستُموَّل بمزيج من أدوات الدَّين على مدى سنوات عدة، ما سيرفع تكاليف خدمة الدَّين بنحو 3 مليارات دولار سنويًّا.

وستُغطى هذه النفقات من خلال الزيادات الضريبية التي يقترحها ممداني، والتي يُتوقع أن تدرّ 10 مليارات دولار سنويًّا. وستبرز حتمًا معضلة بين استخدام هذه الضرائب لتغطية آثار قانون OBBBA على البرامج القائمة أو لتوسيع البرامج الجديدة. لكن اقتصاد المدينة والولاية قوي بما يكفي لتحمل العبء الضريبي. وستكمن الصعوبة في أمرين: إدارة المفاضلات بين أولويات السياسات التقدمية المتنافسة، وتحدي الخطاب المناهض للضرائب الذي يعوق تبني سياسة مالية اجتماعية ديمقراطية.

غير أن نجاح ممداني في إظهار أن عمدة اشتراكي يمكنه إدارة أعقد مدينة في البلاد دون انهيار مالي، لن يعني فقط توفير الحافلات المجانية، بل سيعيد رسم حدود الممكن سياسيًّا واقتصاديًّا في الولايات المتحدة.


[i] نشر في Jacobin بتاريخ 7 نوفمبر.